خاص- ثقافات
*محمود شقير
عبد الغفار، صاحب أعلى بناية في الحي، البناية التي ثَمّرها من عرق جبينه كما يدّعي باستمرار، يتمشى فوق سطح البناية وهو يفكر مهموماً بأمر الكلاب الضالة التي تقضّ مضاجع الحي بنباحها، الذي لا ينقطع طوال الليل، وهي تزعج بنباحها عبد الغفار أكثر من سواه، لأنه يسكن في أعلى موقع في الحي، ما يضطره إلى سماع نباح الكلاب من كل الجهات ولا ينام. عبد الغفار مشغول البال: قلت لأهل الحي تعالوا نشكّل لجنة للنظر في أمر هذه الكلاب، إنها ثلاثمائة كلب! لو تعلّق الأمر بكلب واحد أو كلبين، لقلنا الأمر هيّن، لكنها كلاب كثيرة، هربت من الأحياء التي يقوم جيش الاحتلال بإطلاق القذائف على بيوتها دون انقطاع، وجاءت إلى حيّنا الهادئ لتقيم فيه! (هادئ بفعل الصدفة أو لسبب آخر لا يعرفه عبد الغفار) تشاورتُ في الأمر مع ابن عمتي عبد الستار، قلت له يا ابن الحلال ومالها اللجنة، إذا كان بولمرت (المقصود إيهود أولمرت رئيس بلدية القدس) يريدنا أن نشكّل لجنة لحيّنا، تمهيداً للنظر في أمر الكلاب، فلماذا لا نشكل اللجنة ونريح رؤوسنا؟ لماذا يا عبد الستار؟
العبيط الجاهل يسألني لماذا؟ أهذا سؤال يُسأل يا عبد الغفار؟ ألم أحذرك منذ أن صادر الإسرائيليون أرضنا وبنوا عليها مستوطنة لليهود القادمين من بلاد الروس، ألم أقل لك من يومها: لا تفكّر يا عبد الغفار بتشكيل لجنة بناء على طلبهم الذي لا يخلو من أغراض خبيثة؟ ألم أقل لك ذلك يا عبد الغفار؟
كم هو متشدّد ابن عمتي عبد الستار، يتباهى علينا لأنه يفهم في السياسة. الكلاب الضالة جعلت عيشنا مثل الهباب، وعبد الستار يرفض تشكيل اللجنة. قال يا سيدي، هذا معناه الانصياع لرغبات المحتلين، والظهور بمظهر المتعاون معهم، الراضي عن كل تصرّف من تصرفاتهم. ابن عمتي عبد الستار متناقض في سلوكه، يرفض التعامل مع البلدية بخصوص تشكيل اللجنة، ويتعامل مع وزارة الداخلية بهذا الشكل أو ذاك. منذ سنوات وهو يجلس فوق كرسيه وأمامه الآلة الكاتبة فوق الرصيف المقابل لوزارة الداخلية، يطبع الطلبات لمن يريدون أن يجدّدوا بطاقات الهوية، أو يرغبون في الحصول على تصاريح السفر، أو في استخراج شهادات ميلاد لأطفالهم. أنا لدي تحصيل علمي أفضل من عبد الستار، أنا حصلت على المترك وعملت مدرّساً طوال ثلاثين سنة، وعبد الستار لم يدرس في المدرسة أكثر من ست سنوات، يعني تحصيله ابتدائي، ومع ذلك، فهو يتباهى بنفسه ويدّعي بأنه يعرف في السياسة أكثر مني! أي طز في هيك معرفة. منذ أن صادروا أرضنا وعبد الستار يرفض التوجّه إلى رئيس البلدية، منذ ذلك الوقت وهو يتوجه إلى الأمم المتحدة، يعني لكي يؤكد لي أنه يعرف في السياسة أكثر مني، يرسل إليها المذكّرة تلو الأخرى، وعليها مئات التواقيع، تواقيعنا نحن بطبيعة الحال، للتدخل ولإعادة أرضنا المصادرة إلينا. فلم تقم الأمم المتحدة بأي جهد ملموس، مذكراتنا ذهبت عبثاً، ذهبت أدراج الرياح.
عبد الغفار يعيرني دائماً بهذا الأمر، يقول: مذكّراتنا ذهبت أدراج الرياح، عبد الغفار ما زال يتذكر أدراج الرياح هذه منذ أن كان يعلم الإنشاء لتلاميذه قبل سنوات طوال، لكنه لا يستطيع أن يخدعني لمجرّد أنه ملمٌّ ببعض المصطلحات اللغوية، إنه ليس مثقفاً. أنا مثلاً، لم أتمكن من إتمام دراستي بسبب سوء أحوال أبي، لكنني ثقّفت نفسي، أقرأ الجريدة كل يوم تقريباً، عبد الغفار لا يقرأ الجريدة، يعتبر ذلك مجرد تضييع للوقت، وهو يعيرني دائماً: ضاعت الأرض، ولم تنفعنا الأمم المتحدة يا عبد الستار، والمستوطنة نمت فوق أرضنا، وجعلت نعمان ابن أختي بنصف عقل، ولولا أن الله سلّم لكان نعمان الآن بين الأموات.
فعلاً، لولا أن الله كتب لي السلامة لكنت الآن بين الأموات، لكنني لست بنصف عقل كما يدعي خالي عبد الغفار وبقية أبناء هذا الحي الملعون. هل الذهاب إلى المستوطنة حرام؟ قولوا لي يا عباد الله. أنا لا أذهب إليها لأي هدف خاص. أنا أذهب إليها للتمشي فوق أرض أبي التي صادرتها سلطات الاحتلال، أتمشى فوقها وأقول لكل من أراه: هذه أرض أبي وهي لي، ومن يقول غير ذلك فهو قوّاد. وأهل الحي، يقولون: آه منك يا ضلالي، تذهب للتلصّص على بنات المستوطنين وللتفرّج عليهن وهن يخلعن ثيابهن قبل النوم، ولم تتوقّف عن ذلك إلى أن خرجوا إليك بالعصي والبنادق! مليح أنهم ما طخّوك يا مهبول! مليح أنهم اكتفوا بضربك بالعصي حتى فقدت نصف عقلك.
أنا فقدت نصف عقلي؟ فشرتم. أنا ذهبت للتلصّص على البنات؟ فشرتم. أنا لي فتاة في الحي، وهي تنتظرني وأنا أنتظرها، بس الحق على أمي وأبي اللذين ما زالا يرفضان خطبتها لي، ويرفضان زواجي منها على سنة الله وسنة رسوله. أنا لا ألوم أمّي وأبي فقط، أنا ألوم خالي عبد الغفار كذلك.
الولد نص بني آدم وحيله كبير. قال يا خالي عبد الغفار اخطب لي نهلة، بنت تاجر الأعلاف. قلت له يا نعمان، هذي بنت رجل ميسور الحال، وهي تدرس في الجامعة، ولا يمكن أن تقبل بك زوجاً لها، هذي يمكن عينها على مهندس أو دكتور. ابن أختي، نعمان، قال: عبّود والربّ المعبود لن أتزوّج إلا نهلة. قلت له امش انقلع، وخليني في همي، الواحد ما عاد يعرف كيف ينام من النباح، وأنت قرقعت لي رأسي، حِلْ عني يا ولد، لازم أفكّر في حلّ لمشكلتنا مع الكلاب.
وفي ليلة ما فيها ضوء قمر، تذكّرت الأمين العام، وقلت أين أنت يا ابن عمتي عبد الستار.
ضرب لي تلفون وقال تعال لي في الحال يا عبد الستار. قلت: في هذا الليل الأغبر يا كافي البلاء يا الله! رحت عنده ومعي عدد من أبناء الحي، رآنا نعمان ونحن نمشي بعجلة في الطريق، تبعنا مثل ظلنا، ولم نعره أي انتباه. قلت: ربما وقع شجار بين عبد الغفار وبعض الجيران، أو ربما مرض شخص عزيز في بيت عبد الغفار. وصلنا الدار، قلت خير يا عبد الغفار! قال: أي خير وهذه الكلاب لا تجعلنا ننام يا عبد الستار؟ انجذب أبناء الحي الذين جاءوا معي فوراً إلى هذا الكلام:
_ والله الواحد قرف حياته من كثرة النباح!
_ والله الواحد اشتهى يسمع المسلسل مثل الناس. نباح، نباح، طيّب بدنا نسمع المسلسل، دخيل الله!
_ الواحد مع مرته واولاده بطّل يعرف يحكي. نباح، نباح، ول، شو هاظ!
قال نعمان:
_ أي بطّلت أقدر أسمع صوت نهلة وهي تغني خلف الشباك.
_ دير بالك لتروح نهلة ترمي لك حالها من الشباك.
لم يقل نعمان شيئاً، اكتفى بتحريك سواد عينيه ذات اليمين وذات الشمال، كأنه يقول لنا: آه منكم يا أوباش. قلت وأنا أضرب أخماساً في أسداس غير عارف ما يجول في رأس عبد الغفار:
_ والنتيجة، ماذا تقترح يا عبد الغفار؟
_ نرسل مذكّرة إلى الأمين العام، لعله يتدخل ويخلّصنا من هذه الكلاب.
_ على الأقل خلّيني أقدر أسمع صوت نهلة وهي تغني خلف الشباك.
_ أسكت يا ولد، نهلَتك علّة. ما رأيكم في هذا الاقتراح؟
_ والله إنه اقتراح معقول.
_ أي خلي الواحد يعرف يسمع كويس لما يفتح التلفزيون.
أنا قلت بيني وبين نفسي: هذا عبد الغفار شطّب وما ظل في رأسه عقل مثله مثل نعمان، قلت: لعله يمزح، لكنه كان جاداً تماماً، ثم انفتح الكلام على مصراعيه لأبناء الحي الذين جلبتهم معي، للتحدث عن مآثر الأمين العام.
_ اسمه كوفي عنان، والله إنه ابن حلال. هيك، من منظره على التلفزيون أنا أقول إنه ابن حلال.
_ شكله تقول انه عربي، بس ليش اسمه كوفي، ول ع الشيطان، أي هي الأسامي مشترى. لو ان والده سماه مصطفى، مصطفى عنان! أو، لو انه سماه عبد الرحمن!
_ يا خيي، الرجل مش عربي. بدك تقلب طاقيتي انت؟ مش عربي.
_ مش عربي، معناه مسلم.
_ يا آدمي ولا هو مسلم.
_ لعاد، نرسل له رسالة ندعوه فيها إلى الإسلام.
_ يا آدمي، لا تهد من أحببت، إن الله يهدي من يشاء.
_ أنا سمعت ان الرجل رايح يعلن إسلامه عن قريب.
_ يا أوادم، خلونا نركز على موضوعنا. وبعدين يعني!
_ أحلف بعيون نهلة، إني امبارح في الليل، شفته ماشي في الحي، ماشي ومتخفّي عشان يشوف شو فيه عندنا مشاكل.
_ يا ولد يا نعمان، اسكت، اسكت، والله غير تخليه مثل عمر بن الخطاب.
_ وحياة نهلة، قلت له مسا الخير يا عمي كوفي عنان. تطلع في وجهي وظل ماشي بدون كلام.
_ شفت عاد يا خسيس. هذا مش كوفي عنان.
_ أنا بقول كوفي عنان.
_ أسكت بلا هبل، أسكت.
قلت في سري: والله ما فيه أهبل غيرك يا عبد الغفار. ماذا جرى لعقلك؟ قلت:
_ يا عبد الغفار، كوفي عنان رجل محترم، يعني فكرك إنه ما عنده مشكلة غير الكلاب الضالة التي لا تجعلك تنام!
_ يا عبد الستار، خلي عندك شوية عقل، إذاً، لماذا سمّوه: الأمين العام! لأنه شغلته وعملته حلّ المشاكل.
_ شوف لك مشكلة غير مشكلة الكلاب. هذا رجل محترم، وأنت تريد أن تبهدله.
_ أنا أريد أن أبهدله؟ أذكر ربك يا عبد الستار. شو فيها إذا شكونا له أمر هذه الكلاب؟ وبعدين مالها الكلاب؟ أليست مثل باقي مخلوقات الله؟ بلاش الكلاب يا سيدي، نقول له: عندنا مشكلة مع الغزلان! نقول له: يا كوفي عنان دبرنا مع هذه الغزلان التي تنبح مثل الكلاب، غزلان مسخوطة والعياذ بالله.
ظل نعمان يضحك حتى انقلب على قفاه. إي والله، ضحكت كما لم أضحك من عشر سنين. ضحكت من كلام خالي عبد الغفار، ومن طريقة عبد الستار في الكلام، عبد الستار يحاول الظهور بمظهر الرجل الذي لا أحد في الحي يجاريه في الفهم.قلت:
_ والله إنك مسكين يا عبد الستار.
_ سكين تحزّ رقبتك، لماذا هذا الضحك؟ تضحك من خالك عبد الغفار، ولا تخجل!
_ اتركه يضحك يا عبد الستار وقل لي رأيك بكل صراحة ومن غير لفّ ودوران.
وقبل أن يردّ علي عبد الستار، انتبهت إلى شيء لم يحدث طوال الأشهر الماضية: هدوء شامل خيّم على الحي، لم يعد ثمة نباح. للمرّة الأولى منذ أشهر، يتوقّف النباح على هذا النحو العجيب. هل شعرت الكلاب بما ينتظرها من إجراءات حاسمة؟ ربما! قلت معتزاً بالاقتراح الذي قدّمته قبل لحظات:
_ ملاحظين أنتو والا لأ. توقّف نباح الكلاب.
_ والله إنه توقف، توقّف فعلاً.
_ وحياة نهلة الغالية علي، إنه توقّف.
قال عبد الستار بصوت لا يخلو من سخرية:
_ إذاً لا داعي لمخاطبة الأمين العام الآن.
اعترض نعمان:
_ نخاطبه، لماذا لا نخاطبه؟
_ اسكت يا ولد.
_ لا، لن أسكت، أريد أن أتزوج نهلة، وعليه أن يساعدني، سأكتب له حتى يقنع أمي وأبي وأهل نهلة وخالي عبد الغفار، بأن نهلة لي وأنا لنهلة.
_ امش، امش أطلع من هون. فكرك الأمين العام فاضي لهبلك ولقلة عقلك.
غادر الجميع بيت عبد الغفار، بمن فيهم نعمان وعبد الستار، نعم، عدت إلى بيتي ورحت أتهيأ للنوم. أما أنا، فقد اتجهت فوراً إلى تحت شباك نهلة، وبقيت ساهراً هناك حتى منتصف الليل.
وأما أهل الحي، فقد أخذوا كلهم تقريباً يستعدّون للنوم، وفي تلك اللحظة نفسها، استأنفت الكلاب نباحها من جديد.
__________
*روائي وقاص فلسطيني / من مجموعة “صورة شاكيرا” (2003).