الشعر اليوم ما بين صرخة القلب وروح الحياة..!

خاص- ثقافات

*عمر ح الدريسي

 

في عالم تحترق فيه قلوب الإبداع وتتفحم عليه أجساد المبدعين وتتبلّد فيه أذواق الناس وتتلبَّد على جُدرانه وفضاءاته سُحبُ دُخان سوداء داكنَة وفي سمائه غُيوم قادمة من سماوات  القُطبين المُتجمّدين. الجديد يوما بعد يوم، هو المُعَاينة بخوف متوجس، والوقوف بعجز مريب، أمام هول السؤال؛ كيف تُقتل الآمال ويُوأدُ الخَيَال وتتبخرُ الأحلام؟ عالم تَوحّدَ حصرًا على  تجميل القَبيح  بصفته أنه الأجمل، عالم يجتهد بإصرار، لتسويق المُجمّل القبيح على أنه هو الأجمل قطعًا، عالم اِسْتبلد المتعة الرّوحية  والنفسية والوجدانية والعاطفية للإنسان، واستحلى التشويه والتمييع والإستغواء والتقنيع والتغرير المَادِّي بما هو قشوري، يحمل لمعانا كاذبا، سرعان ما يبهت عند أول نظرة صافية ونقية، ناهيك إن تأملته، فإنك ستحس بالنفور والقرف لما آل إليه الإنسان حقا في هذا العالم. لماذا أصبح العالم مفطوما عَن الشعر الحقيقي؟ هل  هي  أزمة في الشِّعر، في الشُّعَراء، في النقاد،  في القراءة والقراء، أم هي أزمة ثقافة وأزمة مجتمع؟

  • هل الشعر لا زال هو الشعر الذي يُعبر عن الإنسان، عن العالم وما وراء العالم؟

أمير الأديب الفرنسي الشاعر الرائع  فيكتور هيجو صاحب: “إن الله يخلق الشعراء بمرسوم خاص”. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل مازال الشعراء يستحقون فعلا هذا الامتياز، هل الشعر لازال هو الشعر الذي يُعبّر عن العالم وما وراء العالم إنه التعبير الإنساني الخالص، النابع من روحية الإنسان ككائن راقٍ عن غيره  من الكائنات الأخرى،  في تحد لكل ضروب الخطاب اللغوي المُتَزلف المُنَمق الذي  يحبو لاهثا ببوصلة المنافع المادية والمآرب الشخصية والشطط الغريزي بعيدا عن كُنْهِه الطّبيعي، ذالك  الكُنه الذي يعبر عن الطبيعة الإنسانية النّقية  الصافية، باكورة الرّوابي والَمجاري الأنهار والبساتين الغناء  للإبداع أولا وعلوم الآداب والعلوم الإنسانية  والفكرية والإجتماعية عامة؟ هل لازال الشعر هو الكلام السامي على حد وصف أٍرسطو كما قال عنه جلبرت موري  G. Murray“أول محاولة يقوم بها إنسان  ذو عبقرية فذة،  لبناء نظام معقول، في منطقة الفن الخلاق، كهذا النظام الذي سبق أن أٍرسى قواعده، في منطقة العلوم..” أم أن الشعر لم يبارح مكانه في التذكير بالأصول كما  ورد على الشاعر والرسام الأمريكي لورنس فيرلينغيتي: “الشِّعر قد يكون الكلأ في مَرْج الأدب، الذي يُذكّرنا بالجذور. “.

الشعر صرخة القلب، إنشاد فني في قالب موسيقي يخلخل الذّات، قالب ينضح برحيق أينع الورود وأعطر الزهور تحت ظلال الأشجار الوارفة المثمرة والنخيل الشامخ المثقل بِعِذِقِ العَراجين الباسقات، كلام لا يحسن التفكير فيه والتعبير به إلا سيزيفي حقيقي مُعذب، آمل حالم، إنسان  ذو عقل خصب وفطنة حاذقة وخيال ثاقب، إنه سيزيفي أرهقته أحجار وعقبات ومنحدرات جبال الواقع، تستفزه دوماً الأسئلة الحارقة وتُرعبه هاوية المُستقبل السّحيقة، سيزيفي  يُعبر عن جُروح  الآلام الإنسانية وكدمات الظّلم والتسلط الاستعباد، ينتصر للمقهورين  بصبيب دم نازف وعرق جارف، ويكتب عن المهمشين بلهيب الجمر الحارق بأمدة  أحمر الأوجاع الهارق، يحلم بحرية  وكرامة الإنسان وينساب بخيال يخطه بعمق الأنين المالح… يأمل بصدق في بزوغ الفجر ورذاذ الندى وإشراقة نور جديد…

