*سعيدة تاقي
“نحن نصور الأشياء لكي نطردها من أذهاننا.
حكاياتي هي طريقة لإغلاق عيني”
فرانز كافكا.
قبل البدء:
لنتفق بقليل من التواطؤ و كثير من الغواية: إن التقاط صورة “مُبْهِرَة” متعةٌ غير مدركة خارج فعل الاقتناص؛ حين يقف المصور بعيدا عن الألفة قريبا من اللحظة المارقة بدهشة، عيناه جاهزتان لتحليل المَشاهد و سبر الحركات و عد الثواني، و في طَرْفة عينٍ يسدِّد عدسته صوب سيرورة متنامية لحبس الزمن و تكديسه في لقطة واحدة هي الصورة الفوتوغرافية.
إن “أخذ” صورة “فاتنة” يعني ببساطة “تكثيف” الزمن و “تقطير” كل السيرورة في لحظة/لقطة/إطار.
عدسة واحدة لرؤى متعددة:
قد يكون من الصعب في البداية ضبط زاوية النظر بدقة و تحديد الإطار المناسب للبحث في عمق الصورة. فالصورة التي كان من المـمكـن تحديد نـوعـها سـابـقا (خـارج التشكيـل و البـورتريه) بالتميـيز بين الصورة الفـوتوغرافية ( أو/ و الشـمسية) و الصورة السينمائية (أو/ و التلفزية)، أنبتـت تقـنـيـاً بين الـنـوعــيـن أنـواعا جـديـدة و متـقـاربة و متـشابـكة تنـفـتح على الـحـسي و الخيالي و الصناعي و الافـتراضي و الضوئي و الرقمي، و تـنهل من المادي و المتخـيل و التقـني و الإلكـتـروني، و تمتد من تجمـيد الـزمن أو الـتـقـاط اللحـظة و تحبيسها إلى تحريك عـجلة الزمن أو تواتر اللقطات و سيرورة تغيرها، أو إلى استحداث سيرورات جديدة مغايرة و غير مسبوقة.
و ما قد رصده ريجيس دوبري في “حياة الصورة و موتها” (1992) من قطائع ثلاث عرفها تاريخ الصورة أسماها: الكتابة و الطباعة و السمعي البصري، بحيث ميَّز ضمنها بين التمثال/الصنم نتاج عصر “اللوغوسفير” و الفن نتاج عصر “الغرافوسفير” و المرئي نتاج عصر “الفيديوسفير”، يلاحِق اليومَ ما تبتدعه حياة الصورة و موتها الفِعْليَيْن من مسارات جديدة و أبعاد متداخلة و وسائط غير متناهية ضمن المجال السمعي البصري و في التخوم المبتدَعة عن تطوراته.
الرسم أو الكتابة بالضوء:
لقد خلد الفن لحظات الانبهار التي واكبتها العدسة و خزنتها للرائي/المتلقي في لقطات فوتوغرافية جعلت الزمن المــارق مقتنصاَ في لقطة/نص. فالصورة و هي تحدد ذلك “الهناك” الذي خزَّنَـتْه ـ كيفما كانت ماهيته أو هويته ـ تصهر في ورقة واحدة/صورة واحدة الوجودَ و الزمان و المكان في الآن نفسه. لأجل ذلك فإن الفوتوغرافيا مثلما يحددها رولان بارط/Roland Barthesفي كتابه “الغرفة المضيـئة””La chambre Claire”: “تــحمل دائما مرجعــها معـها، كـلاهـما مـدغــومـان بنفـس الجــمـود الـعـاشــق و الجنائزي في قلب عالم دائم الحركة.” إن لحظة الانخطاف التي يصوغها الحرف في النص هي ذاتها لحظة الزمن التي تحولها الآلة المصورة (الكاميرا) من مرجع أو حادث أو شخص أو شيء إلى دال فوتوغرافي هو الصورة الفوتوغرافية. و يظل سؤال بارط “لماذا اختيار تصوير هذا الشيء أو هذه اللحظة بدل اللحظة الأخرى أو الشيء الآخر؟” مطروحا في عمق كل انخطاف شعري أو انبهار إبداعي مولِّد للنص/للصورة.
الصورة و المقـدَّس:
أوجدَتِ الصورة لنفسها منذ القديم في كل الحضارات الإنسانية أسبابا لأن تكون سابقة على الكـتـابة و التدوين. و لا يقف الأمر عند مستوى المِخيال أو اللاوعي البشري في الطقوس و العادات و التمثُّلات الذهنية، بل إن الحضارتين الفرعونية و الإغـريقية ـ على سبـيل التـمـثـيـل ـ اعـتـمدتا بشكـل كبـير على الصورة في السـياسة و الـمعمار و الـتشـكيل و النحت و النقش…
لقد شكَّلت الصورة منذ القدم درعاً في مواجهة الخوف من الطبـيـعة و القـوة (ظاهرة أو أو خفيَّة أو غيْـبِـية) و السـلطة و تَمِيمةً ضد المرض و النـحـس و العجز، و مقاومةً إبداعية للموت و الفناء و العدم.
و على الرغم من العلاقات الجدلية التي استقامت (أو انحرفت) بين الصورة و الدين في مجتمعات عديـدة و ديانات مختلفة إلا أن الصورة ظـلت جزءً من الحـيـاة، تراهن على “المُقـدَّس” تارة في الأيقونات و التماثيل و المجسمات و الرسوم و التطريزات و تنافسه تارة أخرى و تتجاوزه مستقوية بسلطتها الرمزية في مقاومة الموت و العدم؛ ألم يخلد الفراعنة أنـفسهم و يتجاوزوا “مُسَلَّمة” الجسد الفاني و يجعلوا حياتهم متحفا مفتوحا لكل العصور عبر الصورة و التصوير؟
فتنة “الصورة”:
إن الصورة لغة قبل اللغة و بعدها، صنعت رموزها و حققت عبر تلك الرموز التواطؤ و التواصل ضمن جماعات و حضارات بشرية. لكن اختلاف تلك الرموز التصويرية من حضارة إلى أخرى، و من عصر إلى آخر لم يكن وفق ريجيس دوبري (“حلقة منتصف الليل”/ نونبر1992) لاختلاف الرموز أو العصور، و إنما لاختلاف النظرة. فالصورة ـ في رأيه ـ “غير موجودة إن لم ننظر إليها، لأن النظر هو الذي يصنع الصورة”. و من هذا المنطلق فالذي تغيَّـر في العصور التي رصدها دوبري ليس الصور و إنما طبيعة النظر/النظرة الموجَّه/ـة للصور. ففي القديم كانت النظرة ـ حسب دوبري ـ سحرية تتجاوز الصورة المنظورة إلى غير المرئي أو الغيبي؛ بحيث تغدو الصورة شكلا متعالِـياً لقوة خارقة. و في مرحلة لاحقة تقَـوَّت النظرة الجمالية المنبعثة عن الفن، و غدت الصورة أثرا فنِّياً مثل باقي الآثار الإبداعية. و بعد أن سرعت التقنية وتيرة الحياة و وتيرة الصورة تحولت النظرة إلى نظرة اقتصادية؛ بحيث يؤكد دوبري: “إن الرغبة في امتلاك دَوَال العالَم لكي تحدِّد الذواتُ ذواتِها داخل ذلك العالَم أفضى إلى عدم رؤية الأشياء بما هي عليه، بل عبر التنميطات/الرواسم الجاهزة و القوالب و الوصلات الإشهارية، أي عبر العلامات التي توضع لَـواصِقَ على الأشياء و الوضعيات.”
“اقتصاد” الصورة:
إن العالَم و هو يستحدث قيمه “الاقتصادية” و يوكِل إليها بتفويض مطلق سلطة “التَّحَكُّم” في كل ناجِزٍ سابق أو منجَزٍ حالي أو محتمل الإنجاز، نمَّط كلَّ المَوْجـودات و المَصْنوعات و المُجرَّدات، و أدخل العالَم في منظومة تقييم تخالِط فيها صُورُ الأشياء حقيقتَها الفِعْلية، مثلما تلتبس الخيالاتُ/الأوهامُ بالماهيات و الهويات. لقد عمَّت فتنة الصورة في عصر “الصورة”. و بات لكل مرجع أو شيء أو إنسان صورة جاهزة “يرتديها” بمحض إرادته، أو على مضض أو قسراً، لأن الصورة جاهزة بكل تفاصيلها تبحث عنه، قبل أن يرتضيها لنفسه أو يبحث عنها.
لكن ماذا عن صور الموت، أو عن صورة الحياة المفارِقة للجثث أو الأشلاء أو البـقـايا الآدمية؟ و ماذا عن صور الآلام و الأوجاع و العذابات و “المجازر”؟ أين يكمن موقعها في عالم الاقتصاد؟ و ما موقعها من الفن و الـجـمال و الإبداع في عالم التصوير؟
من يحمل الآلة المصوِّرة و من يسدِّد اللقطات و يظهِرها على الملأ؟ و من يجني فوائد الأشرطة المُقتَنَصة أو المُختَلَسة أو المُخزَّنة أو المنشورة؟ و ماذا يفعل الإنسان أمام موت الإنسان فيه قبل أن يكون أمامه؟
صورة الموت و عنف الصورة:
“نصْمُتُ اليوم” جملة بالأبيض و الأسود تصدَّرت يوم الجمعة سابع أكتوبر(2016) مجلة “شتيرن”/”STERN” الألمانية التي حجـبت أي مـوضـوع على مـوقعـها الإلـكـتروني و اكتفت بصور المـأساة السـورية. و قالت هيئة تحرير الموقع في بيانها، وفق “الدوتشيه فيله”: “يجب على الصحـفـيـين ألا يصمتوا. عليهم أن يصفوا المأساة بالتقارير و التحليلات. و كلما أخذنا واجبنا بمزيد من الجدية، صعقتنا معاناة الناس في حلب و سوريا بأجمع. “لأجل ذلك قررت هيئة التحرير أن تبقى” صـامـتـة طوال الـيوم، و ألا تنشر أي خـبر أو إعـلان أو عاجل. هي الصور فحسب من حلب و سوريا، و الصور ليست صادمة و ليست لأطفال غارقين في دمائهم، إنها صور الحياة اليومية الحزينة.”
و لقد تزامن هذا الموقف الاحتجاجي من المجلة الألمانية مع انعقاد فعاليات “أخلاقيات المهنة على أرض الواقع” على هامش جـائزة بايو للمراسلـين الحربيــين في شمال غـرب فرنسا، و ما قد احتدم من نقاس و جدل ين المصورين المحترفين الذين يرابطون في أرض الصراعات حول إشكال: “كيف يمكن تصوير العنف بهدف إدانته بدون صدم من سيشاهد هذه الصور و دون خدمة أهداف من يتسبب في العنف؟”.
الصورة بين الفعـل و ردِّه:
يقول ريجـيس دوبري: “سواء أكانت الـصـور تـوحش النـفـس أو تخفـف عنها، تدهش أو تسحر، سواء أكانت يدوية أو تقنية، ثابتة أو متحركة، بالأبيض و الأسود أو بالألوان، صامتة أو ناطقة، فإنه لَأَمْـرٌ مؤكد ـ منذ عشرات آلاف السنين ـ أن الصور تدفع إلى الفِعل أو إلى ردِّ الفعل”.
و يرى رولان بارط أن الصورة “لا تقول ـ بالإجبار ـ ما “لم يعُد موجوداً”، لكنها تقول ـ و بكل تأكيد ـ “ما كان موجوداً”. هذا الفرق حاسم، فأمام الصورة لا يتخذ الإدراك بالضرورة من الحنين/النوستالجيا مساراً للذكرى. إن مسار أي صورة موجودة في العالَم هو اليقين. إن جوهر الفوتوغرافيا هو التصديق على ما تُمثِّـله.”
بفضل ذلك التصديق استطاع ريجيس دوبري (بصرف النظر عن اتهام أليدا غيفارا له سنة 1996 بالمسؤولية الجزئية عن القبض على أبيها سنة 1967 ببوليفيا.) أن ينجو من التصفية المحقَّقة في المعتَقل/المنفى البوليفي بتهمة التحاقه بثورة تشي غيفارا. و جاءت نجاته بمصادفة اقتناص أحد الهواة لصورة لدوبري تأججت بعد نشرها حملة مساندته دوليا فأنقذت حياته.
و بسبب التصديق ذاته في سياق و نسق آخرين تمت “تصفية” ناهض حتر أمام مبنى قصر العدالة الأردني أواخر شهر شتنبر “دفاعا” عن الله، أثناء أطوار محاكمة ناهض حتر قضائياً لإعادته نشر/مشاركة صورة كاريكاتورية (مجرد صورة/ مجرد “شير” فيسبوكي) على جدار حسابه بالفيس بوك.
للختم:
الصورة غواية مفتوحة و فتنة دائمة لا تستقيم للحرف أمامها في لحظتنا الرقمية المعيشة كلُّ الإثارة و كاملُ التشويق و ثابتُ اليقين. لكنها في العمق قد تكون ـ كذلك ـ مؤذية أو عـنيفة بجرعات غير محتملة، مثلما قد تكون سطحية و غبية بمقـاسات لامبالية، و قد تكون مُدينة و حاسمة أو مصطنعة و تجارية. و الهوس بالتقاط الصورة و التفنن في ابتداع أشكالها المتطورة حاليا رغبةٌ في تخليد العابر المارق الذي لا قدرة له على الاستمرار أو الخلود في الوجوه و الملامح و الأشياء و الأحياء و المدن و غيرها.
فهل يموت “الإنسان” كي تحيا الصورة؟ أو هل لكي تحيا الصورة ـ في عصر الصورة ـ على الإنسان أن يموت رمزياً و مادياً؟
قد يجيب “الاقتصاد” مادامت له كل سلط “التَّحَكُّم” و الاستبداد بها. وعلى الفكر و النقد أن يراوغا “الموت” و يقاوما العماء و يبحثا للوجود عن تفعيلات و تحيينات أخرى خارج “الصور” و داخلها.
______________
• كاتبة من المغرب.
• نشر المقال بمجلة الإمارات الثقافية.