*أمير تاج السر
من الأشياء الجيدة التي تحدث لي حين أزور الديار في كل عام، هي أنني ألتقي بأشخاص عديدين قد أكون عرفتهم ذات يوم، وربما استقيت منهم بعض الملامح التي أضفتها إلى شخوص ظهروا عندي، أو لعلهم كانوا معاصرين لذكريات كثيفة أو قليلة، ويكون بإمكاني استعادتها معهم، ولأن الديار أو الأوطان، في النهاية هي المنبع الرئيسي للحكايات، والثدي الأول الذي يرضع من حليب أجوائه المبدع حين يتعرف إلى الإبداع، تصبح مثل تلك الزيارات السنوية إليها، ضرورة ملحة، لا ترفا كما يظن كثيرون، غادروا أوطانهم لسبب أو لآخر، ولم يعودوا أبدا.
بالطبع يمكن للمبدع الكاتب أو الشاعر أو حتى الرسام أن يستوحي أجواء متعددة من بلاد أخرى عاش فيها أيضا، أو مرّ بها عابرا ذات يوم، وافتتن بها، هذا شيء مشروع بالطبع وموجود في كل الثقافات، وثمة من يكتب عن البلاد البديلة أكثر من بلاده نفسها، ويأتي بشخصيات متميزة من أماكن يزورها لأول مرة، وتجربة مثل تجربة الإيطالي الراحل أنطونيو تابوكي على سبيل المثال جديرة بتأملها، حين نرى أجواء كثير من نصوصه مرتبطة بالبرتغال التي لم تكن بلاده طبعا، وعاش فيها فترة من عمره، وهناك كتاب عرب، عاشوا في فرنسا وبريطانيا وأمريكا، ونجدهم تأثروا بأجواء سكناهم الجديدة وكتبوها نصوصا جيدة، وهناك تجربة الزميلة ليلى أبو العلا، صاحبة رواية «المترجمة، والمئذنة»، التي تكتب الرواية في جو بريطاني بكل ثبات، وفي الوقت نفسه تكتب روايات عن بلادها الأصلية، بثبات آخر. وأيضا جمال محجوب الذي استوحى من التاريخ السوداني، وفي الوقت نفسه كتب عن مهجره بسخاء.
لقد كانت مدينة طوكر، التي تقع في شرق السودان، وتقترب من حدود إريتريا، وتحوي قبائل وأعراق مختلفة، وكانت في ما مضى من المدن السودانية المهمة بحكم أنها بورصة عالمية للقطن، كانت من المنابع التي تأثرت بها كثيرا في بداياتي، تأثرت بجوها العام الذي نصفه غموض ونصفه أساطير وفيه كثير من الوقائع التي تشبه الأساطير.
لقد كنت في البداية أوثق بالكتابة لشخصيات مهمة على المستوى الإنساني والاجتماعي في ما سميته سيرة الوجع آنذاك، ثم ما لبثت أن استهوتني تلك الشخصيات نفسها، وتمدد بعضها في نصوص روائية، ليس الشخصيات الواقعية بكل تفاصيلها بالطبع وإنما الهياكل العامة التي يمكن أن يكسوها الخيال لحما جديدا، وعلى الرغم من ذلك تظل النكهة الأصلية موجودة، بحيث يتذوقها من يعرف تلك الشخصيات بدون أن يوقن أنها هي نفسها. ولطالما ذكرت بأنك لا تستطيع أبدا أن تكتب الواقع كما هو، وتدعي أنك كتبت أدبا، فما دام هو أدب، فهو واقع وشيء آخر غير الواقع، وهذا الملمح الضروري في الكتابة، هو أيضا ملمح عام في الإبداع، واللوحة التي تم نقشها بوحي من الطبيعة تظل لوحة تشبه الطبيعة لكنها ليست هي، والتي أطرت لملامح إنسان ما، تظل لوحة فنية، لن تكون هي الإنسان الذي أوحى بها.
في مدينة بورتسودان، التقيت بالأخ تاج السر أونور، وكان من أبناء مدينة طوكر التي قلت بأنها من منابع البدايات، كانت فرصة عظيمة لتقصي تلك المدينة الصغيرة التي تركتها ملتمة بأعراقها المختلفة، وتحيا بأمان. كان فيها كبار يلمون الأحداث السيئة قبل أن تتفاقم، يلمون القبائل تحت سيف الكلمة الذي يقطع كل نية تبدو لغما أو رصاصة، وأيضا فيها أشخاص تعلموا، وعادوا ليمسكوا بزمام التعليم هناك، ويبثون ما تعلموه لغيرهم، وفي أواخر أيامي هناك، حاولت السلطة المركزية في الخرطوم، أن ترتقي بالخدمات في تلك المدينة وما حولها من قرى صغيرة وكبيرة، وكان أن تمت تسميتها محافظة، وطورت فيها خدمات الشرطة والجيش والتعليم، والقضاء الذي كان يمسك به القبليون، وفيهم قضاة غير متعلمين لكنهم يملكون الحكمة التي تبدو أحيانا قانونا سلسا، وفاعلا.
أذكر أن المحافظ جاء، وقادة العمل الجدد جاءوا، واحتشدت البلدة بالغرباء الذين ملأوا السوق ومكاتب الحكومة التي كانت فارغة من قبل، وحتى البنوك وصل منها موظفون لتقديم خدمة القروض للمزارعين، وتحول المكان، كما أذكر إلى نص سحري كبير، كانت قراءته ممتعة، وتلك كانت من قراءاتي التي استمتعت بها كثيرا، أتابع الغرباء في تجوالهم، وأرى تفاعل القرويين معهم، واختزن الحوادث والمواقف بحلوها ومرها.
تاج السر أونور، ما زال على صلة بالمدينة البعيدة، ويداوم على زيارتها، ويعرف بعض شخوصي الذين استقاهم من الروايات وسيرة الوجع، ويوقن أنهم الأشخاص الذين يعرفهم وعاش مع بعضهم، وأخبرني في ثبات العارف فعلا، برحيل عدد من الأشخاص المهمين هناك، ويعرف أنني أحببتهم، وصادقتهم، وربما كانوا خامات تنتظر أن تظهر في نصوص ذات يوم. لقد رحل عدد من وجهاء طوكر، رحلوا بامتداد الزمن من لحظة أن فارقتهم إلى الآن، وكان بعضهم كهولا حين تركت البلدة، ولكن يظل الأمر مؤلما حقا، وتظل نكهة البلدة مختلفة.
لقد ذكرته بالسوق ومطعم عبد الحليم، أو المطعم المفخخ كما أسميه، وبعض الحسناوات اللائي كن معضلات كبرى في تلك الأيام، ودخلن من باب الحسن إلى الصراعات القبلية على الجمال، لكن كل ذلك ذهب، فلا مطعم مفخخ نرتاده ليلا للعشاء، والثرثرة، ولا تاجر شمالي واسع الصدر مثل أحمد حداد وعبد الله حداد، نحتشد على دكة أمام دكانه لنشرب القهوة في أي وقت، ولا حتى مستشفى بالمواصفات القديمة تلك، نجري فيه عملية معقدة بإمكانيات شحيحة ومؤلمة.
على الرغم من كل ذلك سعدت بالحديث مع الرجل، واعتبرته حديثا شيقا، وعلى الأقل كنت أوثق للمكان بدون قصد للتوثيق، وكنت أكتب الحكايات ولا أدري أنها ستكون حكايات بعيدة للأجيال الجديدة التي وجدت في البلدة، وربما لن يصدق أحد أبدا قصة الممرض الذي سميته سكيورتي، والسائق هيصة الذي كان يرأس عمليا مدير المؤسسة التي كان يعمل بها، ومحمد آدم الذي كان جارا لنا في سكن عشوائي يحيط بالمستشفى، وحين ينام يقلق شخيره العالي جدا، كل بيوت تلك المنطقة.
الأدب يوثق، وأحيانا يكون أفضل من التاريخ في رصده لأحداث بعيدة.
إنها قناعة طالما آمنت بها.