قصيدة “سوريا” لسليم بركات: انقلاب على المُحتمَل والمَجهول
يناير 14, 2018
خاص- ثقافات
*د. مازن أكثم سليمان
تتأسَّسُ الرُّؤية النَّقديّة المُهيمِنة على قراءة نصوص سليم بركات، ولا سيما الشِّعريّة، على فكرة تعدُّدها الدَّلاليّ القائِم على طاقاتِها المَجازيّة والرَّمزيّة العالية في تشويش المعنى عند المُتلقي، وذلكَ عبر قُدرتِها التَّوليديّة على بعثرة العلامات وتشتيتِها في بُؤر اللَّعب الحُر، حيث لا تقبلُ تلكَ العلاماتُ الانصياعَ لامتلاكٍ تأويليّ أحاديّ البُعد أو نهائيّ مُغلَق، ليظلُّ القارئ إثرَ هذا، وفي كُلّ مرّة، غارقاً في رحلة سديميّة اختلافيّة غير قابِلة للحسم أو الاستقرار المُستجيب لأفق تّوقُّعِهِ، وهوَ الأمر الذي يفرضُ عليه أنْ يُعدّ دائِماً عُدَّتَهُ المَعرفيّة المُسَبَّقة لخيانة نفسِها إزاء ما يبدو عالَماً شِعريّاً ينفتِحُ بلا هوادة على مُمكنات التَّعدُّديّة واحتمالات المَجهول الشّاسِعة.
أُحاوِلُ في هذِهِ المُقارَبة أنْ أختبِرَ مدى تحقُّق هذِهِ (الثِّيمة/الفرضيّة) الشّائِعة في شعر بركات، في ديوانِهِ/القصيدة “سوريا”، وهل فعلاً استطاعَ هذا الدّيوان أنْ يكونَ وفيّاً لصيرورة الكتابة لديه بما يُفترَض أنْ تفتتِحُهُ من فَجوات، وما تبسطُهُ من أساليب وجود مُغايِرة؟ وبوجهٍ خاصّ إذا نظرْنا إلى الدَّلالة في هذِهِ المُقارَبة بوصفِها تنهَضُ على علامة “الجُملة” _كما اقترَحَ “ريكور” في منهجه التَّأويليّ_، لا على علامة “الكلمة”؛ أي بالنَّظَر إلى الجُملة على أنَّها الدّال المُفضِي إلى تفحُّص كيفيات الوجود القائِمة في عالَم القصيدة بما هوَ عالَم تنفتِحُ فَجواتُهُ تخارُجيّاً عبرَ الصِّراع الجدَليّ بينَ الذّات الشّاعرة الوقائعيّة والذّات الشِّعريّة الافتراضيّة.
أوَّلاً: جدَليّةُ العابِرِ والكُلِّيّ:
قالَ سليم بركات في مطلع قصيدتِهِ: “لا تسألوني الضَّبطَ مُتقناً بعد الآن. الْأعالي مُخبَّلةٌ مزَّقتْ/ صُدْرَتها، والأسافلُ مُخبَّلةٌ كالأنحاءِ الخَبَلِ لا تُرتجى بعد الآن“
تُحقِّقُ هذِهِ الافتتاحيّة استيفاءً وجوديّاً/موضوعيّاً شموليّاً للدَّلالة، انطلاقاً من التَّقابُل الثُّنائيّ لطرفيها (الأعالي والأسافل) بما هُما الفضاء المكانيّ للأحداث السّوريّة (المُخبَّلة)، وتأتلِفُ زمكانيّاً مع زمن هذهِ الأحداث المُتعيِّن (الآن وما بعدَ الآن)، في رؤيا نهائيّة تُؤكِّدُها منذ بداية القصيدة (لا النّاهية: لا تسألوني الضَّبْطَ مُتقناً بعد الآن)، وتستكمِلُها (لا النّافية: كالأنحاءِ الخَبَلِ لا تُرتجى بعد الآن)!