 

  • إحساس الشاعر وسمو عبقريته توقظ الملائكة وتأتي على الشياطين

 

عبقرية الشاعر تسمو وتتعالى عن ما يُكابده هو كشخص، بل يتقمص معاناة من حوله، يسبر  أغور ما تخفيه قلوب النّاس جميعا من غيظ السأم وقيظ الضنك وصوم الغيث وغزارة القسوة، فالعبقرية الشعرية  أساس شعرية الشاعر، يقول زهير بن أبي سلمى: “سَئِمْـتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِـشُ /=/ ثَمَانِيـنَ حَـوْلاً لا أَبَا لَكَ يَسْـأَمِ”، “وأَعْلـَمُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَـهُ /=/ وَلكِنَّنِـي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَـمِ”، إلى أن يقول: “لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُـؤَادُهُ /=/ فَلَمْ يَبْـقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالـدَّمِ”، “وَإَنَّ سَفَاهَ الشَّـيْخِ لا حِلْمَ بَعْـدَهُ /=/ وَإِنَّ الفَتَـى بَعْدَ السَّفَاهَةِ يَحْلُـمِ”.

أما  شاعر التجديد شارل بودلير، شاعر الألم بامتياز، رائد التيار الحداثي  حسب  مارسيل روف،  الشاعر أو العبقرية الشعرية هو أن تصنع القالب لا أن تستعير قوالب أخرى. يقول صاحب  ديوان أزهار الشر والثائر بحق عن المألوف الإنساني الجميل عُمقا، والبارع إبداعا، بودلير:

 “…إن نفسي قبر أطوّف فيه وأقيم منذ الأزل // بثياب راهب ضال // ولا من يجّمل جدران هذا الدير البشع // أيها الراهب الكسول متى أعرف // أن أصنع من حاضر حياتي البائسة // عملاً ليديّ وحباً لعينيّ…” إنه الشاعر الذي تعاظم سامقا بآلامه، يدحض واقعا موبوءا ويثور على قيم لم تنصف عمق الإنسان بل وتدعي الأخلاق”، “كل الوحوش التي تزمجر وتدمدم وتزحف داخل أنفسنا الآسنة الوضيعة، هناك واحد هو أشدها ذمامة وخبثا ونجاسة، وهو إن كان ضعيف الصوت مستعد بجولة واحدة أن يصنع من العالم أنقاضا”، شارل بودلير بجرأته وعفويته وفنيته وإنسانيته انفلت من كل الضوابط، يذكر الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر في تقديمه لأزهار الشر”إن بودلير لاينسى نفسه أبدا، فهو يتأمل نفسه عندما يتأمل الأشياء… إن نفسه مملوءة بنفسه حتى الفيضان”.

الشاعر الكبير ألكسندر بوشكين شاعر الشعب الروسي، بدأ يحفر إسمه في المشهد الأدبي مع رواية الفقراء” عندما قرأ،  الناقد الشهير بلنسكي، مخطوطة رواية الفقراء”،  لم يتمالك نفسه  من الهتاف بحماس متطلعا إلى الكاتب اليانع الشاعر الكبير ألكسندر بوشكين  :”هل تعي أيها الشاب ماذا كتبت؟”، قبل أن يضيف معلقا في مناسبة لاحقة إن لدى  (الشاعر) بوشكين هبة من الله، فمن المستحيل أن يطلع شاب في مثل سنّه على تلك المواطن العميقة من النفس البشرية“.

 

جبران خليل جبران أيضا، أوجز إحساس الشاعر المرهف وحذق عبقريته البالغة مبلغا إنسانيا راقيا ورفيعا بقوله “طلبت الوحدة والإنفراد لأنني لم أحصل على شيء من يد بشري إلا بعد أن دفعت ثمنه من قلبي”. “فهل يبكي البحر لأنّ سمكة تمرّدت عليه؟ كيف تسنّى لها الهروب وليس خارج البحر من حياة للأسماك؟” على حد تعبير الشاعرة والروائية أحلام مستغانمي !!

 

  • الشعر الوحيد من يطرد زيف الكتابة ويعبر فقط عن نقاء الأحاسيس وعبقرية الشاعر

 

التجربة الشخصية والفريدة  التي يعيشها الشاعر الحقيقي في بعض اللحظات وخاصة لحظة انكشاف الحُجب وتجلي الحقيقة له، ومحاولة الكشف عنها اجتراحا، لأنه كُلما “اتسعت الرؤيا، ضاقت العبارةعلى حد تعبير النفري، بعيدا عن الوقوف الحرفي لما ورد في رسالة الغفران للمعري “الشعر قرآن إبليس”  أو ما ورد عن امرؤ القيس” تخيّرني الجن أشعارها فما /=/  شئتُ من شعرهن اصطفيتُ” وهذا ما يؤكده الشاعر الأندلسي ابن اللبانة بصدق مُراده  الصادق من الشعر: “من كان ينفق من سواد كتابه /=/ فأنا الذي من نور قلبي أنفق .!.”أما شاعر النقاء وفيلسوف الأخلاق، صاحب الكتاب الذي أحدث ضجة كبرى في الأوساط الجامعية والأكاديمية إلى يومنا هذا الموسم  ب”مولد التراجيديا” الألماني  فريديريك نيتشه الذي أفصح في أحد قصائده الشعرية على أن الكتابة لابد وأن تكتب بالدم:”… اكتب بدمك فتعلم حينئذ أن الدّم روح // وليس بالسّهل أن يفهم الإنسان دماً غريبأ…” فتساءل نيتشه إن كان يكتب بدمه، وإن كانت الحروف ستفرغه كليا من دمه حتى الموت.

إلا أن صاحب جناحي الشعر، الشاعر و والفيلسوف بشلار فقد صاح “آه! كم يتثقف الفلاسفة إذا هم قبلوا بقراءة الشعراء” وأضاف باشلار في إحدى رسائله للشاعر  لوي غيوم : “قصيدتك فيها كثير من العمق بحيث أنها تشرف الفلسفة.” غير أن سلفهم جميعا من بعد أرسطو طبعا، الحكيم الأديب الشاعر البصير العميق البليغ، ابن معرة النعمان الذي فك عنها الحصار العسكري وقت حياته وحين سئل كيف تم ذالك مع قائد عسكر العدو قال “ فيسمع مني هديل الحمام /=/ وأسمع منه زئير الأسد“، هو الذي الذي تأسف لحال ووضاعة وسخافة الواقع ومن يعيش فيه وكأنه بين ظهرانينا اليوم، وكأنه ليس هو الذي آواه التراب منذ قرون خلت؛ يقول المعري: “غير مجد في ملتي واعتقادي /=/ نوح باك ولاترنم شاد”. من يريد الحياة، يحب الإنسان بحب، عليه أن يعيش للقصيدة ” من يعيش للقصيدة، عليه قراءة كل شيء”. إن محاور القصيدة والعلم هي أولاً متعارضة.  كل ما يمكن أن يطمح إليه الفيلسوف هو جعل القصيدة والعلم متكاملان، وتوحيدهما كمتعارضين محكمين”، يؤكد الحكيم الإبستيمولوجي باشلار.

  • الشاعر وحده من يستطيع تخليد أصدق المشاعر الإنسانية وأسمى حب عاطفي وروحي

إذا كان الشعر أرقى وسيلة للتعبير الإنساني الخالص عن إنسانية المتجلي في رقيه وحكمته بل وحبه الصادق وبليغ عفويته في التعبير، منذ الأزل فسيبقى كذالك إلى الأبد، يقول قيس بن الملوح (مجنون ليلى):” لقد ثبتت في القلب منك محبة  /=/  كما ثبتت في الراحتين الأصابعُ”، ليس ذالك عند أمة العرب وحسب وإنما لدى كل الأمم، التي تنتقل من بدايات النشوء وتعثُّر الرّقي، إلى التدرج نحو التحضر والتعبير بالشعر عن ماهيتها الإنسانية والثقافية الحضارية يقول معروف الرصافي” فكيف تظن بالأبناء خيراً /=/ إذا نشأوا بحضن الجاهلات!.

