لم يرد لسنواته المرة أن تخبو في قبو ذاكرته ولا لروحه أن تتكسر شظاياها وتتناثر ولا تنحى منحى التعبير في المواربة بل أطلقها نصوصاً شعرية واضحة صريحة ، موجوعة نعم ، لكنها بلا تزوييق أو تزييف ، أحياناً طويلة وأحياناً قصيرة نصوصه، ولكنها في الاثنتين مستوفية الوجع ، هي سنين حياته المحاصرة بخسارات الحروب وفجائعها ، نصوص كشفت أولاَ عن هوية كاتبها بأنه إنسان اكثر مما يجب لتتحمل روحه ذاك الإرث القديم عن ماهية الحياة ومعلنة عن حجم مسلسل الخسارات ، يبدأ حمدان طاهر المالكي ( ١٩٦٩ ) ، الشاعر العراقي ابن مدينة ميسان مدينة كل نجم زاهر نصوصه الشعرية ( ما يضيئه الظلام ويطفئه الضوء ) بتوطئة يقول فيها ( أتبع أيامي مثل كلب وفيّ ) وكأنه بهذا يقول إنه يعيش أيامه رغم ما أفسده الزمن.
م ايضيئه الظلام ويطفئه الضوء ….. هي المجموعة الخامسة للشاعر العراقي حمدان بعد ( نخلة الحلم ) و( مجرد شجرة ) اللتين صدرتا ببغداد ، ومجموعة ( غرق جماعي ) التي صدرت عن دار أدب فن في هولندا ، ومجموعة مختارات شعرية ( قبل موتك بقليل ) مترجمة إلى اللغة الفرنسية صدرت مؤخرا ترجمها محمد صالح بن عمر وصدرت عن دار أدليفر الفرنسية ، ما يضيئه الظلام ويطفئه الضوء مجموعة شعرية تقع في ٤٣ نصا توزعت نصوصها ما بين النصوص القصيرة والمتوسطة . رسم لوحة الغلاف الفنان أحمد المالكي فيما جاء الغلاف الخلفي بصورة شخصية للشاعر مع كلمة للناقد والمترجم التونسي محمد صالح بن عمر عن تجربة الشاعر الشعرية.
أول نص يصادفك هو ( صعود ) وفيه فلسفة وجودية عن خلق الإنسان وما له وما عليه ومتاهات كينونته تتجسد في سطوره التالية
صعود
*****
أنا قديم جدّا
لا أعرف متى بدأت
سمعت حواء
تقول لآدم
كُلْ يا رفيقي
لننعم بالخلود
لم أر سوءة أحد
ولم آكل من الشجرة
لكنّي هبطت
حين تلقى آدم الكلمات
لم يعلمني منها شيئا
ومنذ ذلك اليوم
وأنا أبحث عنها
.. لأصعد إلى الجنة
النصوص محاكاة واقع وطن بمآسي حروبه التي دلُقت عليه تترى واحدة تلو الأخرى وباتت قائمة المفقودات تطول ولم تستثنِ عزيزا أو بعيدا ، أولها الأخ الذي أكلته الحرب تبعه رهط الأصدقاء وحمدان يستذكرهم جميعاً كيف كانوا وكيف رحلوا وكيف بقي وحيداً مسيّجاً بذكريات عصية النسيان
موت بصفة غير قطعية
*****************
غاب أخي كثيرا
حتى لم أعد أتذكره
لكنه زارني في الرؤيا
على هيئة طائر
حين دنوت منه
صرت شجرة
لم يحدث شيء
سوى أننا أغمضنا عيونهم
واتجهنا بهم
صوب البيوت المنهكة
في الليل جمعنا صورهم
ورتّبناها حسب أعمارهم
وبكينا دون دموع
بعد أن عدنا من المقبرة
عاد أخي معنا
لم ننتبه إليه
وبمهارة لا يجيدها
سوى الموتى
دخل عيوننا
لكن دموعنا المالحة
ذرفته عند الطريق البعيد
يغسل القتيل جرحه
بدمع الأم
ويعود إلى قبره
مثل وردة اصطناعية
بعد أن غاب كثيرا
وجدناه أخيرا
أخي الذي صار جمجمة
بين أسنانه
كلمات كثيرة لم نفهمها
الذي وقفنا طويلا عنده
لم يكن طابورا للخبز
ولم يكن طابورا للأمل
لقد كان رصاصة في الرأس
يجّسد رحيل أصحابه وتفرق جمعهم بعد أن صدقوا حكاية الفردوس لقد تعبوا كثيرا وهم يدبّجون وصاياهم الطويلة تعبوا من أدوارهم المملّة وآن لهم الانتقال إلى مكان آخر، يا صاحبي لم يبق أحد سوانا، تعالَ نتخيّلْ دورا جديدا لا فردوس فيه ولا جحيم
ألم قديم
*************
أفكّر في صديقي الغائب
وأذكر أن عظامه
كانت تؤلمه ،
هل مات معه الألم
أم ظلّ يحرس جسده ،
بالأمس زارني
تحدّث عن عوالمه الغامضة
ضحك كثيرا حين سألته عن الجنّة
ضحك كثيرا عن معنى الجحيم
لكنّي نسيت
.. أن أسأله عن ألمه القديم
أمه وأباه ملاذاته في الوجع يستذكرهم فالأب ذكراه موغلة أكثر في الذاكرة مرتبطة بالحقول والأم مريضةٌ بثوبِها الأسود ومنذ أربعين سنة لم يستطعْ أحدٌ أن يقنعَها بلونٍ آخر
ليل الحقول
*************
أبي الذي كان يحب الخيول
لم يعرف ماذا جرى
لحصانه الوحيد
إذ بعد مماته
قررنا هجرة الحقول
سمعت أخي يقول له
اركب معنا
لكنه نظر إلينا
نظرة آسف
أدار وجهه
كان صهيله مكتوما
فيما كانت دمعته
..تضيء ليل الحقول
وقفات إنسانية تجدها في مشاهد كثيرة ، لم يتوان الشاعر من تخيل موته ليقترب من تلك الدمعة الساخنة لطفله ، كأنه يشي لنا بأنه يحزن مسبقاً ويحزن مرتين لكل مشهد تستذكره إنسانيته المعذبة ولأنه ذاق ذاك الحزن عند موت الآخرين الذي ينغرز في النفس كأنه أسفين …. هكذا هو الموت عندما يقترب منك إصبعين بموت الأخ أو الصديق تصاب روحك بعدوى الموت.
دفعت حياتي بعيدا
***************
كان السوق مزدحما
تعبت من التّجوال
جلست بالقرب من جثتي
تعاونت مع رجال لا أعرفهم
لحملها في العربة
أخيرا وصلت إلى البيت
هنّأني رجال لا أعرفهم
على موتي
ومن وراء الباب
سمعت الصغار
يقولون جاء أبي
أغمضت عينيّ
ودفعت حياتي بعيدا
..عن دموعهم الساخنة
حتى أقصر الطرق للحقيقة ، الطريق إلى الله ، لم يعد سالكاً كالسابق ، ملأه الدعاة بألاعيبهم ومتاجراتهم حتى بات في هذا الزمن الدين أكثر الألعاب تسويقاً و ربحاً ، حمدان يقولها جلية واضحة في هذا النص الشعري:
الوصول إلى الله
************
بالأمس تخيلت
أني نوح
لم تكن معي أخشاب
لأصنع سفينة
ولم يكن لي ولد
يعصي أوامر الله
كان هناك الكثير
من القتلة الذين يحومون
حول معجزتي
التي لم يصدقها أحد غيرهم
جثث كثيرة ملأت المدينة
فكرت بالطوفان
حلاّ أخيرا
لكن الجثث ركبت
توابيتها وعبرت
وها أنا الآن أغرق
بيدي عُلبة معجزات
منتهية الصلاحية
فيما كان القتلة
يتسلقون الجبل
.. للوصول إلى الله
تبقى ال‘شارة بأن الشاعر العراقي حمدان طاهر المالكي يعتني باختيارات عناوين نصوصه الشعرية بنفس الذائقة التي تحكمه عند كتابات النص ، المتصفح لتلك العناوين يكاد يرى أنها نتاج التجربة …عنوان م ايضيئه الظلام ويطفئه الضوء….عنوان يأخذ بيد المتلقي لتأملات واسعة ، تُرى ما هو القصد من وراء هكذا عنوان؟ وما هو حل اللغز ؟….عندما تنتهي من نصوصه الـ ٤٣ تكتشف مرارة لعبة الحياة والموت …..نعم الحياة التي تضيء حولها من عماء ، والموت إن حضر يطفئ الروح ولا تعد هناك من حاجة لقول المزيد …. ما يضيئه الظلام ويطفئه الضوء. هو دعوة مجانية لأن تجعلك تشهق بالبكاء لا لشيء إلا لأنك إنسان.