بين الفلسفة والتّرجمة: لمَ يمتهن الفيلسوف التّرجمة؟
فبراير 17, 2018
خاص- ثقافات
* مُحمَّد صَلاح بوشتلّة
في اعترافٍ مبدئي لا يحتاج إلى استنطاق النّص، أو مساءلة الذي كتبه، إعتراف تؤكده السّيرة الأكاديمية لكاتب “تُرجُمان الفَلْسَفَة”، يؤكد لنا مُحمَّد موهُوب أن التّرجمة ليست بذاك العمل المحال أو المستحيل الذي يستحق صاحِبه المحاكمة، وأن ترفع باسمه صكوك الاتهام المجحفة في حقه، باعتباره خائناً للأصل، ومزيفا لمعاني ما يجب أن ينقل في أمانة، وبقلم أمين لا يغدر ولا يخون، فجُل أعمال أستاذ الفَلْسَفَة المعاصرة بكلية الآداب بمراكش، السّابقة على عمله الفلسفي بصدد التّرجمة هي ترجمات. نعم ترجمات، لكن بصيغة وبمذهب وطريقة أخرى، ترجمات لما هو عربي إلى ما هو ليس بالعربي، أي نقل ما تَقَوَّلتْهُ “النَّحْنُ” عن نفسها، شعراً وروايةً وقصةً إلى لغات أخرى في وضعية مريحة، في تناقض غريب عجيب مع المهمة التي يختارها سائر المترجمين عادة لأنفسهم وهي ترجمة الآخر إلى لغتهم الأصل التي يرونها دوما، وبعاطفة زائدة عن الحد، أكثر نقصاً، وتهميشاً، والأكثر حاجة إلى أفكار جديدة وأسماء أكثر جدّة، لملأ الشّروخ وسد الفجوات والخروم التي يرون أنها تعانيها وتئن تحت وطأتها. تناقض قد تختفي غرابته إذا ما نحن افترضنا أنه يتستر ضمناً على هوس أصيل باللغة الأصل، ما دام أن الواحد منّا ـ كما عبر ع. كيليطو ذات مرة ـ لا يهرب من لغته إلى لغة أخرى إلا ليقترب من اللغة الأولى التي تسكنه أكثر وأكثر.
غير أن صاحب التُرجُمان يأبى أن يفكر في الأسئلة التي تطرحها التّرجمة، أو بالأحرى الأسئلة التي تطرحها الفَلْسَفَة عن موضوعة التّرجمة، إلا بلغته الأصل ومن خلالها، اللّغة العربية، كصيغة أخرى من السفر، لكن بين لغتين وبجواز الترجمة دوما، وكنوع من التّكفير الأخلاقي جداً عن شعور ما بالذّنب لربما، هذا إذا ما نحن اعتبرنا أن ترجمة ما تقوله الذّات عن نفسها إلى لسان الآخر الغريب هي في منزلة ومقام الجريرة والذّنب الذي لا يمكن أن يغتفر، وإذا ما نحن لم نعتبر أيضاً أن ترجمة قوْلِنا وأقوالنا للغةِ الآخر عن طريقنا وبأيدينا، هو تفجير لكينونتنا في العالم بما نحن هم أصحاب هذه الكينونة العارفين بدقائقها وخرائط وأقبية هويتها، ومادامت التّرجمة ليست فقط ترجمة للمصطلحات والكلمات، بل ترجمة لمفاهيم تحمل معها قرارات تفكر فينا ونفكر فيها وبها، لتكون نائبة عن حضورنا المادي، بشكل يذكرنا بمواطنه الآخر عبد الفتاح كيليطو الذي يختار هو الآخر لرواياته أن تتكلم لغة الآخر نيابة عن عربيته التي يقيم هياكل خيالات شخوص رواياته منها، لكنه هو كذلك عند حديثه النّقدي عن رواياته المفرنسة، وعن باقي الروايات والقصص القديمة والحديثة لابن المقفع والحريري يختار لغته الأصل في الغالب للحديث عن تفكيره فيها، فمعهما ومع قليل غيرهما نتحدث عن نفس المريض الجميل الذي يلخص الحكاية عنه كيليطو نفسه بالقول: “خلال النهار أقرأ كتباً بالعربية، وفي الليل أقرأ أخرى بالفرنسية، وهذا النظام، رغم صرامته، لا يمكن لي تفسيره منطقياً. فهل قراءة النهار هي قراءة العقل وقراءة الليل هي الحلم”.
باعتباره أحد المتهيدغريين العرب فإن محمّد موهُوب يرفع إشكال التّرجمة إلى رتبة المشكل الفلسفي القائم بنفسه، ليـولي وجهه شطر التّرجمة باعتبارها رحلة مغامرة أو بتعبير هايدغر “Das Abenteuer des Übersetzens”، لكن لا باعتبارها مغامرة داخل لغتنا الأصل، بل كمغامرة مضاعفة لأنها تتم عند مُحمَّد موهُوب في أعماله التّرجمية داخل لغة غريبة عنه، إنها مغامرة مجهولة النتائج والعواقب داخل المجهول نفسه، مغامرة مضاعفة الجهد والاجتهاد، فقد ترجم موهُوب الرواية والقصة القصيرة ومنتخبات شعرية إلى لغة أخرى، أي إلى أرض مجهولة أخرى، وكأنه يود أن يكتشف بشكل أولي إمكانات لغته بصدد لغات أخرى، وفي نفس الآن يود أن يقول لصاحبه الأعجوبة أبو عثمان الجاحظ، ولأسلافه العرب أيضا من الذين قالوا باستحالة نقل شعرهم إلى لغة أخرى يجهلها، غير لغته التي كُتِبَ بها، أن ترجمة الشّعر الذي يعتبر بدوره أعجوبة العرب وديوانها، أمر هو في حيز الممكن، لا في خانة اللا ـ إمكان، وليمعن في نكئ مشاعر ابن رشد الذي فشل في ابتكار مقابل يترجم به مفهومي التّراجيديا والكوميديا، فضَيَّع بذلك على العرب فرصة اللُقيا بأبي الفنون، وليهمس كذلك في أذن أحمد فارس الشّدياق صاحب “الواسطة في أحوال مالطة” الذي ادعى أن شعر العرب لا يكون شعرا حين تحل به وساطة التّرجمة، وكأن الشعر العربي كتب بلغة أخرى غير العربية، لكن لا يفهمها غير العرب، ليهمس له بكون الشعر يصير متعة أكبر، لا بل ويُمَدُّ له في صحيفة حياته بعمر جديد، حينما يقرأ في كل اللغات، وفي ترجمات تغنيه وتزيده عمقا، وبالتّأكيد لا تفقره، ولكن بشرط أن نحسن الظّن بالمترجم[1]، هذا الأخير الذي لن نجد كبير عناء، إذا ما نحن ألغينا الشّرط ذاك لنعامله كمهرطق المدينة المومن أهلها، ومجدفها، أو حتى شاهد الزّور الذي لم يكتب له حظ في التّعرف على فضيلة الوفاء، ولا أداء عمله في حب وإخلاص لا يهتزان ولا يتزعزعان.
كمهتم بالفَلْسَفَة، بل وكمحسوب عليها يصير كتاب محمد موهوب الموسوم بـ “تُرجُمان الفَلْسَفَة” تأملاً ديكارتياً ونوعاً من العرافة الإغريقية في مصائر التّرجمة، ونظراً تنبؤياً عن آفاقها المستقبلية، لكن عبر الرّجوع إلى أسئلة التّرجمة في الماضي التّراثي، وأسئلتها المُكَرَّرَة في الحاضر، والمستعادة كما كل مرّة دون أن يُجاب عنها بشكل حاسم يلغي كل الأسئلة، وينسخ كل الإجابات المنقوصة القدّ والقوام، مما يجعل حضورها في هذا النّص حضوراً متناقضاً وقلقاً، يستغله مُحمَّد موهُوب بشكل جيد ليتأبى هو كذلك علينا بطرح إجابات محددة ونهائية، بل في عناد فلسفي وحبك لغوي مراوغ يزيد أسئلة التّرجمة غموضاً وانغماساً، باستحضاره لنصوص غنية من التّراث العربي ولنصوص من فترات فلسفية وأدبية مختلفة، المؤتلف بينها هو الحديث المتهامس عن التّرجمة، المتأرجح بين الحديث عن أهميتها والحديث عن أخطاء ومثالب المترجمين، فيقلب هذه النّصوص ظهراً لبطن في عملية مشبوهة من رجل لم ينس أنه بقدَرٍ ما، هو محسوب على الفَلْسَفَة فهو محسوب على التّرجمة أكثر، لا ليُكرهها على الإجابة، بل ليجعلها تنفتح على أسئلة أكثر، وهُنا يكمُن غموضه، وهنا تكمُن جدة الكتاب، فيزيد من الكتل السّديمية أمامنا، ويزيد من انتظارنا، لكن بقدر ما يكون الانتظار يوسع أفقنا الياوسي ويشرخه لمرات، ربما يكون الأمر له علاقة بحذر الحكيم الذي يجعله يتلطف في صياغة أحكام نهائية عن حدود إمكان التّرجمة واستحالتها، وربما يكون رغبة في تعذيب قارئه إذ الفهم عنده هو هنا مقابل لجهد وعمل قارئ النص ومتلقيه.
وفي غنوصية فلسفية يتحدث المُتَهَيْدِغر مُحمَّد موهُوب عن التّرجمة من مقام “الخافظة الرافعة”، فهي رمز وسر قديم جداً للخصب والجفاف الحضاري للكائن البشري، فمن خلال مراجعته التّاريخية لمساراتها ومصائرها، يتوصل إلى كون سؤال التّرجمة هو الدّائم الحضور معنا في بعدنا عنها كما في قربنا منها، فالتّفكير فيها وعنها هو دوما ينال حظوة الأمر الجلل[2]، بما هو هذا الأخير إيماءة مشرئبة الرأس نحو هرمسية متخفية، يمنح فيها مُحمَّد موهُوب بفذلكاته اللّغوية التّرجمة موقعاً استثنائياً في التّاريخ وجغرافيا الفكر الإنساني، فيصير الحديث عن الإصلاح الديني في أوربا وفي ألمانيا مارتن لوثر مثلا هو حديث في الأصل عن ضرورة التّرجمة[3]، لا حديثاً عن الدين في حقيقة الأمر، ويصير الحديث عن كتاب “صراع الكليات” لكانط هو كلام عن التّرجمة وخوض غميس في مشاكلها، وأيضاً فالحديث عن إمكان وجود دولة، بل ومصير أمة معتمداً ومحسوباً كذلك على فضائل التّرجمة[4]، لذا يغدو شيئا عادياً أن يوجب ويستلزم الإخلال بالتّرجمة عقوبة للمترجم المخل بها، بجره إلى مصطبة القضاء كما جاء في كتاب الحيوان لأبي عثمان جاحظ.
وعلى ذكر الجاحظ الذي يدخل معه د. موهوب في حوار عميق، والذي يحضر بعمق في “تُرجُمان الفَلْسَفَة” لا كي يؤاخذه صاحب الكتاب عن موقفه السّاخط على التّرجمة والمترجمين مفلوقي اللسان، ولكن ليفتح به قوساً لن يسده، قوس للحديث عن منزلة التّرجمة في سياق الثّقافة العربية القديمة والمعاصرة، هذه الأخيرة التي يجب أن توضع بين قوسين في تعاملها مع التّرجمة مادام تفكيرنا في التّرجمة اليوم لم ينتج عنه بعد مؤسسة كبيت حكمة المأمون الذي عاصر “قرن الحاجظ” كما يسميه “charles bellat”، فالجاحظ يقف في جل صفحات الكتاب بعينيه الجاحظتين مستغرباً من إمكانية أن ننقل أي فكر لأي لغة، فكل ترحال بالشّعر مثلا عبر لغة ما هو ترحيل له، وتعذيب لمعانيه وهتك لحُرمة قوافيه، فهو يخص العرب وحدهم لعجز صاحب لغتين على ترجمته، فاللغتان إذا ما التقيتا في اللسان الواحد، أكيد أدخلت الضيم على قدرة صاحبها التّرجمية، وجعلت لسانه مفلوقا لا يكاد يُعَبَّرَ أو يبين.
إنه وإن كان الجاحظ قد حل ضيفا خفيف الظل على “تُرجُمان” مُحمَّد موهُوب بالرغم من ثقله في تاريخ الأدب والأفكار، إلا أن غيره قد ينزل ضيفا ثقيلا عليه، فأطروحات ضيفه الثقيل تضطره لانتقاد أطروحته التي يصفها صاحب تُرجُمان الفَلْسَفَة بالخطرة على اللغة وصاحبها الأصلي، فالجرأة على مخالفة قوانين الصرف والنحو في العربية كما اجترأ وعبر عن ذلك بشكل غير مقنع كمال أبو ديب، بغية الاقتراب أكثر من الصيغ المستخدمة في اللغة الأخرى المترجم منها هو جناية مركبة ومضاعفة على الهوية التي رحل منها النص والهوية مستقر التّرحال، الشّيء الذي يدعونا إلى التّنذر القلق من الاستعمالات السّيئة للغة ضمن نموذج للترجمة يحتوي مسبقا على لوثة مُعْدِية بالجنون ومولدة للغة خنثوية تجهض حقيقة التّرجمة في سعي غير مفهوم، ومنقوص أيضا نحو محاكاة مشوهة لخلود النص بخلود ترجماته.
بالتّأكيد إن “تُرجُمان الفَلْسَفَة” هو احتفاء بالتّرجمة، بما هي وسيط وبحث عن التّوسط والاعتدال في كل شيء، فدور الوسيط هو دور عبور من وإلى، وهو دور رسولي بامتياز لا بين السّماء والأرض، بل بين النّصوص التي يكتبها أهل الأرض بألسنتهم المختلفة المتبلبلة، الوسيط ما بين الموجود والذي سيوجد مباشرة مع وبعد ترجمة النص، وبقدر احتفائه بها بقدر ما يثقل كاهلها بمهام إضفاء المعنى على الوجود والموجود، من أجل تتمة فراغات كثيرة ناقصة في هذا العالم، في مهمة هايديغرية منقوصة حين اعتبار وتحديد مُحمَّد موهُوب لدور الكائن العربي المسلم في كونه الوسيط الذي يقوم بدوره إيصالاً لأمانة، دون أن تتوقف عنده، لا كما هو الأمر بالنّسبة لهايدغر مع الشّعب الميتافيزيقي العظيم الذي لا يعدو أن يكون بالنسبة له غير الشّعب الألماني، غير أن مُحمَّد موهُوب سرعان ما يتدارك الأمر عند اعتباره لدور الوساطة بين الشّعوب والذي تؤديه بشكل جريء وعميق التّرجمة هو الذي يهب الشّعب مشروعية أن تعطى له المشروعية في الانخراط في الفَلْسَفَة بشكل متجدد ودائم، عن طريق وعبر التّرجمة.
التّرجمة إذن تغدو عند مُحمَّد موهُوب كوة ضوء، يشع منها سَنَا أمل في التّواجد على ساحة الفَلْسَفَة من جديد والانخراط المتساوق مع التّطور الحاصل في مدارسها، إنها رغبة في الحضور والبقاء والتّواجد والانبعاث المستمر الذي يعفينا من تبعات تهمة الغياب واللاحضور عن ساحة الفَلْسَفَة كونيا، والتي عبّر عنه دريدا في اجتماعه مع فايتمو وغدامير على جزيرة “capri” الإيطالية، رغبة تفصح عن حنين كينوني إلى أداء مهمتنا التّاريخية في إنقاذ الضروري الإنساني الذي لا مناص منه إلا إليه، و الذي رسّخ قواعده أبو الوليد بن رشد من جهة وبيت الحكمة من جهة أخرى واللّذين فتحا الباب مترعاً للاستضافة الغريب البعيد، ليفسحوا المجال له ليتكلم من جديد بجميع لغاته لكن بلغة عربية فصيحة، هاهي اليوم تقاوم شبح موتها بجرعات ترجمات متفرقة وموزعة هنا وهناك من أجل إنقاذ لغتنا المسكينة دون مساندة حكومية، مساندة تعيد تجربة المأمون وهَمّه الحضاري لبناء ثقافة وفكر وفلسفة تتحدث الكونية لكن بلسان عربي مبين.
التّرجمة ميدان آخر بالنسبة لمُحمَّد موهُوب قد يسهم دخولنا فيه إلى القطع مع إخفاقنا الفلسفي، وقد يكون منفذنا ووسيلتنا إلى الانبثاق المشرئب نحو حضورنا الفلسفي على منصة القول الفلسفي الذي تؤثث لغات العالم مكتبته: تأليفا أو ترجمة وإبداعا، في غياب تام لنا، غياب يكلفنا الكثير، يكلفنا ألا نتحاور وجها لوجه مع آخرنا القريب والبعيد على حد سواء، ويفوت علينا فرصة أن تتلاقى لغتنا بلغات العالم، وتتشابك معانينا حرفا لحرف، على فراش مقدس قد تصير فيه الخيانة شيئا هو الآخر مقدساً، بهزّات ومتع جموحة وغاية في الشّبقية. لا بد إذن بحسب مُحمَّد موهُوب من أن تكون لغتنا إلى ذاك الحين الحالم هي التّرجمة، وأن ينصب اهتمامنا عليها. وإلا فلنسجل غيابنا على هامش خارطة “تاريخ الوجود”، ولنكرس تخلّفنا عن الرّكب وعن أداء دورنا المهووس بالوساطة والتّوسط بين شرق العالم وغربه كما كنا ذات يوم حينما كانت تمر على أيدينا توابل وقصص الهند، ومعها تمر غرائب الأمصار وعجائبها إلى سائر العالم.
إن دور الوسيط والوساطة الذي رضِي به مُحمَّد موهُوب للكائن العربي المسلم، ربما يكون أخطر من التّفكير السّاذج بالدّور الذي يؤديه ساعي البريد، إذ أنه يتعدى دور الأخذ والإمداد من يد ليد، فالأمر يتجاوز هذا تماما إلى معنى أعمق وسحيق، فدور الوسيط والوساطة والوسطية هو عنده امتياز ميتافيزيقي يتأسّس على نصوص شرعية وحقائق تاريخية بقدر ما تُحملنا دور الوسطية بقدر ما تحملنا أيضا القيام بمهمة إثبات دورنا داخل التّاريخ الكوني، فالتّواجد في الوسط هو الذي بالتّأكيد سيعيد للشعوب العربية دورها الريادي في إدارة الوجود والإمساك بأطراف خيوطه، كما كنا ذات يوم محور تجارة السّند والهند لتوسطنا العالم، وبتواجدنا في قلبه وهو البحر المتوسط، فالأخذ والإمداد هو في حد ذاته رمز للعطاء والفعل في الوجود، لهذا فعدم اهتمامنا بالتّرجمة واضطلاعنا بمهمة أن نترجم هو في جانب مهم منهما تجريد لنا من تلك الصفة الميتافيزيقية والفيزيقية الحية التي قمنا بتأديتها بشكل جيد طوال قرون.
دور الوسيط بما هو رمز للعطاء، هو من ولّد لدينا اليوم هذا الإحساس الجميل بأن التّرجمة لم تسرقنا، بل أطالت في عمر نصوصنا التي كانت ستأكلها الرطوبة في خزائن منسية، فلولا التّرجمة لما عاد لنا “الضروري في السّياسة” لابن رشد اليوم، ولولا التّرجمة لما عاد لنا الــ “دون كخوطي” الذي يعترف سيرفانتس بأن مخطوط مغامرات بطله كُتب من قبل مغربي يدعى “cid hamed bengeli” أول الأمر، الشّيء الذي قد يهب ترجمات مُحمَّد موهُوب لأعمال عربية إلى لغات الآخر مشروعية ما، فمع الجهل المستفحل بالقراءة، وبمعنى أن تضج غرفنا بالكتب، يقف شبح أنه قد تندثر نصوص عديدة منا اليوم كما اندثرت نصوص أبي الوليد ابن رشد وغيرها ذات يوم، وكان اعتمادنا لإحيائها على ترجمات الآخر لها، فدورة التّرجمة دورة حياة وبعث متجددين، لأجل أن نوجود في العالم من جديد، ونحيا فيه بشكل متجدد، فاللّغة هي مأوى وجودنا، واللّغة التي لا تُتَرْجِمُ ولا تُتَرْجَمُ بالتأكيد تنسى، أو بالأحرى تموت وتضيع، وموتها هو هدم بالتأكيد للوجود، وبلبلة وإرباك له ولوجود أصحابها الذي سيصير سهل التّشتيت على وجه البسيطة برمتها.
_____________
* المغرب/ مراكش