يفسر وضع العلامات اللغوية وغير اللغوية في أنساقها الاجتماعية، طريقة عملها وسببها. وهو ما يشير إليه بارت في نصه (موت المؤلف)، فموت المؤلف يمنح للقارئ الحرية، نظرا لانعدام سلطة نهائية تقرر معنى النص، كما لا يوجد معنى نهائياً يقترن بالعلامة، لأن العلامات تتغير باستمرار حسب سياقها الاجتماعي واللغوي. إن النص “مصنوع من كتابات مضاعفة.
وهو نتيجة لثقافات متعددة، يتداخل بعضها مع بعض في حوار، ومحاكاة ساخرة، وتعارض”( بارت رولان، نقد وحقيقية،ص:24. )مما يمنح النص امتياز التعددية الدلالية والتعارض.
تتقاطع المعرفة اللسانية مع المعرفة السيميولوجية عند بارت بأربعة مفاصل أساسية، ويستند في ذلك إلى تصورات دوسوسير، وهي:
اللغة والكلام: فاللغة مؤسسة اجتماعية ونسق من القيم لها بنية ثابتة، عكس الكلام الذي يتكون من أعداد لا متناهية من الملفوظات. فالكلام فعل فردي، أما اللغة فترابط اجتماعي وتؤخذ بكليتها إذا أردنا تحقيق التواصل.
الدال والمدلول: يشير المدلول إلى الدال، فلا يفصح عن المدلول إلا من خلال الدال، لأنه فحواه المادي. لكن وجود الدال حتمي في المقاربة السيميولوجية، فلا تتشكل العلامة إلا من خلال علاقات تركيبية ضمن أنساق. والعلاقة التي تربط الدال والمدلول هي العلامة.
المركب Compound، النسق System، الجدول Table: يبنى المركب على التمركز، وبدونه لا يكون حاملاً للمعنى. فنشوء المعنى يتم من خلال تنسيق الظاهرة المدروسة. وينظر إلى المستوى التركيبي بوصفه المحور الأفقي للظاهرة(أثاث المنزل على سبيل المثال). أما المستوى الجدولي فيمثله المحور العمودي(مختلف أنواع الأسرة). ويتولد المعنى في العلاقة التركيبية بين العناصر المعزولة، متى ترابطت مع بعضها البعض.
الدلالة الذاتية Self Segnificanceوالدلالة الإيحائية Segnificance Placebo: تشير الدلالة الذاتية إلى معناها الحرفي والمباشر، الذي لا تحتاج إلى عناء التأويل. وهي نسق دلالي يتكون من دال ومدلول والعلاقة بينهما تشكل العلامة. أما الإيحاء فهو امتداد للنسق الأول، وفيه تكون العلامة بمثابة دال لمدلول ثانٍ. وبهذا فإن النسق الإيحائي Placebo System يمثل نسقا من المستوى الثاني. أما الدلالة الذاتية فيكون معناها في صلب توليد الدلالة، بمعنى إنها مركز الدلالة الذاتية وسندها، وخاصة في التعبيرات الاستعارية حتى لو كانت غير لغوية مثل: اللوحة، والصورة، والحركة، والإشارة( بوعزيزي، محسن، السيميولوجيا الاجتماعية،ص:61-73 ).
إن مفهوم النسق أساسي في البحث السيميولوجي، لأنه يسعى إلى كشف شبكة المعاني التي تتخفى داخل ظاهرة ما. فالعملية السيميولوجية عملية بنائية تبني صوراً وعلامات، تتشابك مع بعضها البعض لتؤسس نسقاً من العلامات يتعدى مستوى الوصف والفهم. بمعنى أوضح: إن العملية السيميولوجية تسعى لإنشاء علاقة جدلية بينها وبين الموضوعات بوصفها روابط المعنى التي تحتفظ بها في داخلها، من دون إقحام محددات أخرى. فالسيميولوجيا لا تحيد تلك المحددات ولا تهمشها، بل تتناولها من وجهتها الخاصة وتوظف مكوناتها ضمن نظام من المعنى.
نخلص من خلال التقاطعات التي وضعها بارت والتي تمثل خلاصة مشروعه السيميولوجي إلى أن البحث عن المعنى يسند إلى الأشياء التي لا صوت لها. فالبحث عن المسكوت عنه يتجسد في كيفية إكساب المعنى للأشياء المخفية، وهو ما يرتبط ارتباطا وثيقاً بالموروث الاجتماعي والمخزون الثقافي الذي يكون في أغلب الأحيان مهملا وهامشيا، لكنه منغرس في الوعي الجمعي. وإذا كانت الموضوعات عند رولان بارت تضم محددات اقتصادية واجتماعية متنوعة وواسعة، فإنّ السيميولوجي عنده لا يتناول اقتصاد “الموضة” أو اجتماعيتها، بل يسعى إلى تحديد المستوى الدلالي للموضة.
ويؤكد بارت على أن اللغة هي الوسيلة الناجعة لفهم العلامات، فلا يمكننا أن نفهم ماهية اللوحة أو الصورة مثلا، دون قراءة عنوانها. فالعنوان يقربنا من محتوى اللوحة ومعناها. إن العلامة لا تشكل بمفردها معنى، وهذا جوهر الاختلاف بينه وبين دو سوسير الذي شدد على أن اللغة جزء من السيميولوجيا، بينما بارت يرى عكس ذلك تماما.
يقارب بارت في كتابه (الأساطير1957) الظواهر الثقافية اعتمادا على الرؤية الفيلولوجية عند دو سوسير، من خلال تحليله للعديد من المظاهر الشعبية مثل: الرياضة، والتسلية، ووقت الفراغ، وأنواع الطعام. وبهذا يضع اليد على البنية الخصبة للظواهر، التي يتأسس عليها ما يصطلح عليه: بالقاعدة البرجوازية. وهي المعاني التي تميز طبقة اجتماعية. وليست البنية الخصبة للظواهر سوى العودة إلى الأرضية التي تتحرك من خلالها تلك الظواهر. ولم يكن بارت ناقداً سكونيا يرضى بالمتداول من الأفكار، بل ناقداً للقيم الثابتة المتحنطة، وأركيولوجيا في علم العلامات. فقد سعى لاستبعاد التكرار والمكتسب، من أجل تحطيم السلطة وتفتيت الأنظمة حتى يعيد بناءها من جديد. فقد قدم في (الأساطير) نقدا تحليلاً تهكمياً لبعض التمثلات الأيديولوجية للبرجوازيات الصغيرة، من خلال الأعمدة والصحف اليومية، وكتب عن عوالم لا يمكن لنا معرفتها وفك أسرارها، لأنها عوالم مغلقة. ولم يكن معنيا ببناء النماذج، بقدر ما كان هو نفسه نموذجا في فك الرموز.
وهنا نتساءل: هل انبثقت البنيوية من الأنثروبولوجيا؟ فطروحات البنيويين تؤكد على العودة إلى نواة الظواهر لاكتشاف المعاني، التي تكمن في عمق الظاهرة وجذرها. ورغم تأكيد دوسوسير على أن اللغة تنفرد باعتباطية علاماتها، فإن بارت قدم لنا مصطلحا أكثر دقة وإفادة وهو(المحفزة)، الذي يوحي بأن هناك تفسيرا للطريقة التي تعمل بها العلامات البصرية.
لقد اقترح بارت ثلاثية أساسية من العلامات، لا تختلف اختلافا جذريا عن بعضها البعض، لكنها توجد بمستوى متدرج من العلامات ذات الوظيفة الواحدة، وهي: الأيقونية، والاعتباطية أي العلامات المتعددة المعاني والمحفزة. ولا يتحدد وجود العلامات بوجود اللغة، بل هناك أنساق من العلامات تتعدى حدود اللغة المكتوبة. وهو ما يتضح في تحليل بارت للباس باعتباره لغة، وكانت له الريادة في هذه الإشارة.
ورغم اشتغال بارت العميق على علامات الزي وما أنجزه في نسق الموضة، يظل منجزه يشبه السيميولوجيا البدائية، لأنه اكتفى بتتبع آثر اللسانيات وطبقها على اللباس، وأغفل بعده الاجتماعي. وهو الأمر الذي يتعارض تماما مع تصوراته في نسق الموضة. إن بارت يرى كل عمل سيميولوجي تطبيقي هو استكشاف وليس اكتشافا، استكشاف لكل ما يحيط بالظواهر الاجتماعية من غموض. لهذا نجده، يتنقل بين مناهج وميادين معرفية مختلفة: اللسانيات، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والسيميولوجيا والبنيوية. غير أنّ محاولاته تمتاز بالمغامرة والجرأة، من خلال كتابته عن الأشياء المهملة والهامشية التي نادرا ما ينتبه إليها الآخرون، ويحولها إلى معنى ومادة للتأويل. بل ذهب في مشروعه التحليلي بكلّيته إلى سؤال المعنى، مما يستلزم تأويل الحدث مهما كان حجمه أو تأثيره، للخروج بنتيجة بعينها.
ويتفق بـارت في اشتغـاله المعـرفي مـع الأمريكـي شارل ساندرس بورس C.S. Peirce ، الذي يدرس الأشياء مستحضرا الرياضيات، والأخلاق، والميتافزيقيا، والفن، والأدب، والعلوم، والاقتصاد، بوصفها موضوعات سيميائية. فالنص عنده جزء من جهاز مفاهيمي أساسه العلامة، يقول بارت: “إن مفهوم النص يعني ضمنياً أن البلاغ المكتوب هو في تركيبه على غرار العلامة، إذ نجد من ناحية الدال (مادية الحروف، وآخذ بعضها برقاب بعض في ألفاظ وفقرات وفصول)، ونجد من ناحية أخرى المدلول، بصفته معنى في الآن نفسه أصلياً، أُحُادِي الدلالة نهائياً، ويمنعه من الارتعاش والازدواج والهذيان؛ وكذا الشأن بالنسبة إلى النص الكلاسيكي، فهو يغلق الأثر ويشده إلى نصّه الحرفي ويعقِلُه إلى مدلوله”( بارت رولان، نظرية النص، ص:17 ). ومن هنا، فإن الرموز الإنسانية الكبيرة لا تحيل إلا إلى معنى واحد وهو المعنى الأيقوني، مثل: (الصليب في الثقافة المسيحية، الهلال في الثقافة الإسلامية).
______
*المدى