والشعر هو لغة سامية،  بوح الشعراء الأصفياء، وحكمة الفلاسفة الحكماء، وسند الشرفاء والصُّلحاء الأتقياء، وعدو الطغاة والمفسدين،  وزاد الشعب والضعفاء، وفخرهم بين الأمم.  يقول أبو العتاهية “إذا المرء لم يُعتق من المال نفسه /=/ تَملكه المال الذي هو مَالكه“.

إلا أن الصفاء في شعر الشعراء يبدو أكثر جلاءا وازهى لمعانا وأبقى خلودا  وهم القادرون على إظهر هذا الجمال المطلق وسَريانِه في كلِّ التعيينات الجميلة، مع بقائه هو على ما هو عليه من الإطلاق، وهذا الذوقُ هو الذي يكشف، لمن تحقّقَ به، أنَّ الوجودَ الواحدَ المطلقَ قد تَعَشَّقَ ذاتَه، وسرى في عين العاشقِ وعين المعشوق، فهو لُبْنى وبثينةٌ وعَزَّةٌ، وهو قيسٌ وكثيِّرٌ وجميلٌ،  يقول ابن الفارض في تائيَّتِهِ الكبرى من ديوانه:

“فكلُّ مليحٍ حُسنُهُ من حُسْنِهــــــــــا /=/  مُعارٌ لها، بل حُسْنُ كلِّ مليحَـــــــةِ

بهــــا قيسُ لُبْنى هامَ بلْ كلُّ عاشقٍ /=/  كَمَجْنــــــــــونِ ليلى أَوْ كُثَيِّرِ عَزَّةِ

وتَظهرُ للعُشّـــــــاق في كلِّ مَظْهرٍ /=/ من اللَّبْسِ في أَشكالِ حُسْنٍ بَديعـةِ

ففي مَرَّةٍ قَيْساً وأُخـرى بُثَيْنَــــــــــةً /=/ وآوِنَة تُدْعى بِعَزَّةَ عَــــــــــــــزَّتِ

وما ذاك إلاّ أنْ بَدَتْ بمظاهـــــــــرٍ /=/ فَظَنّوا سِواها وهي فيهــــا تجَلَّتِ

وما القومُ غيري في هواها وإنمّـــا /=/ ظَهرَتْ لهم للَّبْسِ في كلِّ هيئــــةِ

بَدَتْ باحتجابٍ واخْتَفَتْ بمظاهــــرٍ/=/ على صِبَـغِ التَلوينِ في كلِّ بَرْزَةِ”.

خــــلاصـــة

ربما كان الشعر ولازال، هو نبع العين الزلال، ومجرى النهر الغدير الحابل بالأسرار، الشعراء فقط هم القادرون، بقلوبهم الخالصة وأحاسيسهم النقية ونياتهم الصافية ورؤاهم الصادقة، على حراسة نبع العين ومجرى النهر ونقاء الغدير وسقي الضفاف والروابي بالماء العذب الزلال، لبعث الروح في الحياة الميتة من جديد يقول الشاعر أمل دنقل “ لا تصالح ولو منحوك الذهب // أترى حين أفقأ عينيك // ثم أُثَبِّت جوهرتين مكانهما // هل تَرَى؟ // هيَ أشيَاء لَا تُشتري” أما العظيم محمود درويش فيورد في قصيدته عابرون في كلام عابر: “ أيها المارون بين الكلمات العابرة // منكم السيف ـ ومنا دمنا // منكم الفولاذ والنار  // ومنا لحمنا // منكم دبابة أخرى ـ ومنا حجر // منكم قنبلة الغاز ـ ومنا المطر // وعلينا ما عليكم من سماء وهواء // فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا // وعلينا نحن إن نحرس ورد الشهداء // وعلينا نحن إن نحيا كما نحن نشاء!“.

 

عمر ح الدريسي

drissi-omar1@live.fr  

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *