ثقافة التأمل الخلَّاق

*محمد الأسعد

ينبّه الفيلسوف الفرنسي «موريس ميرلو – بونتي» (1908- 1961) قرَّاءه إلى «أن الصمت مطلوب هنا». جاء هذا التنبيه في آخر سطر من سطور كتابه، «علم ظواهر الإدراك»، بعد تحليلات مطولة للكيفية التي يمنحنا فيها الإدراك المحسوس نوعاً من مدخل آخر إلى العالم. في هذا التنبيه يثمّن الفيلسوف الصمت، ويقول لقرائه: إن المطلوب كتوطئة لفعل حقيقي ذي معنى هو، أن يتوقفوا، أن يصغوا، أن يقيموا في الصمت الذي يتخلل العالم. لأن وظيفة فلسفة ظواهر الإدراك بالنسبة له هي أن تعيدنا إلى عالم الحياة الأصلي والبدائي؛ أي العودة إلى الأشياء في صمتها السرمدي، وهنا يشف العالم عن معناه في زوال الثنائية بين الذات والموضوع. الإنسان موجود في العالم، وفي هذا العالم يتعرف إلى نفسه وداخله، والحقيقة التي يبحث عنها هي جزء منه، والعالم لا يدرك بالعقل، بل بعيش الإنسان فيه ومشاركته في وجوده من دون تملكه.
هنا تثمين للصمت، أو إنشاء لثقافة صمت مختلفة عمّا تشيعه من دلالات تعابير مثل «مؤامرة الصمت» أو «ثقافة الصمت» أو «صمت الثقافة» التي تعني إجماع فئة أو جماعة من الناس على ألّا تشير إلى أمر من الأمور أو تناقشه أو حتى أن تعترف بوجوده، إما بدوافع إيجابية كأن يكون هذا الإجماع نابعاً من تضامن بين أفراد هذه الجماعة أو بدوافع سلبية؛ كأن يكون الإجماع نابعاً من الخوف من التبعات السياسية أو العزلة الاجتماعية وما إلى ذلك، وصولاً إلى ما يشبه التآمر الجماعي كما تلخصه كلمة «أوميرتا» الرمزية الإيطالية التي تعني، وخاصة في أوساط منظمات الجريمة المنظمة مثل المافيات، أن على أي فرد من أفرادها أن يحافظ على صمت مطلق حين يجري استجوابه بشأن أنشطة المنظمة غير المشروعة.
في أغلب هذه الحالات تفرض «ثقافة الصمت» نفسها أو تفرض على الأغلبية العظمى من أفراد مجتمع، أو عليه بأكمله، وتتحول إلى تقاليد تسحق قدرة أفراده على التفكير، أو حتى إدراك قيمة حرية الفكر، وتظل عبارة «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب» تتردد أصداؤها من المهد إلى اللحد. وحين يرافق هذا ما يمكن أن نسميه «صمت الثقافة»، يفقد إنسان هكذا مجتمع فاعليته، بل وثقته بجدوى أي فعل أو فكر، ما دامت الفئة المثقفة تخلت عن وظيفتها المعتادة في التنوير والتثقيف، وتوجيه بوصلة الوعي، وتحرير المخيلة، وتخلت حتى عن قراءة المسكوت عنه في الخطابات الرائجة.

وستكون الخسارة فادحة إذا عرفنا أن آلية إنشاء المعنى، معنى العالم، ومعنى الإنسان والأمة، ليست نشاطاً مفاهيمياً فردياً، بل هي نشاط ناجم عن حالة حوار بين الناس، يحدث في كل مجال من المجالات المتخصصة، مثلما يحدث في ميادين الحياة اليومية. وإعطاء معنى لكل ما ذكرنا وما لم نذكر، هو نشاط متواصل لا ينشأ فيه المعنى من تصنيفات أو معتقدات جاهزة مسبقاً، بل ينشأ بيننا في حديثنا، ورداً على أحداث فريدة في محيطنا.

* * *

لم يكن «ميرلو – بونتي» هو الوحيد الذي تحدث عمّا يمكن أن نطلق عليه «ثقافة الصمت الخلاقة»، الصمت التأملي، في مقابل النوع الآخر الذي تمثله «ثقافة الصمت» القاتل التي وصفناها آنفاً، وطالب باسم نهج في المعرفة عرف باسم فلسفة ظواهر الإدراك بأن نعود إلى الأشياء، إلى صمتها المأهول، بل شاركه آخرون، ولكن في مدارات أخرى، تأريخية وروائية وشعرية.
يمثل في الذهن كتاب الروائي الفرنسي «أندريه مالرو» (1901- 1976) وعنوانه «أصوات الصمت»، الحامل لمفارقة قد تبدو غريبة. فهو تاريخ شامل وواسع لفنون النحت والتصوير والخط، أي للفن التشكيلي، وليس تاريخاً لفن من فنون اللغة أو الموسيقى، أو الغناء حتى. فكيف أمكن لمالرو أن ينسب «أصواتاً» لأشياء صامتة أو خرساء بكل معنى الكلمة؟
الجواب؛ لأن صمت الأعمال الفنية ليس كغيره، فهو لغة أيضاً، وأشد صخباً ربما مما اعتدنا أن نسميها لغة، سواء كانت مكتوبة أو منطوقة. مثلما للأبجدية صوت حتى وإن ظلت شاخصة على رقيم أو بين تلافيف رق، كذلك للتمثال والصورة واللوحة، تماماً كما كان الحال مع أشياء «ميرلو – بونتي» الأصلية الصامتة ولكن المانحة للعالم والإنسان معنى.
وسيأخذ معنى هذا الصمت رسام فرنسي إلى صفحات رواية قصيرة كتبها ومنحها عنوان «صمت البحر». وسينشرها باسم «فيركو» المستعار من اسم قمة جبلية من قمم جبال الألب في الجانب الفرنسي، لأنها كتبت أثناء الاحتلال النازي لفرنسا، وخلال عمل هذا الرسام حينها مع مجموعة كتاب من مختلف الاتجاهات شاركوا في حركة المقاومة بمطبوعات حملت عنوان «منشورات منتصف الليل».
في هذه الرواية التي اعتبرت من أشهر روايات المقاومة، لا نسمع سوى صوت شخص واحد (ضابط ألماني) في حجرة جلوس فرنسي هرم وابنة أخته الشابة. كان هذا الضابط المحتل مفروضاً على صاحب المنزل، فاعتاد دخول حجرة الجلوس والحديث لساعات، ولكن من دون أن يبادله أحد لا الحديث ولا النظر؛ الفرنسي الهرم مشغول مع دخان غليونه، والشابة منهمكة لا ترفع رأسها عن قطعة تطرزها، أو كتاب تقرأه، ثم يغادر متمنياً للاثنين ليلة سعيدة، من دون أن يتلقى رداً. وظل الألماني يتحدث كل ليلة كما اعتاد عن وطنه، وعن حبه للموسيقى، وأفكاره عن علاقات طيبة مأمولة بين فرنسا وألمانيا، ثم يأوي إلى فراشه، إلى أن سافر ذات يوم لعدة أيام إلى باريس. حين عاد كانت ملامحه متغيرة، وبدت عليه علامات اليأس والتوتر، ولم يتمالك نفسه فأعلن على غير عادته أمام الصامتين: «أريد أن أدلي بكلام خطير»، وهنا فقط كفت الشابة عن أشغال التطريز ونظرت إليه، فرأته مضطرباً تعلو وجهه إمارات حزن وخيبة، وهو يقول بصوت متحشرج محدقاً في الفتاة: «رأيت المنتصرين في باريس.. وفهمت أن هدفهم من هذه الحرب إخضاع فرنسا إلى الأبد، والقضاء على قوتها وروحها.. لا أمل.. لا أمل». ثم صمت، وجال ببصره حوله، ماراً بكتب راسين وروسو وبرجسون، وصاح «سوف يطفئون هذه الجذوة نهائياً، لن يضيء هذا النور أوروبا»، وأعلن أنه طلب نقله إلى خطوط القتال الأمامية.. «غداً سأسافر إلى الجحيم». هنا اصفر وجه الفتاة، واضطربت. وحين تمتم «وداعاً»، تحركت شفتاها وسمعها تتمتم أيضاً لأول مرة بكلمة «وداعاً»، فالتمع في عينيه بريق غريب، وابتسم وانصرف. ولخص هذا الموقف الأخير قوة الروح الفرنسية التي انتصرت بصمتها الشبيه بصمت تيارات هادرة تشبه صمت البحر. إن ما قاومه صمتُ صاحبي البيت كان احتلال الوعي والمخيلة، ونجحا في ذلك.

* * *

هنالك نوع آخر من الصمت يدل على ثقافة بوح مشابهة. صادفني هذا، وأنا أستمع إلى اقتراح متحدث في ندوة مسرحيين فلسطينيين هدفها صياغة مشاهد مسرحية يجري التفكير في تأليفها وإخراجها وعرضها على خشبة مسرح. قال المتحدث بعد أن استمع إلى اقتراحات الجميع بمشاهد تصور تجاربهم ومعاناتهم في المنافي، إنه استوحى فكرته من فيلم «الصبار» للبريطانية «فانيسيا ريدغريف»، وشرح: «.. هذا الفيلم صوّر قرانا هناك، أو بقاياها بالأصح، صور أشجار صبارها الذي يدل وجوده دائماً على أن بشراً كانوا هناك، وحجارة السناسل التي خدّدها المطر، وأساسات البيوت. كل شيء في مكانه، فبعد أن هدموا بيوتنا وسكنوا في بعضها، أرعبتهم الأشباح كما يقال، ففروا إلى أمكنة أخرى، وتركوها أحجاراً حتى اليوم»، وأضاف «الصهاينة لم يهربوا من الأشباح، بل من الأصوات التي ظلت تتردد بين كرومنا المهجورة، وبين صخور وصبار قرانا؛ حين تغيب كل الأصوات تظل مسموعة أصوات الصمت، ولدي إحساس أن هذا الفيلم صور أصوات الصمت الثقيلة على أسماع هؤلاء اللصوص».
وأنهى المتحدث مشاركته باقتراح أن يرسلوا من يتجول بين الأنقاض ويسجل أصوات حفيف أوراق الشجر، وخفقات الريح بين الأوراق اليابسة، وتناوح الريح بين الصخور، وزقزقة العصافير حول بقع المياه التي يخلفها المطر، وصوت تراكض الضباع في الوعر حين يلوح البرق ويهطل المطر، وختم مشدداً على كل كلمة: «ألن يكون ما نسمعه هو صوت قرانا المهجورة، صوت بلادنا؟ ولماذا لا يمثل هذا على خشبة مسرح؟ لسنا وحدنا من يحتاج إلى أن يكون ممثلاً، بل الأرض وأصواتها أيضاً».
كان هذا المشهد الشاعري الذي رسمه المتحدث مؤثراً بامتياز، لا يقل تأثيره عن مشهد البحر الصامت في القصة الفرنسية، أو مشاهد الأعمال الفنية التي استنطقها أندريه مالرو. هي ثقافة صمت من نوع مختلف؛ من نوع تقاوم فيه الروح.. وتنتصر.

_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *