*شوقي بزيع
لم يكفّ البعض في العقود الأخيرة عن التهليل لصعود الرواية وترسيخ حضورها في العالم، والاحتفاء بما حققته في فترة وجيزة من الزمن من نجاحات متلاحقة وكشوف غير مسبوقة، وهم في واقع الأمر ليسوا ببعيدين عن الحقيقة، إذ يكفي أن نتابع حركة المطابع ودور النشر، والأرقام العالية للمبيعات، والازدياد المطرد لقراء الروايات، فضلاً عن الجوائز المادية القيمة التي باتت تمنح لكتابها، لنتأكد من تصدّر الرواية للمشهد الثقافي المعاصر، كما لو أنها ديوان الأرض وحافظة ذاكرتها من التلف..، إن أي تنكر لهذه الظاهرة المتنامية شرقاً وغرباً ليس سوى ضرب من ضروب التعمية والتضليل ودفن الرأس في الرمال، والأجدى بدلاً من ذلك هو الرؤية إلى فن السرد الفتي بوصفه قيمة مضافة إلى المكتبة الكونية، كما إلى وجوه المعرفة وأشكال التعبير، والأجدى أيضاً هو اكتناه الأسباب العميقة لصعود هذا الفن، وبسرعة قياسية، نحو السدة العالية التي تبوأها في عالم اليوم، كتابة وقراءة ومكانة ومحلاً للمتابعة والاهتمام.
سيكون من نافل القول الإشارة إلى أن الرواية، بما تحمله من سمات التعدد والتغاير والعلاقات المعقدة بين الإنسان ومحيطه، هي فن مديني بامتياز، حيث السرد وحده يمكن أن يتجول متحرراً من أي ثقل بلاغي في «نثريات» الحياة وشواغل البشر وتفاصيل العيش وفي التاريخ الغفل للبشر العاديين، لكن المسألة، أبعد من ذلك، تتعلق بحاجة الأرض الخارجة من الأتون الدامي لحروبها الكونية المتلاحقة إلى «هوميروسات» من نوع آخر لتأريخ ملاحمها العظمى عبر لغة مبسطة ولينة وسهلة التناول، ولمنع ذاكرتها من الاضمحلال أو التلف، ولم يكن ازدهار الرواية التاريخية بهذا المعنى سوى وجه من وجوه انتقال الأحداث والسير المنسية من خانة حكواتيي المشافهة والإثارة الصوتية إلى خانة الحكاية المكتوبة والسرد المدون. لقد ناءت هذه الكرة الهرمة تحت أطنان من أثقال الماضي وأعبائه، وباتت تجد في الروايات والقصص طريقتها الأنجع للتخلص من الحمولة الزائدة للذاكرة الجمعية، وما يصح على الجماعات يصح على الأفراد، فالقارئ المترنح من الإرهاق وصعوبات العيش يجد في الرواية فرصته الأثيرة للاستقالة من حياته الفعلية والإقامة في حياة موازية يستطيع عبرها أن يتماهى مع الأبطال في حالات انتصارهم وسعادتهم، ويستطيع بالمقابل أن يتركهم إلى مصائرهم حين تنحدر إلى نهاياتها الفاجعة، وأن يفلت من غيبوبة القراءة كما يفلت النائمون من الكوابيس. كما تتيح الرواية لقارئها سبيل التلصص على الحياة، بما يتيح له أن يكون المشاهِد الخفي لا المشاهَد المراقَب، وأن يكون المتفرج لا اللاعب، والجمهور لا الممثل، والأمر نفسه يحدث في قاعات السينما، التي تشكل الرواية مادتها ونسيجها، حيث لا تنسدل الستائر على القاعة وحدها، بل على حيواتنا الأصلية التي نتركها وراء الأبواب لكي نعيش في كنف الحيوات البديلة التي تتحرك على الشاشة المقابلة.
لا يوفر الشعر لقرائه بالمقابل، وبخاصة في الأزمنة الحديثة، ما توفره الرواية لهم، ليس فقط لأنه يلاحقهم بطروحاته الإشكالية والميتافيزيقية المقلقة، ويضعهم وجهاً لوجه أمام أعقد الأسئلة المتعلقة بجوهر الوجود ومعنى الحياة نفسها، بل لأن سياقاته المعقدة والبعيدة عن الوضوح ولغته القائمة على الاختزال والتكثيف والإيحاءات الملتبسة، يتطلبان من القارئ جهداً بالغاً في سبر أغوار المعاني وتركيزاً على اكتناه الدلالات لا يتناسبان مع حاجته الماسة إلى الراحة واللغة المبسطة والمتع العابرة، وفي حين يتماهى قارئ الشعر مع الشاعر في مكابداته التعبيرية المضنية، فهو في الرواية لا يتماهى مع المؤلف بل مع الأبطال الذين لا يتطلب التماهي معهم أي غرامة مكلفة، وإذا كان الشعر يوفر لقرائه نوعاً من اللذة المتأتية عن مباغتات المجاز والصور المدهشة، وفق رولان بارت، لكن هذه النشوة تحتاج إلى دربة وعناء طويلين لا يتوفران إلا للنخب المثقفة والضيقة، فيما غالبية البشر تستمرئ الراحة والاسترخاء والكسل الذهني، إن عدة الشاعر التي تقوم على البلاغة والتأويل والإيقاع وتناظرات الجمل الموحية تتحول في معظم الأحيان إلى عدة ضارة بالرواية التي تسهل ترجمتها لأن «مشروعها الفعلي لا يقوم على الكلمات بل على المشاهد والأحداث والأشخاص»، وفق ما يراه الناقد الإنجليزي كريستوفر كودويل.
لكن ذلك لا يعني بأي حال تغاضياً عن مناطق التداخل المشتركة بين النوعين، حيث اقترحت لغة السرد على الشعر التخفف من تكلفه وزخرفه وحمولته البلاغية الزائدة، لمصلحة الليونة الأسلوبية والبناء الدرامي والاشتغال على السيرة، كما على اليومي والتفصيلي، أما الشعر بالمقابل فقد منح الرواية الكثير من نضارته وعصبه وبروقه الخاطفة التي تلمع في لحظات ومواقف مختلفة من فضاءات السرد ومناخاته، شرط أن لا نضع «الندى في موضع السيف» وألا نفْرط في شعرنة الرواية من جهة، وفي إرهاق الشعر بالسرد من جهة أخرى، ومن نافل القول: أن أشير أخيراً إلى أن الشعر ليس أب الفنون المريض الذي يحتاج الجميع إلى قتله لكي يتحرروا من وطأته وسطوة حضوره، حيث لا رواية من دونه ولا موسيقى ولا لوحة أو منحوتة، وهزيمة الشعر بالتالي ليست هزيمة للفنون وحدها، بل للروح والمعنى وجوهر الحياة نفسها، وهو لو تراجع كنوع مستقل، وفي لحظة ما من تحولات العصر وتعقيداته، فإن الشعرية كماهية للوجود وزاوية للنظر وتوق إلى الجمال، لن تتراجع أبداً، وليس علينا بالتالي أن نختار بين مقولة أدونيس حول «زمن الشعر» ومقولة جابر عصفور حول «زمن الرواية»، حيث يمكن للزمن الواحد أن يتسع لغير فن من الفنون، ولغير وجه من وجوه الإبداع.