قالَ أيضاً: “ركبتايَ/خارَتا. خارَتِ السماءُ على ركبتيها، أيُّها البلدُ. الْحياةُ مُتسكِّعة، بعد/الآنَ، على أرصفةِ الموتِ. الْحياةُ تستدينُ من الموتِ ما تنفقهُ على الموتِ،/وتُكرِهُ الموتى على دفنِ الأحياءِ“.
ما من شكّ أنَّ الشّاعر يُعلِنُ في عالَم قصيدتِهِ بوضوحٍ يتوازى مع الحدَث السّوري الانهيارَ الكامل (بعد الآن)، وسيادة الموت وتغوُّلِهِ على كُلّ شيء حيّ في البلد، حيثُ تمضي الدَّلالة في مُنبسَطِها الوجوديّ لتحُدَّ من إمكانيّة التَّأويل، فلا شيء سوى الدَّمار والخراب والموت يُمارِسُ طُغيانَهُ على النَّصّ، والأحداث الرّاهِنة بفداحتِها تقتحِم المشهدَ الشِّعريَّ هُنا، لا كي تمرَّ بوصفِها أحداثاً عابرة؛ إنَّما لتتحكَّمَ بالعلامات، وتحفُرَ لها قبرَ المَعنى الكُلِّيّ الحاسِم الذي لا يقبَلُ الإرجاء مُطلَقاً.
قالَ بركات: “لن تُسمّيها أيّامَكَ أيّاماً بعد الآن، أيُّها البلدُ. أيّامُكَ القتلُ الجريحُ؛/القتلُ المنتَهَكُ؛ التَّعِسُ في حظوظهِ؛ المتداوَلُ قروشاً في الشِّرى“.
وبهذا الشَّكل، لا يتركُ الانفجارُ الحالي العنيف والاستثنائيّ فرصة للشّاعر كي يرسُمَ لعالَمِهِ الشِّعريّ مسافة زمنيّة ما تقيهِ خطر المُطابَقة الفنِّيّة التَّخييليّة مع الآنيّ المُتحوِّل، فالثَّورةُ/الحرب آنُ القصيدة الوحيد (الآن وبعد الآن)، والدَّمُ هو كُلّ ما يُمكِنُ أنْ تنتهي إليهِ الحركيّة الدَّوريّة للفَهْمِ، والتَّأويلُ مَخذولٌ لعِبُهُ الحُرُّ أيَّما خذلانٍ، ومُفضٍ إلى افتراسِ الرّاهنِ للكُلِّيّ وإخضاعِهِ لكيفياتِهِ العابِرة، ما دامَ الشاعرُ يُردِّدُ بالفمِ الملآن: “الغريبُ/شريكٌ/فيكَ،/والغزاةُ/أشراكٌ“.
ثانياً: سُلطةُ الذّاتِ الشّاعرةِ الوقائعيّة:
قال بركات: “لا/يوافقني/أنْ/أكونَ/الذي كنتُهُ، بعد الآن”.
تشي هذِهِ (العلامة/الجُملة الشِّعريّة) أنَّ تغييراً قد حلَّ بالذّات الشّاعرة عند الشاعر، لكنَّ سُؤال المُؤوِّل سيتَّجه مُباشرةً نحوَ البَحث عن طبيعة هذا التَّغيير، وهل هوَ ذلكَ التَّحوُّل الذي يُفضي إلى تعليق الدَّلالة وإرجائِها بوضعها بينَ قوسين، أم هو تغيير موازٍ أو مُتماهٍ مع الحدَث السّوريّ؟ ولا سيما أنَّ لازمة (الآن/بعد الآن) بمرجعيتِها الوقائعيّة تعودُ لتطفو وتُوجِّه القراءة باتّجاه شبه مُحدَّد، وهذا أمرٌ يؤكِّدُهُ قوله الآتي:
“لا فجرَ يُعيدني إلى ما كنتُهُ”.
ما من شكّ أنَّ دلالة (الفجر) المفقود في الأسلوب الوجوديّ المُنبسِط في هذِهِ الجملة، والمُؤسَّس على فكرة نفي إمكانيّة العودة إلى ما كانهُ الشّاعر من قبل، يُشير إلى مدى انغماسِهِ في المُعطى الوقائعيّ الطّاغي (حربيّاً ودمويّاً)، بحيثُ يفقدُ بركات حُلمَ الخلاص وضوءَ الفجر، ولا يجدُ أيّة بارقة أمَل مهما صغُرَتْ في الحدَث السّوريّ، لذلكَ يمتزجُ صوتُ الذات الشّاعرة النَّرجسيّة مع إيقاع الحرب، أو بالأحرى تلتحِقُ هذِهِ الذّات المأزومة بسَطوة العالَم الخارجيّ وطُغيان حركيَّتِهِ على حساب إمكانيّة الفعل والمُواجَهة والإيمان بالتَّغيير على الأقلّ تخييليّاً في عالَم القصيدة، فها هوَ ذا يقولُ أيضاً:
“طويتُ ما لا يُطوى _نَفْسي طويتُها عليَّ”.
إنَّ التَّمزُّق الخارجيّ في العالَم الوقائعيّ يُرسِّخ انطواء الذات الشّاعرة على نفسِها، أو انسحابِها وطيّ الحدَث بتراجيديَّتِهِ القاسية على مركزيتِها المُحكَمة، ليُحاكي تشظّي هذِهِ الذات الشّاعرة أساليب الوجود (الحربيّة/الدَّمويّة)، وبذلكَ تخونُ هذِهِ الذات إمكانيّة انفتاح عَوالِم القصيدة على (شيء النَّصّ غير المحدود)، وتكبَحُ جماحَ الارتماء في أساليب وجود مُغايرة كانَ يُمكِنُ أن تقترِحَها الذات الشِّعريّة الافتراضيّة، لكنَّ الصَّوت النَّرجسيّ هُنا ضحَّى بخُصوصيَّتِهِ مُندغِماً في مونولوغٍ يوحِّدُ الدَّلالةَ في وَحدة (الذّات/الحدَث) بما يُشبِهُ غنائيّةً رثائيّة مُسَبَّقة ومُغلَقة وأحاديّة.
وقالَ أيضاً: “نصيبي نصيبُ البحر: لا سفنَ ذاهبةً آيبةً”.
لعلَّ خُصوصيّة الصَّوت النَّرجسيّ عند الشّاعر تظهَرُ في عدم وقوعِهِ في الحشد المعجميّ الاعتياديّ عند مُعظَم من كتَبَ في شعر الحرب السّوريّة لألفاظ وعبارات وثيمات شعريّة مُتعلِّقة بالأحداث الوقائعيّة مُباشرةً، وهذا جانب يُحسَبُ لهُ بقوّة، غير أنَّ ما ربحَهُ بركات هُنا خسِرَهُ في مَوضعٍ آخَر، وأعني في إخفاق نصِّهِ بالوفاء بالتَّعدُّديّة الدَّلاليّة، عبرَ مُصادَرة المُنفتَح الاختلافيّ لعالَم الذات الشِّعريّة الافتراضيّة، وهوَ الأمر الذي يُطيح بقوّة المَعنى بمنعِهِ من النُّموّ، وبردم الفراغات التَّخييليّة المُنتظَرة أو المُتوقَّعة عند القارئ عبرَ تمطيط دلاليّ تكراريّ يُغيِّب أيَّ التباسٍ أو زيَغانٍ مُرتجى، فلا مُفارَقات قادرة على الخلاص من الرُّؤى القَبْليّة، ولا رمز يفتحُ أفقَ القراءة على مُمكنات المَجهول واحتمالاتِهِ، ما دام بركات قد وحَّدَ في سُلطةِ ذاتِهِ الوقائعيّة بينَ كذب الموانئ وكذب البحر، فكانت (الحقائق) لديه مُنجزَة؛ ذلكَ أنَّ نصيبَهُ هو (نصيب البحر)، ونصيبُ البحر هو ثباتُ السُّفن وجُمود الحركة (لا سفنَ ذاهبة آيبة)، وهذا الثَّبات ليسَ سوى سُكونيّة الدَّلالة، وغرقِها في أحاديّة المَعنى المُغلَق مُسَبَّقاً بفعل طُغيان الخراب، إذ لا تناصّات مُحتمَلة غير تناصّات القتل والدَّم والدَّمار، ولا مُنبسَط وجوديّاً في عالَم القصيدة ينزَعُ ألفةَ هذا العالَم الذي حسَمَ مآلاتِهِ، وتمركزَ على بُؤرتِهِ النِّهائيّة، مُوحِّداً بين سُلطة دُنيا الحرب الوقائعيّة وسُلطة دُنيا الذات الشّاعرة زمكانيّاً، وطارِداً مُمكنات تمرُّد أساليب وجود الذات الشِّعريّة الافتراضيّة، فـَ (الآنُ/الهزيمةُ الكُلِّيّة المُطلَقة) عندَهُ هي حاكِمُة المَعنى وكابحَتُهُ عبرَ استيفاء وجوديّ شُموليّ (كالثِّقل والخفّة في المثال الآتي) يتكرَّرُ نصِّيّاً إلى ما لا نهاية. قالَ الشاعر:
“مرجَّحٌ أنَّني لن أتبيَّنَ الثقلَ بعد الآن، ولا الخفَّةَ بعد الآن”.
ثالثاً: جماليّاتُ القُبحِ التَّراجيديّة:
قالَ بركات: “بلادٌ تُطْبِقُ الكتابَ على سُطورهِ الطَّويلة،/والقتلى لنينهضوا إلى مهمَّةبعد الآنَ”.
ليسَ من الصُّعوبة أن يتأكَّد المُؤوِّل المُتمعِّن من إقفال أفق القراءة في عالم (سوريا سليم بركات) على أبعادٍ تراجيديّة من حيث التَّوالُد الوجوديّ اللُّغويّ، فكتابُ البلاد (مُطبَقٌ = مُغلَقٌ) على (سُطورٍ طويلة = دروبٍ ومَعانٍ طويلة)، هيَ مَعانٍ تُطابِقُ دلالة أحاديّة قبيحة هيَ دلالة القتل والموت والخراب، إذ ما من آفاقٍ مفتوحة عند الشّاعر (بعد الآن) غير هذِهِ الدَّلالة، ولا نهوضَ يُمكِنُ انتظارُهُ أو توقُّعُهُ لمهمّات جديدة غير مهمّة الخراب المؤكَّدة (لن ينهضوا إلى مهمّة بعد الآن).
هيَ إذن جوهرانيّة الرُّؤى السَّوداء النِّهائيّة والمَحسومة مُسَبَّقاُ، وهيَ تراجيديّة جماليّات القبح التي طابَقَتْ عبرَها الذاتُ الشّاعرة الوقائعيّة (بلدَها/الخراب)، فانطوَتْ على أنقاضِهِ، وانطوى على أساليب وجودِها النَّصِّيّة، وتوقَّفَ الزمن (الآن وبعد الآن) على مُطلَق جوهرانيٍّ مُتعالٍ (يُخلي الخرابُ الخرابَ من الوقتِ)، وتحالَفَ الإنسانُ مع الآلهةِ في تعميدِ هذا القبح المُرعب وتعميمِهِ بلا كوّة ضوء شحيح. قالَ بركات:
“لا سوى الغريبِ وكيلاً في نقل المدنِ حُطاماً إلى الآلهةِ الحُطامِ”.
إنَّ غيابَ الذات الشِّعريّة الافتراضيّة تحت سَطوة الحدَث السّوريّ ليس سوى إذعان الشاعر لتغييب المُستقبَل المُغايِر، فما يحدث في لحظة (البلد/عالَم القصيدة) مُتوحِّدٌ في زمكانيّة الأبَد التَّراجيديّ اليائِس، ومُنبسِطٌ في كيفيّاتٍ وجوديّة أسُّها الجَماليُّ القبح العاري المُفزِع إلى ما لا نهاية. قالَ الشاعر:
“… شَطْحُ النُّطْقِ في الأثاثِ مُتضرِّعاً إلى ربَّةِ الذهولِ،/وابنِها المتدبِّرِ صفْقَةَ الأبديّة”.
