*إيهاب الملاح
لم يكن صبري موسى (1932 – 2018) بالكاتب المجهول ولا ضعيف الأثر ولا الغائب عن المشهد! صحيح أنه كان بعيداً عن الأضواء، عازفاً عن الشهرة، قانعاً بعزلته، منكفئاً على ذاته، خاصة في السنوات الأخيرة من عمره قبل مرضه الأخير، لكن من قال إنه كان غائباً عن وجدان وعقل وذائقة عشاق الأدب العربي، ومحبي الرواية العربية في واحدة من أنصع تجلياتها وتجاربها الحداثية الأصيلة!
مات صبري موسى عن 86 عاماً، ونُصب سرادق عزاء افتراضياً، كما هي العادة منذ ظهور الـ (سوشيال ميديا)، لكن نبرات الإدانة والتحسر هذه المرة كانت أبرز وأوضح من كثير مما سبق في رحيل وغيابات قامات إبداعية لها وزنها!
هل يعني ذلك تقليلاً من قيمة وحجم صبري موسى.. أبداً أبداً! ولا خلاف على أنه من أهم الروائيين الذين ظهروا بعد نجيب محفوظ، وتمردوا على الشكل المحفوظي في الكتابة، بل ربما يكون في نظر البعض هو الروائي الأهم في الجيلين التاليين له، وأنه قد فتح الباب أمام نوع جديد في الأدب العربي بروايته ذائعة الصيت «فساد الأمكنة».
القيمة كبيرة جداً، الإنجاز من المستحيل التغاضي عنه، والاختلاف والفرادة والتميز.. كلها ثابت وقديم وراسخ منذ طلع الرجل على الناس برائعته «فساد الأمكنة»؛ إن صبري موسى «كاتب «دمياطي»، يحب النقش على الخشب وصناعة الحلوى، وهو حريص في كلماته، يدقق في التعبير ويتلاعب بالجمل والمعاني.
وهو أيضاً «كاتب بارع الجملة يحاول دائماً أن «يصنع من الفسيخ شربات». يتلاعب بالمكان والزمان، بالحاضر والماضي والمستقبل! ليصنع نوعاً من الأدب الذي يبهر ويدهش. يلامس الفكر والفلسفة ولا يستغرق فيهما حتى لا يفقد قارئه، الذي يشده دائماً إليه بخيوط من الحرير الناعم». هكذا يصفه ابن جيله ونظيره في الزهد والتبتل في محراب الكتابة، الراحل علاء الديب.
وكان الناقد الراحل د. غالي شكري يقول عن صبري موسى، إنه «يبحث في صبر وأناة وجمال عن رؤى تخترق أحشاء الواقع، فتصل إلى نبوءة جمالية عميقة لأخطر الهزائم وأبقاها في كياننا الروحي».
كثيرون يرون، وأنا منهم، أن صبري موسى كاتب عظيم لم ينل حقه من التقدير اللائق، (ومن الكتابات النقدية أيضاً)، لكن دون أن يعني ذلك، أبداً، إنكار القيمة أو غيابها أو بعدها عن التأثير، بدليل حضوره الإبداعي الفذ، المتجدد، من خلال أعماله (سواء طبعة الأعمال الكاملة التي صدرت عن الهيئة العامة للكتاب قبل سنوات قليلة في أربع مجلدات، أو طبعات أعماله المفردة مثل «فساد الأمكنة» و«حادث النصف متر»، و«الرجل الذي والسيدة التي لم».. إلخ).
لكن بالتأكيد؛ فإن تجربة صبري موسى بأكملها في حاجة ملحة وضرورية لإعادة قراءة ونظر واستيعاب، ومحاولة الإحاطة بالأثر العميق جداً لكتابته في كل من حاول أن يخرج على الأنماط المعروفة في كتابة الرواية أو يبحث عن مسارات غير تقليدية ومتمردة على الأشكال المألوفة في كتابة الرواية والقصة.
شوارع الصحافة الخلفية
في مدينة دمياط، شمال شرق الدلتا المصرية، ولد الكاتب والأديب والصحفي والسيناريست صبري موسى، في 19 فبراير عام 1932، ونشأ وتعلم في تلك المدينة التي شهرت بالنشاط التجاري، قبل أن يرحل إلى القاهرة، ليلتحق بكلية الفنون الجميلة. وبعد أن عمل مدرساً للرسم مدة عامين (1952- 1954)، ترك مهنة التدريس والتحق بالعمل الصحفي الذي سيكون نقطة تحول فاصلة في حياته.
عين صبري موسى محرراً بجريدة (الجمهورية) منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وانتقل بعد ذلك إلى مؤسسة (روز اليوسف)، التي ضمت عدداً كبيراً من الكتاب والرسامين الذين صاروا نجوماً فيما بعد، وشارك موسى في التخطيط والإعداد لإصدار مجلة «صباح الخير» التي خصصتها المؤسسة لمخاطبة الأجيال الشابة.
