محمود درويش: قصيدة النثر الموزونة

*منصف الوهايبي

في شهادة لي عن تجربة محمود درويش، نُشرت في حياته، أشرت إلى أنّه وإن كان يستنبت نصّه في تربة الميثولوجيا الفلسطينيّة، فإنّ قصيدته تفيض عن هذه الميثولوجيا وعن الشعر، فنرى فيضها يغطّي سرير الغريبة، بل يصل إلى أبعد من زهر اللّوز.
وفي لقاء بعدها في تونس، في بيت الشعر، تجاذبنا حديثا خاطفا، فهمت أنّ ما استرعى انتباهه في شهادتي، إنّما هو كلامي عن «قصيدة النثر الموزونة». وكنت ذكرت أنّها شعريّة ترقّق ما اخشوشن من نسيج العربيّة بفعل البلاغة، وكاد يتمزّق بفعل الفصل المريب بين نظامي الشّعر والنّثر. وأحسب أنّ درويش فلح أرض الشّعر فلحا آخر، وأجرى فيها ماء النّثر.
إنّ شعريّة درويش، خاصّة في تجلّياتها الأخيرة تنفتح على النّثر لا لتقوله نثرا وإنّما لتقوله شعرا، وإن كانت تقوله في الوقت نفسه نثرا، لكنّها لا تقوله كذلك، وهو في موضعه المألوف، وإنّما في غير موضعه كما الأشياء في غير سياقها المألوف. لكن كيف يفلح درويش أرض الشّعر بالنّثر؟ قصيدة درويش (قصيدة تفعيلة) ـ على قلق هذه التّسمية إذ لا وجود لهذا المصطلح في المدوّنة العروضيّة القديمة ـ والتّفعيلة من جهة القياس أداته المألوفة، لكنّه ما كفّ بها هو وغيره عن قول عمود الشّعر من أجل أن يقولوا بها القصيدة الحرّة، بدون أن تكفّ هي عن أن تكون تفعيلة، ولكنّها تفعيلة في «منظوريّة» جديدة باصطلاح فلاسفة الفينومينولوجيا، إذ يتلفّت بها ناحية النّثر فيطعّم قصيدته بسرديّة خاطفة أو مطوّلة وبمفردات اليوميّ والمعيش، ويخلّصها من الإسراف في التّنغيم، بدون أن يمنعها ذلك من أن تكون نصّا شعريّا إنشاديّا.
ما يعنيني في السياق الذي أنا فيه، أنّ شعراء قصيدة النثر عندنا، لا يتصوّرونها إلاّ خارج الأوزان المعروفة، وأنّ أكثر شعراء الموزون لا يتصوّرون الشعر خارج الوزن. وهذا على ما أرجّح فهم قاصر، قد ينمّ عن أنّنا لا نتقبّل أنّ الأشكال الفنّيّة أو الأجناس الأدبيّة، يمكن أن تموت هي أيضا، وأن تنتسخ، وتتحوّل وتُبعث في هيئات جديدة. ربّما ثمّة شيء فينا جميعا، بنسبة أو بأخرى، من رواسب «عقل متوحّش»، وكان «البدائي» أو «المتوحّش» يتقبّل الموت الطبيعي بعنت وصعوبة، بل كان الموت في تصوّره الأسطوري، والأسطورة ديانة ميّتة، ضربا من القتل. وربّما لا مسوّغ لذلك سوى عدم وعيه بفكرة القانون، أو لأنّه كان يحيا في الطارئ أو العارض.
وفي تراثنا، يمكن من منظور كتابيّ، أن نعدّ القرآن «مؤسّسة كتابيّة» فصلت بين الشعر (القصيدة) والقرآن، وليس بين الشعر والنثر. فقد كانت دراسة اللّغة وجمعها وتصنيفها، وبيان تصاريفها ومطارح اللّسان فيها تبعا له ـ مثلما كانت للشعر ـ وفروعا عنه. ولسنا نتمحّل إذا قلنا إنّ «نحو الأدب» الذي أسّس نظام الكتابة الأدبيّ عند العرب، كان في جانب كبير منه من «نحو» الشّعر والقرآن. وينبغي ألا تضلّلنا بشأنه مواقف القدامى أو المعاصرين، من الذين نزّهوا لغة القرآن عن كلّ شبهة وحكّموها في اللّغة والشّعر جميعا، وجعلوها في مقدّمة الشّواهد، ولم يرضوا الاستشهاد بالشّعر للقرآن. فقد كان ذلك لحرج دينيّ منهم، وإن سوّغه بعضهم بما طال الشّعر من تصحيف وغلط في الرّواية وخلط في ما يقوله الشّاعر، وسمته بالشّبهة ودفعت به إلى مواطن الرّيبة والشّك، بل إنّ بعض هؤلاء الذين ارتضوا للشّعر مكانة أدنى من القرآن، كثيرا ما اتّخذوه مرجعا «للنّص» يلتمسون فيه ما استغلق من غريبه واستحكم من معانيه. وهل ثمّة أبلغ من قولهم «هذا شعر وربّ الكعبة»، وقائلوه من شعراء مكّة، وقد شدّهم القرآن، في سوره المكّيّة التي يعلو فيها الانفعال، بنوع كتابته وهم الذين حاروا فيه، والوحي قريب العهد إليهم، فمن قائل إنّه شعر أو سحر، وقائل إنّه أساطير الأوّلين أو سجع الكهّان، وقائل ينزّهه عن هذا كلّه، فما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة. وفي هذا الزّعم أو ذاك تسليم بأثر أساليب القرآن وبيانه في نفوسهم، أي بما هو منضو إلى النوّع، و«الحسن» و«الممتع» أو راجع إلى الوظيفة الشّعريّة أو الجماليّة أو إلى»الغريب» أو «غير المتوقّع». وما كلامهم في مباحث الإعجاز، والوحي بعيد العهد عنهم، على «مفارقة القرآن لكلام العرب» و«خروج نظمه عن سائر نظومه» سوى تسليم بنوع من «بيان القلم» لم يكن للعرب به سابق عهد.
هذا وغيره يعزّز من وجاهة القول بأنّه لا وجود لشعر صاف، كما كان يزعم مالارميه، وهو ينشد لغة كليّة جديدة مدارها على علاقة حميمة بين الصوت والمعنى، حيث الإيقاع يحرّر الكلمة من سطوة الكلام العادي، ويكشف عن وهن اللغة أو قُصورها. وعلى الرغم من أنّ مالارميه كان يستأنس ببودلير، فإنّهما يكادان لا يلتقيان إلاّ في حبّ أدغار ألان بو. ومنه تعلّم أنّ الشعر ليس إلهاما كما يزعم الرومانسيّون، وإنّما هو حاصل مِراس ودربة، بل هو صنعة بالمعنى العميق للكلمة. والإلهام «ربّة شعر مهذار»، والشعر ليس لعبة مصادفات لغويّة على نحو ما نجد عند شعراء عرب وغير عرب، من كتّاب قصيدة النثر. إنّما الشاعر مفكّر له لغته الشعريّة الخاصّة، وقد تكون عادية في جانب منها، ولكنّها ليست لغة التواصل العادي، إذ هي تنشأ في تلك المسافة الخاوية التي تتركها خفقة جناح الطائر. وصحيح أنّ ملارميه تخلّى عن الوزن وانصرف إلى الشعر الحرّ، ولكنّه ظلّ دائما يحلم بكتابة ما هو صامت في اللغة أو ما هو زئبقي، وكأنّ همّه أن يمسك بالشذى لا بالوردة، أو بـ«إيقاع الفكرة» وهو المعنى اليوناني للموسيقى. ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في قصيدته الشهيرة «رمية النرد»: «أبدا لن تعطّل الصدفةَ رميةُ نرد»، وفي مزاوجته بين الصور الحفريّة والصور المطبوعة. وأقدّر أنّ محمود في قصيدته «لاعب النرد» كان يلعب لعبة قصيدة النثر، ولكن داخل الوزن. وقد درّست هذه القصيدة، واكتشفت أنّ مدارها على الإيقاع الذي يملأ كلّ المكان الفلسطيني، سواء في الحياة اليوميّة أو من حيث هو خبرة أو تجربة، بل في الخطاب العالِم من حيث هو مرجع مثل المقطع العجيب الذي يستحضر فيه محمود حالته المرضيّة الوراثيّة، ثمّ يفرّعها إلى استعارات غير مألوفة:
وانتميتُ إلى عائلةْ
مصادفَة،
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمراضها :
أَولا ـ خَلَلا في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ
ثانيا ـ خجلا في مخاطبة الأمِّ والأَبِ
والجدَّة ـ الشجرةْ
ثالثا ـ أَملا في الشفاء من الانفلونزا
بفنجان بابونج ٍ ساخن ٍ
رابعا ـ كسلا في الحديث عن الظبي والقُبَّرة
خامسا ـ مللا في ليالي الشتاءْ
سادسا ـ فشلا فادحا في الغناءْ
إنّ ما نسمّيه (قصيدة النّثر) ـ على قلق التّسمية، والغريب أن نحتفظ بها نحن العرب، على حين أهملها واضعوها من الأوروبيّين، إذ وجدوها غير لائقة بهذا الشّعر المكتوب خارج الأوزان المأثورة ـ يمكن أن تكتب داخل الوزن، كما نجد عند سعدي يوسف مثلا، أو عند درويش في مجاميعه الأخيرة حيث تتخفّف (الشّعريّة) من شعريّتها، أو ما زاد منها على الحاجة أو من فضل القول بعبارة أسلافنا، أو من أجل «جماليّة أقلّ» بعبارة محمود نفسه، في حوار عميق أجرته معه مجلّة «الشعراء» الفلسطينيّة. ودرويش يكتب قصيدة النّثر بامتياز ولكن في حدود شعريّته الخاصّة أي الموزونة.
قد يكون المشكل إذن مشكل لغة واصفة، لم تفلح بعد في جسر الهوّة بين الشعر والنثر، ولم تدرك أنّ الإيقاع هو الذي ينهض بتنظيم المعنى في الخطاب، أو هو الذي يستكشف معنى الملفوظ، أو هو الكوّة الأمثل في شبكة القراءة. ولعلّ إنشاد محمود لقصيدته هذه، أن يُجلي مظهرا آخر من إيقاع «التّنبير» عنده حيث يقع النّبر على المقطع الأخير في وضع التنكير، ويقع على المقطع الأوّل من الكلمة في وضع التعريف، وهو في الحروف الشّمسيّة أطول منه في الحروف القمريّة. فثمّة نبر موقعه مقطعان قصيران ونبر موقعه مقطع قصير واحد.
الشّاعر الحقّ كما كتبت في شهادتي عن محمود، هو الذي يجيد التّعامل مع ثنايا اللّغة، أي طيّات صّرّة العلامات والرموز التي يحملها الإنسان، وهو الذي يجيد طرحها وثنيها، يطرح الذي جعّده الكمش وشوّه مرآه، ويطوي أو يثني ما شطّ به البسطُ حتّى كادت تتمزّق حواشيه. وأنا أنوّع ها هنا بحسب السياق الذي أنا به، على مقولة الطّيّة لدى جيل دولوز.
هكذا تقيم لغة في اللّغة أو هكذا أحسب الأمر، أو هكذا يتهيّأ لي، أو هكذا يقيم الشعر في النثر، والنثر في الشعر.

______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *