الرواية وتأويل الأسماء

*خيري منصور

قبل قراءتي لكتاب باتريك بينو عن أبطال الرواية الحقيقيين ببضع سنوات، الذي حاول فيه البحث عن الشخصيات الواقعية لأبطال روايات منها، «مدام بوفاري» لفلوبير و»فئران» لبلزاك و»تيريزا ديكروا» لفرانسوا مورياك، كان قد استوقفني نجيب محفوظ في العديد من رواياته بدءا، من «اللص والكلاب» التي كان بطلها سعيد مهران وهو التأويل الروائي لشخصية واقعية شغلت مصر في ستينيات القرن الماضي، باسم السفاح، وكان ذلك ضمن سياق البحث عن دلالات الأسماء في الرواية، فهي لا تأتي جزافا لدى أغلب الروائيين، ومنهم نجيب محفوظ، الذي كان لأسماء الشخوص في رواياته دلالات عكسية، منها على سبيل المثال المومس نور في «اللص والكلاب» والعالمة جليلة في الثلاثيّة وسيد الرحيمي في «الطريق» وزهرة في «ميرامار» وإحسان في «القاهرة ثلاثين»، لكن محفوظ ظلّ وفيا لأدبيات وأعراف الطبقة الوسطى التي نشأ في أحضانها، وعبّر عنها فلم يتلاعب باسم أمينة الأم الطيبة في الثلاثية، التي لم تغادر منزل زوجها السيد أحمد عبد الجواد سوى مرة واحدة أدت إلى كسر ساقها.
وما لفت انتباهي إلى هذه الظاهرة قراءات انطلقت من تأويل الأسماء لروايات منها «الغريب» لألبير كامو، فالبطل ليس إنسانا من لحم ودم، بقدر ما هو مزج بين الشمس والبحر وهو ميرسول، الذي ارتكب جريمة قتل بتأثير من قوة الشمس على شاطئ البحر، وكذلك رواية «العجوز والبحر» لهمنغواي التي قُرئت تأويليا من خلال اسم سانتياغو، الذي تم تأويل اسمه ميثولوجيا إلى النبي يعقوب، أما البحر الذي دارت فيه تلك المعركة بين الصياد العجوز والسمكة العملاقة فهو بحيرة طبريا، وتكرر ذلك من خلال قراءة القس الأيرلندي ألفرد أوبراين لرواية «الطاعون» ورأى أن اسماء الشخوص فرنسية تقليدية، رغم أن مسرح الرواية مدينة وهران، وهي تحت الاحتلال وذلك له دلالة فكرية وسياسية بحيث تغلب اللاوعي لدى كامو على الوعي وتعامل مع وهران على أنها مدينة فرنسية، وعبر عن ذلك قائلا إذا كان الطاعون في الرواية يرمز إلى الاحتلال فإن جرثومة الطاعون أصابت المؤلف بالعدوى.
وبالعودة إلى نجيب محفوظ فإن من كان يعاني من عقد نقص في إحدى رواياته حمل اسم كامل، ومن كان شقيا وانتهى إلى مصير تراجيدي كالسفاح حمل اسم سعيد، وأكثر من ذلك، استخدم محفوظ أسماء الأمكنة أحيانا بدلالات مضادة، فالفندق الذي كان أحد العاملين فيه يهرّب الزبائن إلى بانسيون ميرامار اسمه فندق الأمين.
ويقابل تأويل الأسماء في الرواية ما يسميه ميشيل بوتور التلاعب بالضمائر، فأحيانا يكون ضمير الغائب مجرد قناع لضمير المتكلم، كي لا يبدو السرد، كما لو إنه سيرة ذاتية، ولعلّ هذا ما دفع بعض الكتاب العرب لكتابة مقدمات احترازية تقول إن أي تشابه بين أسماء شخوص الرواية وأسماء حقيقية في الواقع هو مجرد مصادفة، وتكرر هذا الاحتراز لدى جبرا إبراهيم جبرا بالتحديد.
ما قام به باتريك بينو في كتابه أبطال الرواية الحقيقيون هو البحث عن الشخصيات الواقعية لأبطال روايات حملوا أسماء أخرى، وأضاف إليهم الخيال الروائي، ما يوحي بأنهم منقطعون عن الواقع، ومعنى ذلك باختصار أن الذاكرة تلعب دورا أساسيا في الإبداع، لأن الخيال يعيد إنتاجها ويضيف إليها أو يحذف منها، وهذا ما عبّر عنه أرنست فيشر بقوله إن الخيال هو في النهاية واقع مركّز. وحين قال همنغواي في أحد الحوارات إنه لا يكتب إلا عن تجارب عاشها، فليس معنى ذلك أن واقعيته تسجيلية أو فوتوغرافية، فالتجارب حين يمضي عليها بعض الوقت لا تعود كما كانت، وأذكر أن الصديق الروائي غالب هلسا قال ذات يوم، بأن بطل الرواية يجب أن يحمل اسم المؤلف، ليس لأنها سيرة ذاتية، بل لأن اي اسم آخر هو مجرد تحايل فني أو محاولة لأن تنسب بعض الأفعال إلى مجهول، وهذا ما فعله في بعض أعماله، وهناك على ما يبدو نظريتان نقديتان على الأقل في التعامل مع الأسماء وتأويلها، إحداها لغراهام هيو الذي قال لا تثق بالراوي وثق بالرواية، والأخرى لميلان كونديرا بعد قراءته لأعمال كافكا، وبعد أن توصل من خلال البحث إلى الجذور الواقعية لشخصياته في براغ، لهذا يعتبر نفسه قد خرج من معطف كافكا، كما خرج بعض الكتاب الروس أنصاف الواقعيين من معطف غوغول.
والمقصود بالبطل نصف الواقعي هو بطل رواية «المعطف» لغوغول الذي يبدأ واقعيا جدا ثم يصبح مخلوقا خياليا، والمشتغلون في ما يسمى الآن استراتيجية التسمية لا يرون أن الأسماء محايدة، فهي ذات دلالات وإيحاءات قد تكون دينية أو اجتماعية طبقية، لهذا لم يكن ممكنا لإحسان عبد القدوس أن يطلق على بطلة رواية «النظارة السوداء» وهي نموذج عبثي يمارس حريته بلا حدود اسم مديحة وتحولت إلى مادي، وحين كانت تنادي باسم مديحة تسخر من هذا الاسم لدلالاته الطبقية والاجتماعية الشعبوية.
وهناك حزمة من الأسماء تسود في مرحلة ما، إما تشبها ببطل قومي أو مشاهير في مختلف المجالات، لكنها تنحسر وتبدأ بالاختفاء في مرحلة لاحقة، خصوصا إذا اقترنت تلك الأسماء بمصائر مأساوية، والروائي ليس معزولا بوعيه ولاوعيه على السواء، عن السياقات الاجتماعية والسياسية التي يعيش فيها، ولعل هذا ما دفع نجيب إلى اطلاق اسم أليف وذي دلالات أخلاقية ودينية على الأم في الثلاثية، وهو أمينة.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *