*الفاهم محمد
كلنا نلاحظ اليوم تضخماً كبيراً في خطاب الحب، كما تعرضه علينا ثقافتنا المعاصرة في القصائد والأغاني والموضة… إلا أن الحب يتخذ اليوم شكل تجارب حسية عشقية تميز عواطف المجتمعات الصناعية، فنتيجة الاختزال الشديد للعواطف في الغرائز، واختزال كل طرف للطرف الآخر في التمثل الحسي، لم تصنع هذه الحضارة سوى الانحرافات والأزمات النفسية والعاطفية.
من الصعب الوصول إلى وصف نظري شامل لهذه الإحباطات التي يعرفها الحب اليوم. لكن رغم أهمية هذا الأمر إلا أن هدف هذا البحث ليس الدخول في سيكولوجيا الحب، فهذه المسألة وضعت فيها تآليف كثيرة، خصوصا من طرف علماء النفس. إن ما نطمح إليه هنا هو بالأحرى وصف الانقلاب الكبير الذي عرفته هذه العاطفة بالنسبة للإنسان المعاصر، بالتركيز على شكل هذا الحب الذي يجعل الإنسان (مطلق) ذاته، بحيث يكون كل تعالٍ باتجاه الذات نفسها، فالتضحيات البطولية والانفعالات المبالغ فيها، والتعلقات التي تأخذ شكل إلزامات عاطفية، أو عهود ومواثيق ضمنية، كلها رفعت الحب في الأزمنة المعاصرة من مجرد تجربة عاطفية، لكي يكون نظاماً أخلاقياً بديلاً.. وطبيعة هذه الأخلاق الجديدة هي ما ينبغي مساءلته.
لا يركز هذا البحث، على طرق التودد العديدة التي عرفها الإنسان عبر التاريخ، بل على شكل محدد من الحب تمتاز به حضارتنا، وهو حب حبيس لتمزقات نفسية وغرائزية في الآن ذاته، تعبر عن الاضمحلال الذي يعيشه الكائن المعاصر.
![]() |
![]() |
والسؤال: هل بإمكان الحب كما يفهمه ويمارسه الإنسان اليوم أن يفضي إلى تجربة تعال حقيقية؟ كيف لعبت تحولات الرغبة دوراً في ظهور أشكال متغايرة للطبائع والكينونات البشرية؟ أين تتجلى أزمة الحب العاطفية والاجتماعية معاً؟
تحولات الرغبة
عبر تاريخ الوجود الإنساني ظل الحب دوما تجربة أساسية، ترفع الكائن البشري درجة لملامسة ما يخص إنسانيته ويميزها، غير أنه ومنذ الأزمنة المعاصرة انقلبت مواقع هذه العاطفة وتغيرت دلالاتها، إذ لم يعد تجربة عاطفية تفضي إلى لقاء الآخر المكمل للذات وتكوين وحدة مكتملة معه {أفلاطون}. أصبحنا بعيدين كل البعد عن الأيروس الجمالي الأفلاطوني، الذي يلعب دور الوسيط بين الطبيعة البشرية والإلهية، ذلك أن الحب أصبح هدفا في حد ذاته، بعد أن تم خفضه إلى مجرد متعة غرائزية.
ابتعد الحب كذلك عن أن يكون تحاباً l›aimance مفضياً إلى أوضاع اجتماعية وعلاقات صداقية داخل المجتمع، أو ما كان يدعوه أرسطو ب (فيليا- philia)، أي ذلك الحب الذي هو عبارة عن تودد وقبول للآخر وانفتاح عليه خارج أية رغبة عشقية جنسية. ولا حتى عن ذلك الحب المسيحي الذي يدفعنا إلى حب الإنسانية جمعاء، بل حب الأعداء والمخالفين لنا، وهو الحب الذي يعرف تحت مصطلح (أغابي – Agapé).
يتساءل لوك فيري مشككا: «هل يمكن للعواطف التي يوحي بها الهيام والولع أن تؤسس علاقات دائمة؟ أليست بطبيعتها غير قادرة على ذلك إلى حد أن لا شيء متين يمكن أن يقوم عليها؟» (1). جواب فيري قد يكون استثناء بالنسبة للفكر المعاصر وللفلسفة الفرنسية بالخصوص، التي اعتادت الدفاع عن كل ما ينفلت من السلطة والعقل. فالزواج المبني على الحب بالنسبة للكاتب يحمل في ذاته أسباب فشله لأنه باقتصاره على العاطفة وحدها وإغفاله «للدوافع التقليدية» سواء كانت اقتصادية أو عائلية فإنه ينجر إلى ما يسميه فيري بـ «استنزاف الرغبة « (2).
![]() |
![]() |