وقد رأى موسى أنّ العمل الصحفي أكثر ملاءمة لتكوينه الثقافي والتعليمي، وأنه سيمنحه فرصة التعرف المباشر على الواقع المصري في الريف والصحارى والمدن الصغيرة، وعرف بالفعل أنماطًا من الناس، واكتسب خبرات جديدة لم تتح له من قبل.
وهكذا أتاحت الظروف لصبري موسى أن يكون مثل نظيره الموهوب فتحي غانم، ممن اشتغلوا بالصحافة مبكراً واحترفوها، ولعبت – أي الصحافة – دوراً كبيراً في إغناء الموهبة وتطويع الأسلوب؛ أتساءل: لو لم يعمل صبري موسى في الصحافة هل كان كتب روائعه القصصية البارعة أو رواياته المدهشة أو كتبَ ما كتب في أدب الرحلات ووصف الصحراء بكل هذه البراعة والقدرة على الرصد والوصف واستقصاء التفاصيل؟
إن الصحافة تمكن الروائي، والروائي بالتحديد، وليس أي شخص آخر، من امتلاك التفاصيل الصغيرة والدقيقة، فالرواية في وجه من وجوهها هي «فن التفاصيل الدقيقة». الصحافة تمكن الروائي من السير في الشوارع الخلفية للحياة، وأن يراها كما هي، ثم يدرك ما وراء الأشياء والظواهر والعلاقات المعقدة المتشابكة. كما نبهه عمله الصحفي مبكراً إلى ضرورة التجريب في لغة الكتابة لتكون أكثر ملاءمة لمخاطبة الشباب والتعبير عن الواقع المصري.
وربما لهذا كانت لغة صبري موسى «محايدة» وغير متورطة، متخلصة من كل الشحنات العاطفية، حرة تماماً، وهادئة أيضاً، وفي نفس الوقت رشيقة، هو الذي يقودها ويوجهها حيث يريد، ولا يدعها تأخذه إلى طرق غير مسلوكة، كما كان يحاول دائماً الإفادة من تجربته في عالم السيناريو والسينما؛ بعد ذلك، لكي يقدم نوعاً من الأدب الذي يتميز بالاقتصاد والمباشرة.
مغايَرة واختلاف
كانت حركة الضباط الأحرار ونجاحهم في الوصول إلى السلطة في مصر عام 1952 بداية عهد جديد، منح كثيرين من أبناء الطبقة الوسطى فرصة الاندماج في بنية الدولة المصرية، وبخاصة العناصر الأكثر ارتباطاً بالأفكار الحديثة في مجال إنتاج الثقافة. وفي منتصف الخمسينيات، تقريباً، بدأت القصة القصيرة تنحو مناحي جديدة، فقد فقدت القصص التي كانت خليطاً من الرومانسية والواقعية هيمنتها، وسادت نوازع واقعية وتجريبية، تبدت ملامحها في أعمال كثير من كتاب هذه الفترة. وقد أصدر صبري موسى مجموعات قصصية تكشف عن بحثه الدؤوب عن شكل سردي ملائم لما يجري في الواقع من تغيرات، فأصدر: مجموعته «القميص» (1962)، ثم «حكايات صبري موسى» (1963)، و«وجهاً لظهر» (1966)، و«مشروع قتل جارة» (1970). كما أصدر من القصص الطويلة والروايات: «حادث النصف متر» (1962)، و«فساد الأمكنة» (1976)، و«السيد من حقل السبانخ» (1987). أيضاً فقد كتب السيناريو والحوار لعدد من الأفلام، من أشهرها «البوسطجي»، و«قنديل أم هاشم».
وكما أشرنا سابقاً، يظهر في عمل موسى الأدبي أثر الصحافة واضحاً، فهو ينقب عن قضايا لم تكتب كثيراً من قبل، ويجرب كثيراً من أساليب السرد وأشكاله للتعبير عما يراه جوهرياً في الواقع، ويحاول خلق لغة تتسم بالدقة والوضوح والتأثير المباشر، دون أن يجعلها هذا محض لغة صحفية مباشرة تهدف إلى الإبلاغ، كما يرصد بصدق ودقة ووعي متيقظ الناقد والأكاديمي الرصين محمد بدوي.
وفي مجموعته القصصية «حكايات» يظهر تنوع الأشكال واختلافها، إذ نجد قصصاً يهيمن عليها طابع النص السينمائي، واعتماده على المشاهد واللقطات، وقصصاً يغلب عليها الشكل المسرحي، فضلاً عن الأشكال السردية التراثية، مثل النادرة.
وقد لفتت قصته الطويلة «حادث النصف متر» النظر إليها، إذ طرح الكاتب، بجرأة، مشكلة عذرية الفتيات في المجتمع المصري، الذي يهيمن عليه الفكر الذكوري، من خلال سرد تفاصيل حادث يقع لفتاة تمارس الرياضة، فتفقد عذريتها.
أما روايته الأشهر، «فساد الأمكنة»، فقد أحدثت دوياً في الحياة الأدبية غير مسبوق، إذ تكثفت فيها خبرات صبري موسى المتنوعة وتآزرت لتقدم نصاً روائياً بالغ العمق والجمال، حيث انتقل الفضاء من المدن إلى الصحراء، لتصوغ حدثًا ذا طابع مأساوي، أبطاله من ثقافات مختلفة.
أما الحبكة فقد أحكمت على نحو لافت بدقتها وسرعة إيقاع أحداثها وقدرتها على التشويق والإثارة. وقد بلغ موسى في «فساد الأمكنة» درجة عالية من الدقة والوضوح مع كثافة عالية في التعبير، ليكتب عالماً شعرياً انصهرت فيه الأساطير، وتوازن فيه السرد مع المجاز. وبرغم الطابع المأساوي الذي يلف الأحداث وينظم إيقاعها الروائي، فإن الرواية برمتها تبدو سخرية من ضعف البشر الذين يحملون أوهامهم وأمراضهم معهم، لينقلوها إلى الأمكنة التي يحلون فيها.
السيد من حقل السبانخ
في روايته «السيد من حقل السبانخ»، التي نشرت في مجلة (صباح الخير) خلال العام (1981 / 1982)، ثم صدرت في طبعات عدة بعد ذلك عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، نموذج رائع ولافت، يدل دلالة واضحة على صاحبه وعلى طريقته في الكتابة والتعبير.
لقد انشغل موسى في هذه الرواية بالتقدم العلمي ووعوده في تغيير الحياة البشرية، متأملاً علاقة هذا التقدم سريع الوتيرة بما يكمن في لا وعي البشر من غرائز قديمة تنتمي إلى عصور أقل في التطور، وتشكل عوائق أمام الإنسان.
يقول عنها علاء الديب إنها رواية عن «عصر العسل» الذي جاء بعد أن انتهى عالمنا هذا الذي نعرفه. واستطاعت مجموعة بشرية أن تعيش تحت ناقوس زجاجي، وتقيم عالم الوفرة والرخاء وتحقيق الرغبات. تسير الكائنات البشرية في خطوط مستقيمة، تخدمها روبوتات أو أناس آلية تحقق لها رغباتها بمجرد أن تطلبها، يجتمع الناس في ملاهٍ للنقاش، وتزور أماكن للحب الحر. بقيت من البشرية فيها بعض العلاقات مثل الزواج والصداقة. الرواية تدور حول فكرة التمرد، وتستعمل القضية الجنسية كموضوع يكشف ما خفي من الإنسان وهي كما يقول رجل السبانخ: «الآن أقلب لكم مرآة الزمن مقتنعاً بأن صورة واضحة للمستقبل، يمكن أيضاً أن تمد حاضركم بعديد من البصائر التي لا غنى عنها..».
إننا أمام «فانتازيا» فكرية تحاول أن تجيب عن أصعب الأسئلة. عن معنى السعادة، ومعنى الإنسانية وعلى الرغم مما فيها من طرافة وخفة دم، فإن شعوراً حزيناً متشائماً يرسم لك حالة من الحصار داخل تلك الورطة التي هي الحياة.
***
يبدو صبري موسى مختلفاً عن جيله، ليس في الكتابة فقط، بل في الحياة أيضاً، يبدو الأمر كأنه اختيار شخصي منه، لذا قرر أن يمشي وحيداً وبعيداً عن الآخرين، مشغولاً بالإنسان فقط، بعيداً عن أي أيديولوجيات أو توجهات سياسية معينة، كما رصد بصدق الكاتب والروائي الطاهر شرقاوي. عزلته كانت اختياراً، وجاء رحيله متسقاً، تماماً، مع هدوئه ونفوره من الصخب اللذين لازماه طيلة حياته.
خيوط الحرير
صبري موسى كاتب بارع الجملة يحاول دائماً أن «يصنع من الفسيخ شربات». يتلاعب بالمكان والزمان، بالحاضر والماضي والمستقبل! ليصنع نوعاً من الأدب الذي يبهر ويدهش. يلامس الفكر والفلسفة ولا يستغرق فيهما حتى لا يفقد قارئه، الذي يشده دائماً إليه بخيوط من الحرير الناعم». هكذا يصفه ابن جيله ونظيره في الزهد والتبتل في محراب الكتابة، الراحل علاء الديب.
رحم الله الكاتب الكبير صبري موسى.
________
*الاتحاد الثقافي
مرتبط