عمود الخيمة

خاص- ثقافات

*محمد بقوح

   

حاول الكاتبُ الذي تمردتُ عليه في الأمس أن يجعلني اليوم أنسىى، وأخضع لزمنه القديم، ولخلفيته السياسية وفكره الأيديولوجي الذي أرفضه. يعتقد أنني سريع الخضوع وقابل للنسيان. أكاد أحكم على كاتبي بسذاجة الفكر وبلادة الخيال. لقد تصورني أن أدخل إلى خيمة الإفطار الرمضانية التي أقامتها جمعية يقال عنها خيرية، تابعة لحزبه السياسي طبعا، لأقرأ كلمات الترحيب، باسم الجمعية على شرف الحضور الكثيف الذي كان أغلبه من الشباب العاطل وشيوخ المنطقة. لكن هيهات.. ما لم يعرفه عنّي كاتبي هو أنني شخصية متقلبة المزاج وحرة التطلع، ومن واقع مختلف عن الواقع الذي أنجبه وتخيله هو. رجل في مقتبل العمر. يصلي أحيانا، وأحيانا أخرى كثيرة ينسى حتى من يكون !! يصوم ربما دائما، لأنه هذه المرة ملتزم أخلاقيا مع أسرته الكبيرة والصغيرة. لكنه أيضا كثيرا ما يجد نفسه يرشي لقضاء أغراضه الإدارية، رغم أنه يعرف جيدا “إن الرشوة حرام” شرعا وجريمة قانونا. كما يحلو له في بعض الأوقات أن يسكر حتى يغمى عليه، رفقة النواسيّين المهمشين من بعض أصدقائه القدامى الذين يربطه بهم حبّ البحر وذكريات الدراسة. يحصل هذا – يذكره للقارئ بدون حرج – عندما يلتقون في منزل فسيح على الشاطئ الذهبي لساحل “تاغزوت” الذي اكتروه لذلك الغرض.. للنشاط طبعا. الحياة قصيرة جدا، لا بد للإنسان أن يعيشها من ألفها إلى يائها.
وبعد كل هذا الكلام الصريح الذي هو جزء من إنسان يعيش الواقع المفعم ..، ليس بألوان الورد وروائح الياسمين ..، و”قولوا العام زين” في التليفزيون الوطني ..، ولكن بواقع مرارة البؤس والمعاناة والفقر المدقع والمفارقات العجيبة في وطن يقل فيه النزهاء.. أما شرنقة لصوصه فحدث بلا حرج.. إنهم في ازدياد مستمر.. 

فهل أصلح بعد كل هذا.. لأداء المهمّة الصعبة التي اختارني كاتبي التافه إلى حدّ الافراط أن أقوم بها داخل خيمة الإفطار الجماعي ؟ فعلا هي مهمة صعبة للغاية، أن يقرأ المرءُ كلمات فارغة من المعنى أمام آدميين يزحفون على بطونهم. معناهم الوحيد هو إخماد لهيب المعدة. مع اعتذاري لهؤلاء الناس الذين كان بالأحرى أن لا يفطروا، ويظلوا صائمين أبد الدهر، حتى يعقلوا، أو يعلقوا ويتصرفوا بالطريقة التي تكرّمهم كبني البشر. طبعا هذه أسئلة أطرحها كشخصية متمردة على كاتبها الذي يدعي أنه يعرفني جيدا. أطرحها على قارئي الذي هو رأسمالي الحقيقي لتقريب مدى إحساسي بالتفاهة والاحتقار أمام مشهد من مشاهد إخضاع الآدمي، لتثبيت المزيد من السلاسل والأقفال حول عنقه البريئة.

أما عن كاتبي الذي لا أحترمه.. وأختلف معه جذريا، وأنا أعلم أنه ربما بعد اطلاعه على ما أكتبه الآن سيتخذ في حقي إجراء قاسيا. لكنه حتما لن يستطيع طردي من مخيلته القصصية وعوالمه السردية. أنا جزء منه، مهما فعل سأظل صوتا نشزا من أصواته الأدبية المتعددة. طبعا، سأرهف الإنصات لحديثه التافه، وأتصنّع حسن الانتباه إلى غثيانه الفكري المقيت، غير أنني أثناء الفعل الحركي والعمل النصّي..، سأعرف كيف أنسل، وأتصرف بذكائي المعهود، حسب إرادتي ومواقفي المضادة لإرادته. هو لن يقدر على أن يدخل إلى خيالي، ولن يستطيع أن يعلمني كيف أفكر، بل لا يمكنه أن يدخل إلى عقلي مهما تجبّر وطغى بأدواته وكلاب حراسته المنتشرة في كل أرجاء المدينة التي تضمنا جميعا.. تلك الكلاب التي لا تعد ولا تحصى ولا تنام أبدا.. 

 

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *