تنتمي مباحثُ علم الكلام القديم إلى ما يُصطلح عليه بـ”الحكمة النظرية”، أما الأخلاقُ فتنتمي للحكمةِ العملية وليس النظرية. وبعبارة أخرى يقول علمُ الكلام المعتزلي والشيعي بالحُسن والقُبح العقليين، أي إن الفعلَ يتصف بالحُسن والقُبح في ذاته، بغضّ النظر عن الأمر والنهي الإلهي. كما يحلّل طبيعةَ الإلزام بالتكليف، وهل هو عقلي أو شرعي، أو هو كلّ منهما، لكننا مع ذلك لا نعثر في المباحث القديمة لعلم الكلام المعتزلي أو الشيعي على مباحث تعالج ماهيةَ القيمِ الأخلاقية، أو تتحدّث عن وظائفِها، أو تشرح مصادرَ الإلزامِ في الفعل والترك الأخلاقيين، وطبيعةَ العلاقةِ بين الوحي والأخلاق. كذلك لا نعثر في علمِ الكلام على مباحثَ تدرس الفضيلةَ والسعادةَ وكيفياتِهما وتكشف عن طبيعةِ العلاقة بين إنتاجِهما وأنماطِ الواقع المتغيرة، والمنابعِ المتنوعة لإلهامهما تبعًا لتنوّع طرائقِ عيشِ الإنسان وبيئاتِه المختلفة.
هذا في علم الكلام المعتزلي والشيعي الذي يتبنّى القولَ بالحسن والقبح العقليَين أي الذاتيَين للأفعال. أما في علمِ الكلام الأشعري فالإشكاليةُ تأخذ صيغةً أخرى، إذ ينفي أبو الحسن الأشعري “260 – 324” عن العقلِ قدرتَه على اكتشافِ الحُسن والقُبح، لأن الحُسنَ والقُبحَ في مفهومه ليسا ذاتيَين يتصف بهما الفعلُ بما هو، بغضّ النظر عن حكمِ الله، لذلك يشدّد الأشعري ومن تبعه على أن الحُسنَ هو ما حسَّنه الأمرُ الإلهي، والقُبحَ هو ما قبّحه النهيُ الإلهي .
وهذا يعني أنه ليس هناك فعلٌ للإنسان يتصفُ بذاتهِ بالحُسن أو القُبح، أو يتصفُ بذاتِه بالعدل أو الظلم خارج نطاق ما يقوله الوحي، ويلزم من ذلك أن العقلَ لا يحكمُ بقبحِ عقابِ المطيع أو ثوابِ العاصي، كذلك يلزمُ منه عدمُ الاكتراثِ بأحكامِ العقل العملي، وتجاهلُ بداهاتِ أحكامِه الأخلاقية. إن دعوى التمسك بقول الوحي تفضي، كما يقول الامام علي بن أبي طالب، إلى أن: “هَذَا اَلْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ اَلدَّفَّتَيْنِ، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ اَلرِّجَالُ” ، وهؤلاء الرجال الناطقون بإسمه هم المفسرون والمحدثون والمتكلمون والفقهاء الناطقون، ونطقهم نيابة عن “اَلْقُرْآنِ” لا يمكن أن يكون متعاليًا على ذاتهم، وطبيعة الواقع الذي يعيشون فيه، فيصبح “اَلْقُرْآنُ” مرآةً تتجلى فيها صورتُهم، ورؤيتُهُم للعالَم، وثقافتُهُم، وأفقُ انتظارهم، وأحكامُهُم المسبقة.
وكما يعجز العقلُ عند الأشعري وأتباعِه عن اكتشافِ الحُسن والقُبح، فإنه تبعاً لذلك لا يمكنه إدراكُ الأخلاقِ والفضيلة والسعادة ووسائلِ بلوغها. من هنا لم يعد للأخلاقِ من حيث هي أخلاق أيُّ مضمون خارج سياق الوحي في علم الكلام الأشعري.
وذلك ما تكذّبه حقائقُ الواقع وما نجده من أخلاقيات عميقة في البنية العميقة للمجتمعات البشرية التي لم تتعرف على الوحي الإلهي، فلو لم تكن هناك نواميسُ كونيةٌ للعدل والأخلاق، وكان كلُّ حُسن يحيل إلى ما يُحسّنه الوحي، وكلُّ قُبح يُحيل إلى ما يقبحّه الوحي، فسيفضي ذلك إلى تفريغِ الأخلاق من مضمونِها، وغيابِ أيِّ فعل أو سلوك أخلاقي في المجتمعات البشرية التي لم تعرف الوحي. ومع أن تلك المجتمعات لم تعرف الأديانَ الابراهيمية، ولم تصل اليها تشريعاتُ الوحي، فإن تاريخَها يبرهن على أن هناك حضورٌ للكلمات والأفعال الأخلاقية في حياة الفرد والجماعة، وأنها تدرك أن للكلمات والأفعال الأخلاقية الأصيلة بصمةً في ضمير العالم، ذلك أن كلَّ كلمة أخلاقية وكلَّ فعل أخلاقي حقيقةٌ أبدية، فلو تكلمتَ بكلمة طيبة، أو فعلتَ فعلاً حسناً، سيكون لكلِّ منهما بصمةٌ في ضمير العالم على شاكلته، الكلمةُ ذاتها تقال عن صاحبها بأبهى صورها، الفعلُ ذاته يعود على صاحبه بأجمل مما فعل، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
الحياةُ الأخلاقية سلسلةُ مواقف، تصنع بمجموعها طوراً وجودياً خاصاً للكائن البشري، إنها الشرطُ الذي يتحقّق به نمطُ حضورٍ إنساني لهذا الكائن في العالم، فهو من دون أخلاقٍ ليس إنسانًا. لذلك لا يعبّر الدينُ عن حضورِه الأصيل في الحياة إلّا من خلال الحياةِ الأخلاقية. الحياةُ الأخلاقية تطرد كلَّ تمثيل للدين يتلفع بأقنعة زائفة، فكلُّ من ينتهك سلوكُه الأخلاقَ يهدر المعنى الإنساني للدين. إن أخطرَ ما يهدّد وجودَ الدين في المجتمع هو ضمورُ الحسّ الأخلاقي في حياة الفرد والجماعة، وتفشي التبريرات والحيل التي تتخفّى بنصوصٍ دينية وتتخذها ذريعةً لتسويغِ انتهاك كرامةِ الناس والتضحيةِ بحقوق الإنسان بوصفه إنسانًا.
وهنا أودُّ الاشارةَ إلى أنه يحدث أحياناً خلطٌ بين ثلاث مجموعات من القيمِ التي ينهلُ منها الانسانُ وتشبعُ متطلباتِ أساسية لحياته المعنوية، وهي: القيم الروحية والقيم الأخلاقية والقيم الجمالية، ولكلّ واحدة من هذه القيم وظيفتها الأساسية، وكلٌّ منها يحقّق كمالًا للإنسان على شاكلته، ويشبعُ احتياجات أساسية لحياة الفرد والجماعة. نعم، هناك علاقةٌ عضوية من التأثر والتأثير المتبادل بين هذه المجموعات من القيم.
وما يهمنا الإشارةُ إليه هنا هو وظيفة القيم الروحية والقيم الأخلاقية، فالقيم الروحية: تشبع الفقرَ الوجودي للإنسان، وتروي الظمأَ الذي يعيشه كل ُّكائن بشري للمقدّس، فتكرّس كينونتَه، وتلهمه القوة، وتمنح إرادتَه توترًا وصلابة. والقيم الأخلاقية: تعمل على إقامةِ بناءٍ سليم للروابط الاجتماعية، وتجعل العلاقةَ بالآخر عادلة، تنشد خيرَ البشرية وأمنَها وسلامَها، لكن القيمَ الأخلاقية لا تثري الفقرَ الوجودي للكينونة البشرية، ولا تروي الظمأَ المزمنَ للمقدس الذي ترويه القيمُ الروحية، لذلك أضحى المقدّس منبعًا لأمنِ النفس وسكينةِ الروح وطمأنينةِ القلب.
الإيمانُ بوصفه قيمةً روحية، يهبنا مالا تهبنا إياه القيمُ الأخلاقية، إذ يمتلك تأثيرًا سحريًا، تتسامى به الأرواحُ فتحلق في عوالم الملكوت. الحبُّ أيضًا، على الرغم من أنه يُسهم في منحِ حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا بالغير الكثيرَ من الأمنِ والدفء والسلام، فتتجلى فاعليتُهُ الأخلاقيةُ في ترسيخِ العلاقات الاجتماعية، لكن الحبَّ بوصفه قيمةً روحية، يهبنا مالا تهبنا إياه القيمُ الأخلاقية. للحبّ كيمياءٌ خاصة تتبدّل معها مادةُ القلوب فيصير جوهرُها نفيسًا. عندما يجد الإنسانُ قلبَه مازال مولعًا بإنتاجِ الحبّ، ويتحول الحبّ إلى طريقةِ عيش للإنسان، فسيكون الأقدرَ على إنتاجِ أجمل معنى لحياته وحياة الناس. إذ إن كلَّ من يتخذ الحبَّ طريقةَ عيش يصبح فنانًا بارعًا، يرسم أجملَ الصور للحياة التي يتبدّد معها الكثيرُ من ظلام العالم.
القيمُ الروحية تخفّف علينا مواجعَ الحياة وجروحَها ونكباتِها، وتكون فاعليتُها في بناء الأمن النفسي أعمقَ من القيم الأخلاقية، فمهما كان موقفُنا وضميرُنا أخلاقيًا، ومهما كنّا صادقين وننشد الفضيلة، لكن لو فوجئنا بنكبة فإنها تستنزفنا، وربما نتهشم بها، لو لم نمتلك رصيدًا روحيًا يلهمنا المزيدَ من الطاقات التي تمكننا من عبور تلك النكبة. لذلك نجد الروحانيين المتيمين بحبّ الله والانسان والعالم، هم الأقدر على عبور نكباتِ الحياة من دون انكسارات وخسارات، وبلا ضياع وانهيارات.