الصراع الخفي عند جزائري يعي كينونته

خاص- ثقافات

*كفاح جرار

بين الحركي المشرقي والحركي المغاربي حكاية لغة وقيمة، تتماثل الكلمات وتتناقض المعاني، وتلك هي ثنائية الشحنة القيمية التي تحملها الكلمات والمعنى الذي ترمي إليه من بعد، وإن سألت عن مدلول كلمة ” الحركي” لقيل لك هو من ينتمي لحركة فتح الفلسطينية، وتلك صفة صارت أصيلة عند جميع أعضاء الفصائل الفلسطينية المقاومة الأخرى، هؤلاء يقولون الحركة والحركي، أما ابن الحركة والحركي فيسميها ثورة، وذلك اختزال ومصادرة ومفاضلة، فالحركي الفتحاوي يعتبر نفسه الثورة، فهو يختزل كل فلسطين كما ضغطوا فلسطين واختزلوها في الراحل عرفات، ورحل عرفات وبقيت فلسطين، وهم يحجمونه ويعيدونه إلى طبيعته كحركي فتحاوي فقط، يوم كان عند الفلسطينيين ثورة، ويؤمنون بالكفاح المسلح طريقا وحيدا لتحرير فلسطين، ولكن تعددت الطرق واختلفت وتناقضت، إلا طريق البندقية فهجره أهله إلا قليلا.

في المصطلح

بالمقابل، مصطلح الحركي عند الجزائري يحمل قيم الذلة والمهانة والعمالة، وهي مهنة شبه عسكرية استحدثت في العهد الاستعماري، هي في أدنى معانيها تعني العرة والمعرة، وخاصة لأنها استهدفت الذين انضموا للقوات الاستعمارية الفرنسية طواعية لقتال بني جلدتهم، وقد أطلقتها الإدارة الفرنسية على المتعاون معها من الجزائريين الأهالي، لتمييزهم.

وما يجهله كثير، أن مصطلح الحركي استخدمه الجزائريون قبل الثورة، وذلك أثناء الخلاف الذي نشب بين حركة أنصار الحريات التي أسسها مصالي الحاج، وجبهة التحرير التي انبثقت عن الحركة، ورأت في الكفاح المسلح وسيلة وحيدة للتخلص من الهيمنة الاستعمارية، ومنها حمل مناضلو الحركة صفة حركي، نسبة للحركة ولأسمائهم السرية التي حملوها، وبعد عقود على تلك الفترة بت أشك شخصيا في صدقية أشياء كثيرة، وخاصة أن الكلمة مازالت حية تسعى حتى وقتنا الحالي، بعيدا عن كل ذلك، من كان يصدق في الأربعينيات والخمسينيات المنصرمة من القرن الماضي أنه يمكن الفكاك من فرنسا، كان ذلك أشبه بحلم ليلة صيف عند شكسبير.

ومع ذلك، تحررت الجزائر واستقلت، وجاء من جيل ما بعد الاستقلال من يكتب رواية عن الحركى، ليس نبشا في ماض غابر، وإنما هي مشكلة تاريخية معاصرة لها مدلولاتها الاجتماعية والثقافية، تناولها القاص محمد بن جبار، من خلال حكاية شاب عشريني رمت به الأقدار في معسكر للجيش الفرنسي، عمل مخزنيا كسائق لقائد المعسكر ثم وجد نفسه حركيا، يحمل السلاح ليقتل بني جلدته، وقد اختار الكاتب قرية عين الحلوف مكانا تدور فيه أحداث الرواية، كأنه يقول لقد أخذت العين اسمها من حلاليف فرنسا وخدامهم، أما أحمد بن شارف بطل الرواية وراويها، فقد حمل اسما يتناقض مع مهنته وطموحه، فلم يكن أحمدا ولا نال من الشرف شيئا، مع أنه شارف، سوى تأنيب الضمير المتواصل، وعاطفته الوطنية المختزنة.

بين رؤية ورؤيا

تبدأ الرواية من تاريخ 1960 وتنتهي بفصل يحمل اسم التاريخ جانفي ماي 1962، ومن أراد أن يعرف تفاصيل الرواية ليذهب إلى المكتبة لاقتنائها، فمن غير المعقول ولا المقبول تقديم ملخص الرواية لقارئ “تنبل” يريد كل شيء بسهولة، ولعل النقد برأيي المتواضع جدا، لا يجب أن يحمل سيفا وخنجرا، فما الداعي للنزال والطعان، فليست تلك وظيفة النقد ولا مهمته، فلسنا من السيافين ولا علاقة لنا بأبي سياف الفيلبيني، وإنما لا يستقيم العمل مطلق عمل إلا بالنقد، لتحديد الجودة والصلاح والفائدة والمتعة، ولبيت النصف الفارغ من الكأس وأهميته والنصف الممتلئ وأهميته، أي تكمن مهمة النقد في تجويد العمل وتمجيده.

الرواية أولا ليست كما قيل فيها وعنها، أنها المرة الأولى التي يتحدث فيها حركي عن نفسه، وللصدقية فإن المؤلف هو الذي أنطق الحركي العميل كما يحب هو ويشتهي، رغم أن العملاء عادة في حديثهم النفسي الداخلي مع أنفسهم، يعملون ما بوسعهم لخلق مبررات سقوطهم، بل ويصنعوا أعداء وإن من “الوهم” لكي يعيشوا راحة الضمير، والمجرم عموما يخلق مبررات جريمته، وإلا لسلم نفسه لأقرب مركز شرطة.

مع ذلك.. لعل أهم ميزات (الحركي) أنها تناولت عواطف ومشاعر وأحاسيس فئة لم يجرؤ أي كاتب من قبل على الغوص بجدية في تفاصيل حياتها، ربما لئلا يقال بعدها لم يقل إلا بعد أن جرب، أو رأوا فيها نقيصة وشتيمة لا تستحق أن تمجد بعمل أدبي، ويكفي بن جبار أن بادر واقتحم وقدم رواية عنهم فقط، ولا يعني ذلك أنه فشل في تشريح نفسية الحركي لنفسيته، بل ربما أجاد في كثير من المواقف.

فيما عدا ذلك سأتناول بعض هفوات وهنات الرواية، التي وجدت في كثير من صفحاتها حشو تاريخي لا معنى له، ولم أجد له أي مبرر وأي جدوى من التعرض له، وإنما لجأ إليه المؤلف مكرها لكي “يطفشك من القراءة” ربما، مع أن المطلوب منه الحذاقة والمهارة والإغراء لدفع القارئ لتتبع تفاصيلها حتى النهاية، لكنه يلهث وراء عدد أكبر من الصفحات فحشاها أكثر، ومن يمسك الرواية بحثا عن متعة القص والسرد أو انتظارا لجنية النوم التي تأخرت عنه، فإنه سيلقيها جانبا ويلعن ساعة ابتاعها، فما شأني أنا بكل هذه الأخبار التي تشبه يوميات صحيفة إخبارية بائسة لا يقرؤها حتى رئيس تحريرها بمستواه المتواضع.

والسؤال الذي يتردد في رأسي دوما، كلما عثرت بكتاب جديد يضاف

للمكتبة العربية الفقيرة والمحقورة والمحدودة: ما هو الجديد الذي يحمله وينشده؟ وبالعموم أية إضافة قدمها مطلق عمل أدبي وأي ديوان شعري وأي معرض فني وأية حفلة موسيقية؟، وما يتعلق بـ”الحركي” أية إضافة أكمل بها لوحة الكتاب العربي، أي وماذا بعد؟.

ربما من الإنشائية القول، وهو ما أعنيه بالضبط وقد أتهم نفسي بالمصادرة والتعسف، أن كل عمل لا يجد إجابة واضحة عن هذا السؤال المركب ( أين الإضافة وماذا بعد) فهو مجرد عمل ممتع فيه لذة، تمتعنا به وفقط، تماما كمن يسعد لصحبة امرأة فاتنة، ثم يكتشف بعد ليلته الممتعة أنها كثيرة الضراط غزيرة التبول، مع شخير تميزت به الحسناوات، هن لضغط النهار يرهقن أعصابهن، ساعة يتبارين ويصرفن جل اهتمامهن للحفاظ على جمالهن وإثارتهن.

لذلك يقال كل حسناء غبية، وكل صحبة ممتعة ستجدها بعد المتعة مقرفة.

محمد بن جبار نسي نفسه فشطح قليلا، أخذ يكتب عن رؤى قوم لأحداث وقعت قبل نحو ستين سنة بلغة اليوم، أي بمفاهيم اللحظة وتعبيرها، ثم هو يُنطق شخصياته بمفردات ومصطلحات أكبر من مستواها المعرفي والثقافي، كقوله على لسان قويدر “ديانتك الوحيدة القادرة على نجاتك هي المصلحة، اجعل المصلحة هي آلهتك الوحيدة، ليس بوسعك الموت شهيدا ولا شريفا، تخلينا عن الله فتخلى عنا، تخلينا عن الوطن فأصابتنا اللعنة، سيان بين وجودنا فوق التراب أو تحته..” هذه الجمل الثرية تحيلني إلى ماركسيي السبعينيات والثمانينيات ومعهم القوميين والبعثيين.. أما أن يتحدث بهذا المستوى من الإدراك مجرد حركي من عين الحلوف بغليزان سنة 1961 فهذا منتهى المصادرة والظلم والتقول واللؤم.

ارحم شخصياتك/ وخلها تعيش حياتها/ تقمصها وتواضع معها.

أما في ص 51 ولغاية الصفحة 53 على سبيل المثال فقط، يصطدم القارئ بلغة وتعبير ومصطلحات وجمل غاية في الركاكة والابتذال، يصعب التصديق أنها بقلم أديب قاص، مثلا “بعدما اسقط نظره عليه مباشرة.. بتطورات قضية التي ينازعه عليها وهاب.. والذين انقطعت عنهم سبل الحياة.. لا قبل له من مواجهة وهاب..لأوحي له أن يقايض الأرض بنفسه.. يجعل السلطات المدنية والعسكرية ينتابهما الشكوك..كنت قد حلّقت. بالشدة. ولملمت أغراضي.. ثم هو يقول “وصلنا إلى المكان ويسترسل بالحديث ليعود إلى وصف المكان بدون معنى ولا هدف..كنا اشبه بالطرش في مهب الريح..

فما بال الطرشان في مهب الريح؟.

ثم تحسه أحيانا يحلق بك في أعالي الإبداع السردي ثم يلقيك فجأة بتعابير ركيكة مقعرة، فيتعامل معك كأنك تركي أو أرمني يتهجا العربية فيجعل الذكر مكان الأنثى ولا يفرق بين الرجل والمرأة؟.

من الإجحاف أن تدفع شخصيات روايتك لنطق عبارات أكبر وأعلى من مستواهم، مثلا .. أسوأ النساء هن اللواتي يشعرننا بفظاعتنا في هذا العالم.. هذه جملة تليق بطالب جامعي أو بإعلامي شبق أو بفيلسوف متشرد، أما أن يقولها حركي من أحد دواوير غابة سيدي عبد العزيز فلا.. ومن المجحف بحقنا نحن القراء الصغار أن تخبرنا لتقنعنا “انطلقنا رغم عناء دخان العوادم والغبار وصلنا إلى منداس” ص144 هكذا بالضبط، قد يحسب القارئ أن الكاتب هنا يتحدث عن مدينة بكين أو على أقل تقدير شارع حسيبة وسط العاصمة في صيف 2015، أما وجود العوادم في شوارع كانت تمر بها كل ساعة سيارة وربما لا تمر أبدا وخلال أسابيع، ثم هل يعرف القارئ اليوم شيئا عن أزمة بنزرت أو ما يتعلق بقضية فصل الصحراء؟.

كل هذا الحشو وقع لكي يخبرنا المؤلف أنه طالع جيدا، وذاكر بشكل ملفت، وأنه يعرف أحداث ذلك الوقت، والسؤال ليس هنا وإنما أية إضافة قدمتها مطالعتك الصحفية التاريخية الجيدة هذه؟.

بين التاريخ والتأريخ

“الحركي” ليست رواية تاريخية وليتها كانت، لو حولها صاحبها إلى عمل تاريخي لأنجز عملا روائيا يعتد به، بل لو وقعت بين براثن روائي محترف كان سيكتب ما يشبه ثلاثية نجيب محفوظ التاريخية، قصر الشوق، السكرية، بين القصرين، أو سداسية شولوخوف في “الدون الهادئ”، فما أشبه شخصية أحمد بن شارف بشخصية غريغوري ميلخوف، الحائر بين المناشفة والبلاشفة وقومه القوزاق، لكن العمل الذي يولد بعجلة يأتي خداجا مهلهلا وهشا، أشبه ما يكون بجائع نهم جاؤوه ببيضتين مسلوقتين، سوف يأكلهما دون شك لكن لن يشعر بالشبع، سيظل على جوعه وتلك هي الرواية التي بين أيدينا.

أحمد بن شارف الذي قتل عمه الذي استقوى بولده المجاهد ليسلب حق أبناء أخيه المتوفى، ثم التحق بمعسكر للجيش الفرنسي ويتحدث بألم وحسرة عن بوعمران ذلك المجاهد الذي قضى تحت التعذيب، في القبو الفرنسي القميء، ثم يبكي مع صاحبه أحمد بلوط ويأنف من الحسناء اليهودية ليس بحركي على أية حال ووفق أي من معايير العمالة والخيانة.

و”الحركي” رواية خالية تقريبا من النساء وخالية من روح المرأة وحسها، وتخلو من الإثارة ومكائدها، وتخلو من رائحة التاريخ وتشويقه وفيها بعضا مما سبق على شكل نتف ثلجية صغيرة، فهل أرادها بن جبار إدانة للعم القتيل الذي أراه هو الحركي أو تطهيرا لبن شارف اليتيم الذي استقوى بالعدو على القريب العدو؟.

الحركي رواية تقع في 236 صفحة من القطع المتوسط، بطباعة مقبولة، صدرت عن منشورات القرن 21.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *