من بين الفلاسفة العرب المعاصرين الذي لا ينفك تفكرهم يمارس تأثيراً بليغاً في مثقفي العالم العربي، المفكر المغربي البارز محمد عابد الجابري، أستاذ الفلسفة بجامعة الرباط من 1967 إلى 2002، والمفكر المرموق الذي كان محل تكريم عالمي جعل منه رمزاً شامخاً من رموز الفكر العربي المعاصر. وقد حمل الجابري عدداً من المشاريع الفكرية، صاحَبَ صدورَها جدل حاد ونقاش بالغ الحماس، لم يتوقف إلى غاية اليوم، فكانت «رباعية نقد العقل العربي»، التي تكونت من أربعة إصدارات رئيسة شكلت باكورة أعماله، أعطى فيها هذا الأخير للعقل دوراً محورياً في إعادة قراءة الفكر العربي. تلك الإصدارات هي: «تكوين العقل العربي»، و«بنية العقل العربي»، و«العقل السيـاسي العربي» و«العقل الأخلاقي العربي»، وهي الأعمال التنظيرية التي هزت بقوة منذ صدورها، الأوساط الفكرية العربية.
في تلك المؤلفات، كانت للجابري محاولة غير مسبـوقة في تجديد أسلوب التعاطي مع مسألة علاقة التراث بالحداثة، فنراه في الجزء التمهيدي لكتاب «مدخل لنقد العقل العربي»، يحذر المثقفين العرب والمسلمين من خطورة الإنغلاق في مقولات ثابتة للتراث؛ وينبّه الجابري مع ذلك إلى ضرورة ألا يتم التعاطي مع ذلك التراث على أساس اِزدرائه أو اِمتهانه، ذلك أن تجديد الفكر العربي واندماجه في حركة الحداثة التي لم ينخرط فيها إلى غاية اليوم، لا يمكن أن يتحقق في نظره إلا باستعادة الفكر العربي لذلك الإرث العريق.. الأصيل. وفي المقابل، يرى الجابري أن المثقف العربي مدعو في ذات الوقت إلى عدم تحويل ذلك التراث إلى حقيقة متعالية على التاريخ، إذ يتوجب عليه على العكس من ذلك، فهمه واستيعابه في أبعاده النسبية وفي تاريخيته.
فدور المثقف هو حينئذ التعرف على منجزات الفكر التي توفقت في القطع مع التصورات القديمة.. العقيمة لهذا التراث، والتشبث بتلك المنجزات، عساه يتحرر بدوره من عبء الماضي الذي يعطل حركة التحاقه بركب الحداثة؛ ويعني ذلك أن الأخذ بأسباب الحداثة «لا تكمن في رفض التراث، ولا في القطع مع الماضي، وإنما هي على العكس من ذلك، سعي من أجل الارتقاء بأسلوب تعاطينا مع الموروث، وفق ما قد نسميه«المزامنة»، أي الالتحاق بركب التقدم على المستوى الكوني».
بين ابن رشد وابن سينا
وفي هذا السياق، يرى الجابري أن فلسفة ابن رشد تمثل إحدى تلك اللحظات التاريخية المشرقة والمثالية في تاريخ الثقافة العربية، لأنها أسفرت عن قطيعة إبستيمولوجية حقيقية مع الماضي، قطيعة قادت الفيلسوف القرطبي إلى نبذ الغنوصية واللاعقلانية التي أوهنت لزمن طويل الفكر في البلاد الإسلامية.. فيما مثلت فلسفة ابن سينا في نظره المثال الأبلغ لتوجه ضار أساء كثيراً للفكر العربي. والشروط الإبستيمولوجية لتلك القطيعة هي التي عمل الجابري على محاصرتها وتحديدها، حتى يتيح للمثقفين العرب والمسلمين إمكانية نقلها واستنساخها، حتى يتمكنوا بجدارة من اقتحام زمن الحداثة الذي ظل متفلتاً عنهم.
