«اصطياد الأشباح» للفلسطيني رائد أنضوني : تجربة حياتية جديرة بعمل فني

*محمد عبد الرحيم

«مطلوب سجناء سابقين يمتلكون خبرات في الهندسة المعمارية، أو المقاولات العامة أو التمثيل». مجرد إعلان صغير في جريدة، بدون إخفاء دهشة المفارقة ما بين طلب بنّاء أو ممثل، على أن يكون الشرط الأهم هو أن يكون سجينا سابقا. هكذا بدأ تجميع أفراد فيلم «اصطياد الأشباح»، للمخرج الفلسطيني رائد أنضوني، الذي يحاول من خلاله إعادة بناء حالة أو حياة بعض أسرى أحد سجون الاحتلال. وما بين تجربة الأسر وتجربة التمثيل أو إعادة ما كان وقد حدث، تأتي التجربة الفنية وجمالياتها الخاصة بها، بدون محاولة الامتثال إلى المقولات الكبرى أو الأفكار الطنانة التي تصم الوعي. حاز الفيلم عدة جوائز، أهمها جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين السينمائي الأخير، في دورته الـ67.

عن الذات والعالم

يعتبر الفيلم توثيقا استعاديا لحالة ذاتية مرّ بها المخرج نفسه، وقد تم اعتقاله بسجن (المسكوبية)، الواقع شمال مدينة القدس، قبل بلوغه العشرين من العمر. وعن طريق ذاكرة المعتقلين السابقين تتم إعادة بناء الحوادث ومعايشتها بهدف تجاوز المحنة المقيمة، كمحاولة للعلاج النفسي من خلال الفن. فالأمر وإن كان ينطلق من تجربة الذات ومعاناتها، إلا أنها تتماس والعديد من الحالات والشخصيات الأخرى، التي لم تزل قابعة في سجون دولة الاحتلال. كيف كانت التجربة، وإلى ماذا آلت الآن؟ كيف يعيش هؤلاء بعد كل هذا الوقت، وكيف أثرت التجربة على حياتهم، رغم تباين الوقت والفروق الشخصية والنفسية لكل سجين سابق؟ من هنا جاءت أهمية الفيلم، فهو لا يحكي أو يكتفي بسرد ما كان، قدر ما يريد تجسيد حالة الحدث على الكائن فعلا اليوم.

انتقاء أسير جديد

يبدأ الفيلم بانتقاء بعض الشخوص، وقد تقدموا على إثر الإعلان المنشور، ويبدأ المخرج في القيام بدور المحقق، من حيث توجيه الأسئلة إليهم، عن ظروف الاعتقال وما فعلوه وما يفعلونه الآن، وكيف كان تأثير ذلك وما شابه، هنا الأسير/الممثل يُعايش زمن الأسر طواعية، ولا يخشى من تكرار التجربة، حتى لو كانت أمام الكاميرا. ورغم هذه البداية التي تُدخل كلا من المؤدي والمتلقي إلى هذه التجربة، يقوم الأسرى بإعادة البناء الفعلي للسجن، الذي قضوا فيه أسوأ أيام حياتهم، وصولا إلى إعادة تمثيل أو تأدية عدة مواقف مختلفة القسوة، من إهانة وتعذيب، وأساليب انتقامية يعرفونها جيدا، لم تزل تشوه مخيلاتهم.

الأسلوب السينمائي

وبالطبع لا يمكن تقديم الوقائع كما هي، خاصة ونحن أمام عمل فني يعتمد الذاكرة وحكاياتها بالدرجة الأولى، وبغض النظر إلى التصنيف، في كونه فيلما وثائقيا اعتمد في بعض منه الخيال الروائي، إلا أنه لا يُعد شكلا جديدا من الأشكال الفيلمية، ففكرة وثائقي، أم روائي أصبحت من الأفكار البالية، التي لا يزال يتحدث عنها بعض العرب المهتمين بالسينما أو كتابة انطباعتهم عنها في الصحف. فالأهمية تنسب إلى موضوع الفيلم ذاته، والأسلوب السينمائي الأجدر على إيصال فكرة الفيلم وخلق حالة التواصل والتأثير في وعي وروح المتلقي، بغض النظر عن التصنيف المدرسي الكلاسيكي، القاصر بطبيعة الحال، فالاحتكام إلى شكل وأسلوب تنفيذ العمل لا أكثر ولا أقل.

اصطياد الأشباح

ويأتي اسم الفيلم «اصطياد الأشباح» ليدل على محاولة تجاوز محنة الأثر، بإعادة تجسيدها والحديث عنها مرّة أخرى، محاولة التطهير بالحكي، حتى يمكن أن تستقيم الحياة بعد ذلك. اصطياد أشباح الخوف والرعب من التجربة ونتائجها، وبالفعل .. نرى أثر ذلك على الأسرى/الممثلين، أفعالا لا إرادية ــ قدر الإمكان ــ من البكاء والصراخ، والإحساس الدائم بالتوتر والخوف حد الرعب، رغم العلم التام بأنهم أمام الكاميرا ــ وقد نسوها تحت ضغط التجربة ــ وأنهم مَن قاموا ببناء ما يُشبه سجنهم الحقيقي بجدارنه وأبوابه الحديدية. ويبدو أن الذكرى حيّة إلى أقصى حد، مهما حاولوا عدم الالتفات إليها أو اختلاق ألعاب التحايل على ما حدث، وتمثيل العيش من جديد. فأي حالة تمثيلية يعيشها هؤلاء.. الحياة عدة أيام أمام الكاميرا؟ أم الحياة ما تبقى لهم من عُمر؟

________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *