خاص- ثقافات
*خلود البدري
لفت انتباهي غلاف رواية كم أكره القرن العشرين ” معلقة بلوشي ” للروائي عبد الكريم العبيدي، حيث اللون الأصفر القوي، وشاهد القبر الذي خطت عليه بعض الجمل، والعنوان ” كم أكره ….. ” وكلمة الكره هنا وحدها لها ما عليها وتثير فينا ما تثيره من مشاعر متناقضة، وعندما تريد أن تقتني كتابا ما فأنت تبحث عن أسم الكاتب أولا، بعدها يطالعك العنوان قد يجذبك ويكون قويا صادما، أو قد لا تبالِ به فهو عنوان كالعناوين الأخرى التي تمر عليك كل يوم لا شيء فيها يثير الانتباه. وفن اختيار العناوين ليس سهلا فهو بوجهة نظري العتبة الأولى للكتاب وللقارئ على حد سواء، والرواية التي أكتب عنها اليوم اختار لها كاتبها الروائي عبد الكريم العبيدي عنوانا صادما، قويا، وكان الروائي العبيدي جريء في اختياره لهذا العنوان، لم يطرحه أحد، وسأقول لماذا ؟ عندما تريد أن تسوق لكتاب ما فأنت أول شيء تفعله أن تبحث عن عنوان جميل بمفردة رشيقة تغازل بها عيني القارئ، لأن العنوان سيكون له الأثر في اقتناء الكتاب أيا كان، وكم اقتنينا كتبا ذات عناوين جذابة وبراقة لكننا تركناها حيث الأرفف تغازلها ذرات الغبار ليس إلا. وأن يكون غلاف العمل صورة لشاهد قبر يعني ” الموت ” نعم يا سادتي أنه الموت الذي غزانا وطاب له المكوث في ربوعنا حتى بتنا نتنفسه وبكل رحابة صدر، وأخذ معولة يحتطبنا وكأنه يحصد ما زرعناه صبرا وألما وتعبا، ويهدم كل ما بنينا بلحظة ستسجل بكل ألم ونحن نرى أطلال مدننا وتصاعد اعمدة دخان الحرائق التي شبت فيها كما أرواحنا، كيف لا يكتب كاتب كان همه وعشقه ولوعته وضياعه وغربته وطنه، كيف لا يكتب عنه وعن الحروب العبثية التي محقت شخصياتنا وزرعت الضياع في مستقبل الأبناء ؟! في جلسة الاحتفاء به قال الروائي عبد الكريم العبيدي في ورقته التي أعدها ” كلُّ حُروبِنا يا أحبتي باسمِ العدالة، ونيابةً عن التاريخ. وكلُّ طرفٍ فيها هو الحق، وعدوُه باطل. وحدَنا لا نعرف من أمرِنا شيئا. نحنُ جنودُ حرب، وقودٌ للحق وللباطل، ولربَّة النارِ التي لا تؤمِنُ بالحقِّ، ولا تأبَهُ بالباطلِ، دائما ألسنتُها تسخرُ من حقِّهم، ومن سوادِ باطِلهم، لكنَّها تحتفظُ بحقِّها، حقَّ الاشتعالِ بأجسادِنا، أليسَ ذلك باطلا أيضا؟ قد ينطوي هذا الاعتقادُ على يأسٍ، ولكنْ ما العيبُ في الأمر؟ انَّ من ينتمي الى بلدٍ عمرُه أكثرَ من سبعةِ آلافِ عامٍ من الدموع، سبعةِ آلافِ نواحٍ قبل الميلاد، سيؤمنُ تماما بغَلَبَةِ اليأسِ على خِدعة التفاؤل، وسيدركُ، شاءَ أم أبى، أنَّ لا حاسة أكثرَ ديمومةً وصدقا من حاسة اليأس، ولا راحةَ بالٍ ألذَّ من نعمةِ مصاحبتِها”. وأقف مرة أخرى حيث الباب الأول لكل كتاب أنه الغلاف فقبل أن أدق على هذا الباب سيكون لديّ تصورا ما عما في داخل هذا البيت، ولأشبه الكتاب ببابه لأني عندما أريد أن أزور بيت ما فأني سأقف لفترة من الزمن عند هذا الباب، وهذا لعمري كل منا يُجبر على فعله حتى يأتي صاحب الدار ويفتح لنا هذا الباب المغلق. وعندما أقف هناك ستضطر عيني لاستكشاف هذا الباب هل عمل صاحبه على جذب محبيه؟ هل للمكان رائحة مميزة تحببك به أم قد تنفرك منه؟ وأن كانت هناك حديقة تطل على سياجه بأغصانها الخضراء أم أنها ميتة لا تصدح فيها الأطيار، وتلك الأرضية أنظيفة، تدعوك للمحافظة على نظافة الولوج لهذه الدار فأول ما تصل إلى العتبه الأولى وقد فرض عليك هذا الأمر، لقدسية ما كقدسية الأماكن المقدسة.
نعم وهذا ما نفعله مع غلاف العمل الإبداعي، نحن نستكشف هذا العمل من خلال غلافه، ومن خلال لون هذا الغلاف فلكل لون معاني ودلالات تثيرها في نفس المتلقي، فهي تدخل في كل شيء تقريبا وكل ما يحيط بنا في هذه الحياة من جماد ونبات وحيوان وحتى نحن البشر، فلكل منا لونه الخاص به والذي يتميز به وأقصد هنا لون البشرة مثلا، فالألوان تضيف معنا وجمالا للكون الذي نعيش فيه، ولكل لون من هذه الألوان دلالة معينة ارتسمت في ذاكرتنا، وهنا سأعرج على ألوان أغلفة الروائي العبيدي لرواياته الثلاث، حيث تطالع ألوانا قوية زاهية، وكأنما كل رواية من تلك الروايات صبية جميلة ترتدي لونها الزاهي وتحلق به، ففي روايته الأولى ” ضياع في حفر الباطن ” أختار اللون الأسود الذي أطر به غلاف روايته ، وأحاط المقاتل بهالة من اللون الأخضر الفاتح نوعا ما وطبعا لهذه الهالة الخضراء دلالاتها، وكُتب العنوان باللون الأحمر، ولكل لون من هذه الألوان دلالاته في عالم الفن، فاللون الأحمر يرمز إلى الحماس والعاطفة، لكنك هنا تُصدم به ويأخذاك هذا اللون إلى غير هذا إلى حيث رائحة الدم والموت والحروب أنه لون اضطرام النار ولون الشخصية الجريئة التي اقتحمت هذه النار نار الحرب والموت وغلبتهما. أما اللون الأسود في الفن هو سيد الألوان لون الشر والغموض ويشير إلى الظلام، الليل، الظلم، إلى الموت أيضا، وفي روايته ” الذباب والزمرد “حضت هذه الرواية بغلاف باللون الأخضر الزاهي القوي الفسفوري، وهنا أيضا أنعكس على القارئ ، فهل هو لون الزمرد الأخضر أم هو لون ضياعنا الذي بدا باللون الأخضر؟!
أما في روايته الجديدة التي صدرت عن دار قناديل وتم الاحتفاء بها قبل عدة أيام فكان الغلاف مميزا جريئا، وسأقول كيف؟ أن تختار شاهد قبر وتضعه صورة لعملك فأنها مجازفة ما بعدها مجازفة وكما قلت فكلنا نهرب منه، من الموت أقصد، فلماذا يا ترى نذهب ونقتني رواية يكون غلافها صورة لشاهد قبر؟! هذا أولا، ثانيا: اختيار الروائي العبيدي للون الأصفر لم يكن عن صدفة، فلهذا اللون دلالاته القوية، في الفن يرمز للخداع وهو أيضا يرمز للمرض، للغيرة، لانتشار الموت الأصفر وهاهو الروائي العبيدي يرفع الراية الصفراء مشيرا إلى أن المرض قد تفشى ” الموت ” بهذا القرن، وهو في روايته يتحدث بلسان بطل روايته الميت مسبقا الحي في فكر الكاتب. وإذ نستخلص من كل هذا أن لألوان أغلفة روايات كاتبنا العبيدي ميزة خاصة وكلها تنصب أخيرا في موتنا الذي فرضته علينا قوى الشر والدمار. يقول في مقطع من روايته ” كم أكره القرن العشرين ” معلقة بلوشي ” – نعم، انه العبث بعينه.
يبتسم “عزّام”، تتنفس حواف اصفرار ابتسامته على شقوق شفتين جافتين، لتبدو وكأنها رسالة بنصف سطر “مشمرخ”، تمسك ظاهر الوجود اللاعقلاني، والرغبة المضطربة المشاكسة له، من نزاعهما الحسي العنيف، بين انكماش الإنسان ووجوده من طرف، وبين النقطة المستسلمة التي يضعها اصفرار ابتسامته في رأس السطر، ويتلاشى من طرف آخر. لم يترك في هربه السريع أيّ ملمح صغير للعثور على زنزانته الجديدة. لقد ذاب هناك فجأة داخل قيوده الأشد قسوة، متستِّرا بضمير “مشمرخ” مجهول لا يمكن ملاحظته. لأنه لا ينتمي إلى أيّ شيء عداه، أو عدا “الشماريخ” الثملين. بينما بدت ثرثرة الجمهورية تلك وكأنها صورة تنازل أخرى عن طرب البصرة القديم. استحالت الى ثرثرة طالها العفن، فمالت بطرفها عن لب المدينة، لتشير إلى موت تجده في غرفة بائسة تضم “شماريخ” العدم والعبث واللا جدوى، مثلما تجده في خارجها. غصة دائمة، وضيق ثابت في الصدور، وصداع موجع لا تنفع معه عشرة أشرطة من أقراص “الباراسيتول”!
– وماذا بعد؟
اختفى هذا السؤال من أحاديث البصريين، لا أحد يذهب إلى ما هو أبعد من غصته”. ونحن لا نذهب أبعد من موتنا الذي صار سمة لهذا القرن فبتنا نكرهه من أعماقنا لما بثه من رعب وموت في قلوب الجميع.