وتنخرط أطروحات الجابري تلك في حركة فكرية موصولة تعود أصولها إلى أواسط القرن التاسع عشر، حين استوقف الكثير من المثقفين العرب ذلك السؤال الملحاح والمحير: ما الذي حدث للثقافة العربية التي كانت فيما مضى ثقافة مشعة ومتوهجة، كي تتراجع مكانتها على هذا النحو المريع، ويعتريها فجأة الأفول والجمود؟. وقد أرجع البعض أسباب ذلك الذبول الحضاري إلى ما أبداه المفكرون منذ ابن رشد من إعراض عن المنهج العقلاني الذي أرسى هذا الأخير أسسه منذ القرن الثاني عشر.
ومثل هذا الطرح الذي يحتم العودة إلى ابن رشد كيما يستعيد الفكر الفلسفي العربي فاعليته وعافيته، لا يفترض تصوراً فريداً لتاريخ الفلسفة فحسب، وإنما تمثّلٌ للفلسفة في مفهومها العام. وأريد أن أتناول هنا بالتحليل الفرضيات العامة التي أسّس عليها الجابري ذلك التعارض الصارم بين فلسفة ابن سينا، وما كانت تنطوي عليه من نزعة غنوصية ولا عقلانية، وفلسفة ابن رشد، التي تكون في نظره قد قطعت بشكل حاسم مع ذلك التوجه الفكري، ووفرت شروط استعادة الفكر الفلسفي العربي كامل خصوبته وثرائه.
عالمان فارسي وعربي.. متقابلان
يقوم إثبات الجابري على إحدى فرضيتين تميزان في العالم العربي الإسلامي بين تيارين فكريين مؤسسين: من ناحية، تيار غنوصي يستمد أصوله من العالم الفارسي، ويعد ابن سينا أبرز ممثليه، ومن ناحية ثانية، تيار عقلاني متجذر في غرب العالم الإسلامي، والذي يعد ابن رشد أبرز وجوهه الرمزية. ويرى الجابري أن الخلافة العباسية واجهت حال انتصارها المناورات السياسية للأرستقراطية الفارسية، التي كانت تعمل على تعويض ما خسرته على المستويين السياسي والاجتماعي بمكاسب أيديولوجية.
لقد كان الفرس، القريبين من الحكم المركزي للخلافة العباسية ببغداد، يعملون بالفعل على نسف أسس الحكم العربي وزعزعته، وذلك بوضع أيديولوجيا تستمد نسغها من موروث ديني مؤسس على الفكر الغنوصي، وعلى الاعتقاد في وجود مصدر آخر للمعرفة غير العقل، ألا وهو الإشراق، أو الإلهام الرباني الذي لم ينته بانتهاء التنزيل، أو أنه الكشف المستمر والمتواصل الذي لا يترك أي مكان للعقل أو النقل. واعتمدت الأرستقراطية الفارسية في سعيها ذاك على إرث ديني وثقافي ينهل من منابع الزرادشتية والمانوية والمزدكية، للنيل من ديانة العرب ونسف أسسها، والتمكن بالتالي من قلب نظام الحكم العربي. ولمواجهة تلك الحملة الأيديولوجية الفارسية، شرع العرب بتشجيع من الخليفة العباسي المأمون في تطوير ترجمة المدونات والمتون العلمية والفلسفية الإغريقية، فمنحتهم تلك الترجمات الأدوات المذهبية لمجابهة ذلك المد الفارسي. وللتوقي بدورهم من ردود الفعل التي أبداها علماء الدين العقلانيون(المعتزلة)، لاذ الفرس هم أيضا، وتحت عباءة التشيع، بـ«علوم القدماء»، فنشأت بذلك الحركة الإسماعيلية التي كانت مستلهمة لــ«رسائل إخوان الصفاء»..
وتكرّس رؤية الجابري إلى التاريخ هنا أطروحة أثيرة لدى المستشرقين، كان الجابري ذاته قد تناولها بالانتقاد. ووفقاً لتلك الأطروحة، تكون بعض الشعوب مهيأة بالسليقة أكثر من غيرها للخوض في هذا الفرع المعرفي أو ذاك؛ فيكون الساميون وفقاً لتلك الأطروحة الساميين مفتقرون للقدرة على التفلسف، على عكس الشعوب الهندو/ أوروبية. وفي قراءة الجابري، نلاحظ أن الأمر هو على العكس من ذلك: فيكون العرب، وهم ساميون، أقرب إلى العقلانية، فيما يكون الفرس، ذوو الأصول الهندو أوروبية، أقرب إلى الفكر الغنوصي وإلى التصوف. ولا يتعلق الأمر هنا بأطروحة تاريخية مبررَة علمياً، بقدر ما يتعلق الأمر بقراءة أيديولوجية للتاريخ، هي في كل الأحوال خطيرة وعقيمة. وإنه لمن الصعب الطعن علمياً في تلك الأطروحة، طالما أنها لا تنطوي على منطوق علمي يمكن إثباته. قد نذكر فحسب بعض الشخصيات العلمية المرموقة المتحدرة من العالم الفارسي: ابن المقفع، مترجم كليلة ودمنة، وصاحب رسالة في المنطق؛ سيبويه، النحوي البارز للغة العربية؛ نصير الدين الطوسي، عالم الفلك المجيد؛ عمر الخيام، الرياضي المهيب..
مساءلة تاريخية لمقولات الجابري
وبالمقابل.. بإمكاننا التوقف عند بعض الشهادات التاريخية للجابري والطعن فيها. إنه يقيم علاقة وثقى بين الفكر الشيعي والغنوصية والعالم الفارسي، في حين أن مهد التشيّع هو العراق، الذي أسس فيه العرب بعد إطاحة ملك الساسانيين، مدينتي البصرة والكوفة. وفي العراق، تحديداً تم الاتصال بين الإسلام والغنوصية؛ وفي العراق، ومع بداية القرن الثامن، نجد آثاراً لمواضيع غنوصية بالأساس، ماثلة في النظم الشيعية التي تشكلت يومذاك. وكانت أغلب العناصر الغنوصية قد أمحت حينها من التشيّع الإثنا عشري بعد الإحتجاب الكبير لسنة 940م. هكذا، فإن المهد التاريخي والثقافي للتشيّع هي ليست بلاد فارس، بل إن تأريخ ظهور الفلسفات ذات المنزع الغنوصي في التشيّع باتت اليوم محل جدل بين الأخصائيين، وبعض هؤلاء، أمثال هليز هالم، يعتبرون أن تلك المفاهيم الغنوصية كانت متداولة منذ البدايات الأولى للتشيّع، فيما يذهب البعض الآخر إلى أن ظهورها يعود إلى القرن العاشر. ومهما يكن من أمر، فإن صلة التشيّع بالغنوصية ليست مرتبطة البتة ببلاد فارس. لذا، فإن الجابري حين يعتبر أن الأرستقراطية الفارسية استخدمت منذ القرن التاسع تراثها الثقافي والديني القائم على الغنوصية بهدف مقاومة دين العرب ونسف أسسه، وبالتالي قلب نظام الحكم العربي، يكون قد قدم تفسيراً خاطئاً للتاريخ.
وفضلاً عن العلاقة المضللة التي أقامها بين بلاد فارس والتشيّع والغنوصية، يكون عابد الجابري أيضاً قد أرسى تحليله على تصور مخز للغنوصية (أو العرفانية)، والحال أن هذا المصطلح بات يطلق اليوم على مذاهب شتى، صوفية وروحانية وإشراقية.. لا تصل بينها أية علاقة. ومع ذلك، وبالمعنى التاريخي، تطلق كلمة «غنوصية» على مجموعة من المذاهب التي تبلورت خلال القرنين الثاني والثالث على أيدي حركات يهودية، ولكن مسيحية أيضا، وكان روادها يعتقدون أنهم يقفون على أسرار التعاليم السرية الحقيقية للسيد المسيح عليه السلام، أي على تلك التعاليم التي ينطوي عليها المعنى الغنوصي للأناجيل، أو تلك المضمنة في الأناجيل المنتحلة. وكان كورت رودلف (1984)، الأخصائي في الغنوصية قد قام بتصنيف يسمح بتحديد دقيق للحركة الغنوصية. وتتعلق إحدى المعايير الخمسة التي اعتمدها بالأخرويات الغنوصية، التي ترى في الخلاص البشري اِنفلاتاً لقطعة من النور المنحبس في الجسد. ويتحقق ذلك الانفلات بفضل المعرفة في معناها الإغريقي. ولئن كانت محل تهجم شرس من قبل الأفلاطونية الجديدة، فللغنوصية نقاط مشتركة معها، ومنها ذلك الاعتقاد في أن الخلاص يتم عبر المعرفة. وإنه لمن الصعب، كما يقر الجابري ذلك، أن نختصر هاتين الحركتين الفكريتين، في حركات قد تكون دفعت الحضارة العربية إلى ظلمات اللاعقلانية.
لقد عرف فكر أفلوطين انتشاراً واسع النطاق في بلاد الإسلام عبر لاهوت أرسطو، ويكون الكتاب الذي اشتمل على ترجمة عربية للـ«إينيادس» لأفلوطين، والذي نسب لأرسطو، قد مـارس تأثيراً عميقاً على الفلاسفة العرب، ومن بينهم ابن رشد.
حول «الفلسفة الشرقية»
هل أساء ابن سينا حقا إلى الفكر العربي؟
لقد استخدم الجابري في إدانته لابن سينا كلمات شديدة، بل غاية في القساوة؛ فيكون هذا الأخير قد شاد في «فلسفته الشرقية» مشروعاً أيديولوجياً قومياً فارسياً ساهم في إفساد العقلانية العربية. وفي هذا الصدد، يتحدث الجابري عن «حركة اِرتداد» وعن «لا عقلانية ضارة»: «بفلسفته الشرقية، كرس ابن سينا نشأة تيار روحاني وغنوصي جعل الفكر العربي يرتد من عقلانية منفتحة حمل المعتزلة مشعلها، لتترسخ دعائمها مع الكندي وتبلغ ذروتها مع الفارابي، إلى لا عقلانية ضارة، ساهمت في توليد فكر ظلامي، عمل على إشاعته بين الناس مفكرون أمثال الغزالي، سهروردي حلب وآخرون».
لنذكر بادئ ذي بدء أن «الفلسفة الشرقية» لابن سينا قد تم الحسم فيها من قبل المحققين المختصين. ووفقا لما جاء في مقدمة «كتاب الشفاء»، فإن كتاب «الفلسفة الشـرقية» الذي قد يكون ابن سينا قد عرض فيه فلسفته، غدا يومها كتاباً مفقوداً. ومع ذلك، لا شيء في الجزء المتبقي من ذلك الكتاب (رسالة في المنطق) يوحي بأن الأمر يتعلق بفلسفة باطنية. وأن يكون ابن طفيل في مقدمة «حي بن يقضان» قد دعا إلى قراءة رسالته على ضوء التصوف الوارد في «الفلسفة الشرقية» لابن سينا (وهو الكتاب الذي تعذر عليه الحصول عليه)، لا يكفي كي نعتبر أن هذا الأخير قد عرض فعلاً لتصور صوفي في هذا الكتاب.
ولنعد الآن إلى تصوف ابن سينا. لقد كتب ابن سينا في الحقيقة العديد من الحكايات التي نلمس فيها معاني ودلالات صوفية: «حكاية العصفور»، «حي بن يقظان»، «رسالة في الحب»… ومهما كان المغزى الذي ينسب إلى تلك الحكايات، فإن ذلك لا ينفي أن فلسفة ابن سينا بالتأليف الصارم والأصيل الذي أنجزه هذا الأخير بين الفلسفة المشائية والأفلاطونية الجديدة، بين المسائل المرتبطة بالكشف القرآني (النبوة، خلاص الروح، البعث) وأنساق الفكر الهيليني، تمثل منعطفاً حاسماً في تاريخ الفكر في البلاد الإسلامية، حتى إننا قد نميز بين عهدين متباينين: ما قبل ابن سينا وما بعد. وسواء تعلق الأمر بمريدين مباشرين أو غير مباشرين (من بهمنيار إلى الجرجاني مروراً بنصير الدين الطوسي أو الهلي)، أو معارضين مثل ابن تيمية، ابن رشد، عبد اللطيف البغدادي، أو أيضا أنصار الفكر الإشراقي أمثال ابن كمونة أو الملا صدر الشيرازي.. فكل هؤلاء مدينون بشكل أو بآخر إلى ابن سينا.
وأن تكون الفلسفة العربية قد أصيبت بالذبول بعد ابن رشد، فليست تلك بالحقيقة التاريخية الثابتة. ولا يعتبر الجابري التفصيلات والشروحات الميتافيزيقية لمفكرين مثل السهروردي (القرن 12) أو القاضي سيد القمي (القرن 17) على أنها تفصيلات وشروحات ذات طبيعة فلسفية، فيما أنه يختص بتلك الصفة فلسفة ابن رشد «الذي كان يحـرص على النظر إلى الأجزاء عبر الكل الذي تنخرط فيه». كما يعتبر أن التمشي الفكري «للعقل الرياضي»، هو ثمرة جهد العلماء الأندلسيين، الذين «تناولوا العلوم القديمة عبر معايير رياضية ومنطقية، بعيداً عن الجدل اللاهوتي وإشكالية التوفيق بين العقل والنقل».
لقد كانت محاولة ابن سينا الرائدة والباهرة، تكمن تحديداً في تصور نظام فلسفي يسمح، وفي إطار كلٍ موجد ومتماسكٍ، بمعرفةِ الأجزاء المختلفة التي تشكل ذلك النظام (المنطق، الميتافيزياء، الرياضيات، العقلانية، علم النبوءات)، كما تثبت ذلك الملخصات الفلسفية العظيمة لـ«كتاب الشفاء»، الذي يعد حقاً أول موسوعة فلسفية في التاريخ. وفضلاً عن إنكاره لمزايا ابن سينا الفلسفية التي بلغت عند هذا الأخير حقاً، درجة الاكتمال، فإن تحليل الجابري يستند إلى تصور ضيّق للفلسفة، غير القابلة للفصل في نظره عن المنطق والمنهج الرياضي. غير أن الفلسفة في الغرب ـ التي يتعاطى معها الجابري كبراديغم أو أنموج معياري ـ تبيّن على العكس من ذلك، أنها بانفتاحها على الخطاب الشعـري، قادرة على التجدد، وأن الفلسفة التحليلية ليست وجهها الوحيد، إذ تمثل إعادة الاعتبار للخطاب الشعري وجهها الآخر، الذي لا يكون أقل أهمية.
ويكون الخطأ الآخر لابن سينا في نظر الجابري، هو محـاولته التوفيق بين الفلسفة والدين، وهو المنهج الذي يكون ابن رشد قد تخلى عنه: «مع ابن رشد ارتسم تصور جديد تماماً للعلاقة بين الدين والفلسفة، وبإمكاننا في كلا المجالين، ملامسة الجانب العقلاني فيه. وتتأسس العقلانية في المجال الفلسفي على مراقبة قوانين التدبير الكوني، وبالتالي الوقوف عند مبدأ السببية (…). وتكون محاولة ابن سينا تلك في نظر الجابري قد أسفرت عن نتائج وخيمة على الفلسفة في بلاد الإسلام. على أن غاية ابن سينا لم تكن هي التوفيق بين الفلسفة والدين، وهنا يبدو أن الجابري اكتفى أيضاً بترديد فكرة شائعة لدى المستشرقين. فبالنسبة لابن سينا، كما هي الحال عند الكندي والفارابي قبله، يتم التوصل إلى الحقيقة بالعقل وبالبرهنة، وأداتها المنهجية.. القياس المنطقي. فكل هؤلاء الفلاسفة دافعوا عن فكرة أن الحقيقة واحدة، ولكن وسيلة بلوغها هي التي تختلف، وأنه ليس بامكان أي كان إدراكها بواسطة البرهنة فحسب: فما تدركه الفلسفة بواسطة القياس المنطقي الموروث عن الإغريق، لا يدركه بقية الناس إلا عبر الرؤيا والوحي. كما أن كل الفلاسفة، ابن سينا كما ابن رشد، يستمسكون باعتقاد جازم في قدرة العقل البشري، وبإمكانياته الخاصة في إدراك الحقيقة. وتلك الإمكانيات هي المقولات والأدوات المفاهيمية التي اعتمدها الفلاسفة الإغريق. وما يميّزهم أيضاً، هي القناعة الراسخة بأن الدين، سواء كان إسلامياً، يهودياً أو مسيحياً، لا يكون البتة متعارضاً مع التفكير الفلسفي، إذ إنه ينشد في كل الحالات نفس الغاية: الترقي الإنساني والعروج بالإنسان إلى مراتب الكمال.
العقل العربي.. إلى أين؟
يبدو العالم العربي منطوياً على ذاته وعلى تاريخه، مشدوداً إلى ماض مجيد قد ولى وانقضى، زمنٌ كان يتصدر خلاله ذروة النشاط الفلسفي والعلمي: إنه القرن الثاني عشر الذي توهجت فيه فلسفة ابن رشد. لقد أثبت الجابري تلك الحالة وحاول إعطاء دفع جديد للمثقفين العرب حتى يجعلهم يخرجون من ذلك المأزق. ويخبرنا الجابري أن ازدهار الفلسفة لا يتحقق في كل الظرفيات التاريخية، وأن المثال الرشدي الذي يستمد قيمته من التفكير الفلسفي قد تجاوزته الأحداث، وأن تلك قيمة الجوهرية تكمن اليوم في«القطيعة الإبستيمولوجية» «مع المعرفة الضارة التي سبقته، أي الاتجاهات الصوفية والغنوصية لمذهب ابن سينا والانشغالات اللاهوتية الهادفة إلى المصالحة بين الإيمان والعقل. ويدعو الجابري المثقفين إلى إحداث نفس القطيعة، مع التمييز الصارم بين مجالي العلم والدين، الأمر الذي لا يعني ـ وهنا تكمن عبقرية ابن رشد في نظره ـ التنازل عن الدين وممارسة شعائره.
وفي خلاصة كتابه، يختصر الجابري ذلك الموقف:«ينبغي في الحقيقة طرح هذه الإشكالية على النحو التالي: كيف للفكر العربي المعاصر أن يستعيد المنجزات العقلانية و«الليبرالية» من منظور مماثل لمكتسباته العقلانية و«الليبرالية» لموروثه الثقافي الأصلي، ليعلن تمرده على الاقطاعية والغنوصية والجبرية، ويؤكد إرادته لإرساء مدينة العقل والعدل، المدينة العربية، الديمقراطية والاشتراكية؟ وليس ذلك بالوقف القومي الضيق، فنحن لا نقلل أبداً من أهمية المكتسبات العظيمة للإنسان، ونعتقد أن تلك المكتسبات ستظل غريبة عنا طالما لم نقم بتوظيفها، مستندين في ذلك إلى المنهج العلمي المتلائم مع احتياجات وضعنا التاريخي، لحل مشاكلنا الخاصة». على أن صدى كلمات ابن رشد تبدو وكأنها تأتي لمعارضة مثل هذا الموقف:
«إن كان غيرنا قد قام ببعض البحوث في هذا المجال، فإنه لمن البدهي أننا بحاجة إلى النظر فيما قاله هؤلاء الذين سبقونا، وليس من المهم أن يكونوا منتمين إلى ديننا أم لا؛ كما أننا لا نفترض من الأداة التي بها يتم المساس بالطقوس الدينية، أن تكون قد خَصت أم لاَ أناساً معتنقين لديننا، كي نحكم على مدى وجاهتها ومطابقتها للقواعد الشرعية. فنحن لن نطالب بغير الإستجابة لمعايير المطابقة».
فشرعية مقولة«العقل العربي» هي التي ينبغي أن نسائلها في تحليل الجابري، مقولة يبدو أن الفلاسفة لا يقبلون بها. فالتمشي الفكري لهؤلاء الفلاسفة يتميز بقدرة لافتة على التفاعل مع المتوارث المتأتي من ثقافات أخرى، من أزمنة أخرى، من لغات أخرى ومن ديانات أخرى. ويعتمد الفلاسفة مثل ذلك التمشي، لا لأنهم ينظرون إلى الحقيقة على أنها هي ذاتها مهما تغير المكان والزمان، ولكن لإدراكهم للقيمة الثمينة للإرث الإغريقي، الذي يمنحهم الأدوات المفاهيمية لمواجهة تساؤلاتهم الخاصة الكفيلة بالرد على متطلبات أزمنتهم المختلفة.
خمسة قرون تفصل الكندي عن الملا صدرا، ومع ذلك، فقد نهل الأول كما الثاني من ذلك الإرث، وبثاه نفساً جديداً لإحيائه. ولا أحد منهما كان سجين فكر عقيم، ثابت في الزمن.
أن نستعرض تاريخ الفلسفة العربية (وننعتها هنا بالعربية باعتبار أن معجمها الفلسفي تشكل بصورة أساسية باللغة العربية) دون خلطها بالأيديولوجيا، فإن ذلك يعد رهاناً حقيقياً. وكثيراً من المحققين المختصين، كما يشير إلى ذلك الجابري، لا يتوقفون عن ترديد المقولات الممجوجة للمستشرقين، غير أنه، لو قمنا بتعطيل أجزاء كاملة من تاريخنا بتعلة أنها تمثل جانباً ظلامياً، وأنها تجسد حالة انحدار للعقل، فإن ذلك لن يكون سوى محض تصور أيديولوجي لذلك التاريخ.
عقلانية ابن رشد
يعد ابن رشد (520 هـ- 595 هـ) من أهم فلاسفة الإسلام. دافع عن الفلسفة وصحح للعلماء وفلاسفة سابقين له، كابن سينا والفارابي، فهم بعض نظريات أفلاطون وأرسطو. قدمه ابن طفيل لأبي يعقوب خليفة الموحدين، فعينه طبيباً له، ثم قاضياً في قرطبة.
تولّى ابن رشد منصب القضاء في أشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، وتعرض في آخر حياته لمحنة، حيث اتهمه علماء الأندلس والمعارضون له بالكفر والإلحاد، ثم أبعده أبو يوسف يعقوب إلى مراكش، وتوفي فيها (1198 م).
يرى ابن رشد أن لا تعارض بين الدين والفلسفة، ولكن هناك بالتأكيد طرقاً أخرى يمكن من خلالها الوصول لنفس الحقيقة المنشودة. ويدعي أن لديه نوعين من معرفة الحقيقة، الأول معرفة الحقيقة، استناداً على الدين المعتمد على العقيدة، وبالتالي لا يمكن إخضاعها للتمحيص والتدقيق والفهم الشامل، والمعرفة الثانية للحقيقة هي الفلسفة، والتي ذكر بأن عدداً من النخبويين الذين يحظون بملكات فكرية عالية توعدوا بحفظها، وإجراء دراسات جديدة فلسفية.
له مؤلفات عدة في أربعة أقسام: شروح ومصنفات فلسفية وعملية، شروح ومصنفات طبية، كتب فقهية وكلامية، كتب أدبية ولغوية، لكنه اختص بشرح كل التراث الأرسطي.
فلسفة ابن سينا
يعد ابن سينا من أول من كتب عن الطبّ في العالم، ولقد اتبع نهج أو أسلوب أبقراط وجالينوس. وأشهر أعماله كتاب، «القانون في الطب» الذي ظل لسبعة قرون متوالية المرجع الرئيس في علم الطب، حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوروبا. وهو أوَّل من وصف التهاب السَّحايا الأوَّليِّ وصفاً صحيحاً، ووصف أسباب اليرقان، ووصف أعراض حصى المثانة، وانتبه إلى أثر المعالجة النفسانية في الشفاء.
يعتبر الفكر الفلسفي لابن سينا امتداداً لفكر الفارابي، وقد أخذ عن الفارابي فلسفته الطبيعية وفلسفته الإلهية أي تصوره للموجودات وتصوره للوجود، وأخذ منه على الأخص نظرية الصدور، وطوّر نظرية النفس وهو أكثر ما عني به. كما صاغ برهان الصديقين الشهير في إثبات وجود الله.
كفره الغزالي نتيجة أفكاره في كتابه «المنقذ من الضلال»، وأكد نفس المعلومات ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية». وأكد ابن العماد الحنبلي في «شذرات الذهب» أن كتابه الشفاء اشتمل على فلسفة لا ينشرح لها قلب متدين. اما ابن تيمية، فأكد أنه كان من الإسماعيلية.
_______
*الاتحاد الثقافي