وهكذا، يُقدِّم بركات أوراقَ اعتمادِهِ الشِّعريّة في عالَم هذِهِ القصيدة المُضنِي والمُؤلِم إلى الانسحاب والاستسلام الذي فازَ بهِ عبرَ جدارة التَّمركُز على سُلطة (الذات الشّاعرة/البلد الحُطام) في عُزلةٍ تراجيديّة شامِلة، وفي هُوَّةٍ أبديّة (صفقة الأبديّة) مُستمرّة وقبيحة، ولا سيما أنَّها لم تترُك للمُتفحِّص فرصةً مُشجِّعة لإعمال تقليبِهِ التَّأويليّ على مُمكناتِ المُحتمَل والمَجهول. قالَ الشاعر:
“عزلةُ الكونِ أخيراً، أيُّها البلد”.
رابِعاً: الانقلابُ على الاختلافِ، وشهوةُ الحُضورِ والتَّمركُز:
قالَ بركات: “أيُّها البلدُ المَجازاتُ حائرةً”.
ما الذي تعنيهِ حيرةُ المَجازات في عالَم (سوريا/بركات) الشِّعريّ؟!!
لعلَّ القراءة المُباشرة لهذِهِ (العلامة/الجُملة) قد تخدَعُ القارئَ للوهلةِ الأُولى، وتدفعُهُ إلى الحديث عن تعدُّديّة دلاليّة للمَجازات، وفَجوات اختلافيّة تمنَعُ الحسْمَ التَّأويليّ، وتفتَحُ أساليب الوجود على التَّشتُّت والانتشار واللَّعِب الحُرّ للمَعاني؛ ذلكَ أنَّ الأصلَ في المَجاز هوَ التَّمويه والالتباس، غيرَ أنَّ هذا التَّوجُّه في القراءة يُنقَضُ تلقائيّاً أمامَ عَوالِم النَّصّ المُضطَّرِبة تراجيديّاً، والمُستقرّة تفسيريّاً، فحيرةُ المَجازات ليسَتْ حيرةُ التَّمزُّقِ بفعل التَّباعُد الدّالّ على الاختلاف؛ إنَّما بفعل طيّ هذا التَّمزُّق على مركزيّة المُطابَقة المُعيَّنة قَبْليّاً بما هيَ مُطابَقة (الذات/البلد/الخراب).
قالَ الشاعر: “ها بليغٌ كلُّ شيءٍ بما في الأمور من جراحٍ،/وبما ليسَ في الأمور من جراحٍ، أيُّها البلدُ. الْأمورُ بليغةٌ بحُطامِها”.
نعم، لقد حسَمَ بركات شِعريّةَ نصِّهِ لصالحِ شهوةِ مُجاراة الحدَث الدَّمويّ بالقبض مُسَبَّقاً على الدَّلالة وتحطيم مُمكنات المَعنى؛ حيثُ يُحوِّلُ الشاعر مَجازاتِهِ إلى ألعوبة تكراريّة في يد بلاغةٍ تمركزَتْ على الدَّمِ والخرابِ والحُطام، فلا أسئلة (بعد الآن) مُرجأة الأجوبة، ولا غياب غير مُحدَّد المَعالِم؛ بل حُضورٌ طاغٍ في قلب المُطابَقةِ واليقين المَحسوم والمُغلَق برُكام (بضائعِ) الموت و(الإلهِ المعارِكِ). قالَ بركات:
وعلى هذا النَّحوِ، أقفَلَ الشاعر أفقَ التّاريخ، وأفقَ الدَّلالة، في آنٍ معاً، إذ لا أمَل لـِ (السّالِكِ) بالعُبور والمرور عبرَ (البلد/الباب) بفعلِ أحاديّة المَعنى (المُقفَل) وسوداويتِهِ، وبفعلِ إقصاء الاحتفاء النَّصِّيّ بانفتاحات الذات الشِّعريّة الافتراضيّة على أساليب وجود مُغايِرة ومُختلِفة، والسُّؤالُ الضَّروريُّ _إن لم أقل الحتميُّ_ في هذا المَوضِع يتعلَّقُ بانكفاء الشاعر نصِّيّاً على رغبة (هجاء الخراب) كأنَّهُ نقطة زمكانيّة كُلِّيّة مُتعالية ونهائيّة ومُغلَقة، في مقابل إهمالِ أسئلة الصَّيرورة والتَّحوُّل والانبثاق، وكي لا أدخلَ في جدَلٍ قد يشي باستنفادِ طبيعةَ الشعر أو يُسيء إلى رحابتِهِ نظَريّاً ونصِّيّاً، أكتفي بتعليق الأجوبة عن مسائِلَ سكَتَ عنها عالَم قصيدة (سوريا) بالمَعنى الفنِّيّ التَّخييليّ العميق، لا بالمَعنى الخطابيّ أو الشِّعاراتيّ السَّطحيّ المُباشَر، كسُؤال (الثَّورة)، وسُؤال (الحُرِّيّة)!!
من المُؤكَّد أنَّهُ كانَ يُمكِنُ لشاعرٍ كبير كسليم بركات أنْ يُغنِيَ نصَّهُ بغير المُفكَّرِ فيه مجازيّاً ورمزيّاً لو لم يخضَعْ خضوعاً صارِخاً لراهنيّة الأحداث المأساويّة، مُهمِلاً تفكيكَ هذِهِ الأحداث عموديّاً، إلى جانب التَّفكيك الخطِّيّ الأفقيّ الأحاديّ الذي سادَ في القصيدة، لكنْ كما يبدو منذ بداية دُخولنا إلى عَوالِم هذا السَّديم الجميل القاسي، وحتّى مُغادرَتِهِ الحزينة، لا شيءَ أمكنَهُ أنْ يُنقِذ الذاتَ الشِّعريّة الافتراضيّة من سُلطة الالتحاق والذَّوبان في عَماءِ الدَّمِ والخرابِ والدَّمار، وهيَ العوامل الطّاغية التي حاصرَتْ بها سُلطةُ الذاتُ الشّاعرة الوقائعيّة أيَّ احتمال بسيط لتخليق مَفازات مُتحرِّرة نسبياً من مُسَبَّقات الدَّلالة الأحاديّة الجوهرانيّة والشُّموليّة إلى حدّ هائِل، لتنتقِلَ دلالةُ (العَماء) في القصيدة من التِّيه المُتحرِّك المَفتوح تعدُّديّاً على التَّشظّي والغرابة والتَّباعُد، إلى الصُّندوق الدَّلاليّ الأسوَد المَطوي على مركزيّة تراجيديا الموت والقبح والفوات. قالَ بركات:
“وَفْرةٌ في العَماءِ”.
وهكذا، يخرجُ هذا (النَّصّ/الدّيوان) إلى حدٍّ بعيد عن مَسار الشّاعر في أعمالِهِ التي لطالما قامَتْ على التَّعدُّديّة الدَّلاليّة، والحِنكة الإبداعيّة في تشويش المَعنى وإرجائِهِ عندَ المُتلقي، وذلكَ عبرَ قُدرتِها التَّوليديّة على تشتيت العلامات في بُؤر اللَّعب الحُر غير القابلة للحسم أو الاستقرار أو الإغلاق، فهذِهِ القصيدة لم تبسطْ أساليبَ وجودِها السَّديميّة بالكيفيّة التي اعتدْنا عليها مع بركات، إنَّما قدَّمَتْ لنا سديماً مَقلوباً وخائِناً لغِنى الاختلاف والانفتاح على المَجهول، وأظهَرَتْ بجلاءٍ ارتداداً مَطوياً على وَحدة (الموضوع) الشِّعريّ نوعاً ما، وإنْ احتفَظَ هذا الشاعر الكبير بقدراتِهِ الأثيرة والاستثنائيّة في إدهاش المُتلقِّي وصدمِهِ جَماليّاً للوهلةِ الأولى، قبلَ أنْ تُتوقَّدَ آليّاتُ التَّقليبِ التَّأويليّ التي قد يكونُ لها فَهْمها المُغايِر إثرَ مُقارَبة هذا العمَل الثَّمين والنّادر.