*خيري منصور
ما أعنيه بما قبل الدولة، يأتي في سياق مضاد لما يطلق عليه المابعديات، سواء تعلق الامر بالدولة أو الحداثة أو الثقافة، وقد يستغرب البعض أن بيان موت الحداثة، كما يقول ماكفرلين، صدر في برلين في أوائل القرن التاسع عشر وبالتحديد عام 1815، بحيث يصبح كل ما أعقب ذلك التاريخ ضمن ما بعد الحداثة، وقد يكون هذا مجرد اجتهاد يقبل المناقشة، لأن الحداثة ليست مناخا أو حالة واحدة متجانسة في العالم كله وفي مختلف لغاته وثقافاته، لهذا كان هنري لوفيفر يصر على أن يضيف إلى كلمة الحداثة ما يحدد الثقافة التي يتحدث عنها، فيردد كلمة حداثتنا وفي هذا التحديد يكمن مفهوم جغرفة الثقافة ورسم تضاريس لها.
وبهذا المقياس أيضا هناك من المفكرين المعاصرين من قال إن العولمة لم تظهر بعد سقوط سور برلين، أو في نهايات الحرب الباردة في القرن العشرين، بل تعود إلى عام 1492 وهو عام سقوط غرناطة، بحيث يكون عمرها قد تجاوز الخمسة قرون، وسيبقى الافق مفتوحا ومتاحا لمثل هذه الاجتهادات، تبعا للرؤى والمناهج والمقاربات المعرفية، خصوصا إذا استخدم مصطلح الثقافة كمرادف للحضارة، كما قال الشاعر ت . س . أليوت. وقد يكون كتاب الأنثروبولوجست بيير كلاستر عن مجتمعات ما قبل الدولة، من أدق المراجع في هذا المجال، لأنه أقام زمنا بين قبائل بدائية ورصد على نحو ميداني نمط الإنتاج وما يفرزه من تقاليد ومنظومات قيم في تلك المجتمعات، خصوصا في فصل بعنوان «السلة والقوس»، فالسلة ترمز إلى الأنوثة كما يرمز القوس إلى الذكورة، ما دام هناك من يقطف الثمار مقابل من يراكمها في السلال. وفي مجتمع ما قبل الدولة، يكون النفوذ لمصدر الكلام وليس للكلام بحد ذاته، ويتجسد ذلك في كل ما يصدر عن زعيم الجماعة، في نظام شبه عسكري أو إسبارطي يعتبر الخارج عنه مارقا، ومن أهم ما رصده كلاستر ما يسميه تحريم النجاح على من يحققه من خلال الصيد، فمن يصطاد حيوانا أو طائرا يحرم من حصته منه، ومن هنا نشأ الاغتراب الذي عبّر عنه صيادو القبيلة، ومعظمهم من الشبان، بابتكار لغة بديلة للغة السائدة وكأنهم يستردون نجاحهم المسروق بشكل رمزي على الأقل.
ما قبل الثقافة بمعناها الدقيق كان السائد وما يجب الاحتكام إليه هو الأعراف المتوارثة عبر الأجيال، والحقائق ليست نسبية بحيث يدعي امتلاكها كل من يشاء تبعا لمنسوب وعيه وإدراكه، لهذا فالزعيم معصوم، وما من سبيل لنقض ما يصدر عنه من أحكام، لأن قيمه ما يقوله مستمدة فقط من توقيعه ومكانته، ولأن الكلام سبق الكتابة تاريخيا ، فهو الوليد البكر لثقافة ما قبل الدولة أو الثقافة الشفوية، ويتناغم هذا مع نمط الإنتاج السائد في المجتمعات البدائية، وهو غالبا الصيد، لهذا تقاطعت طروحات كلاستر مع عالم الأنثروبولوجيا ميلونوفسكي، رغم التباين المنهجي والأيديولوجي خصوصا عندما كتب عن اكتشاف البرونز لأول مرة في التاريخ، وينتهي بعد ذلك إلى ما يسميه العلاقة بين البرونز وهزيمة المرأة الكبرى في التاريخ، حيث ظهرت بواكير الباترياركية أو المجتمع الأبوي الذكوري لأن السلاح الجديد جرّد المرأة من سلاحها الرمزي الأسطوري .
ما قبل الدولة لا توجد قوانين أو شرائع يخضع لها الأفراد جميعا بلا استثناءات ما دام هناك من يحق له ما لا يحق لسواه، بسبب المكانة الموروثة أو احتكار القوة وأدواتها، لهذا لا يمكن أن تنشأ الدراما بمختلف تعريفاتها بدءا من الصراع في مجتمعات بدائية، السائد والمقرر فيها هو الامتثال، الذي عبّر عنه شاعر عربي ينتمي إلى قبيلة اسمها غزيّة، وقال إنه مجرد صدى لها، سواء تعلق الأمر بالغزو أو الرُّشد.
والفرد في مجتمعات ما قبل الدولة مجرد رقم أصم، ولا معنى حتى للأسماء إلا بقدر ما تفرق بين فرد وآخر في القطيع، لهذا هناك قبائل ترسم بالنار شارة معينة لكل أفرادها تنوب عن أسمائهم وانتسابهم، وما يحدث على هذا الصعيد العضوي له ما يرادفه ثقافيا، فالفرد المختلف، بعير أجرب أو عنزة سوداء في القطيع، عليه أن يقبل العقاب بالإفراد والنبذ خشية من عدوى الاختلاف والتمرد التي قد تتسلل إلى الأفراد الآخرين.
وخير مثال عربي معاصر على ثقافة ما قبل الدولة، المهرجانات الإعلامية ذات الأقنعة الثقافية، التي غالبا ما تستخدم كشكل من أشكال الزكاة المحرّمة لغسل الاستبداد كما تغسل الأموال. وفي مناخات مثل هذه الثقافة سرعان ما يعود المثقف بالمعنى المجازي إلى صورته الأولى ، ويرى أن أي رأي سلبي يقال عن دولته أو بلاده ينبغي التصدي له على الفور وبغير ذلك يتعرض للتخوين والتجريم والنبذ، وما كان لمثقفين من طراز جان جينيه أو نعوم تشومسكي وسارتر وهنري ميلر وغيرهم أن يبقوا على قيد الحرية والحياة.
_______
*القدس العربي