علمُ الكلام الجديد مصطلحٌ تداولت استعمالَه مجلةُ قضايا إسلامية معاصرة، وخصّصت له خمسةَ أعدادٍ منذ ربع قرن تقريبًا، ومن قبلها استعمله بالعربية صديقُنا د. حسن حنفي في ورقة بعنوان: “تاريخية علم الكلام: نحو علم كلام جديد” ، قدّمها في الندوة الفلسفية الثالثة بالقاهرة، وبعد ذلك اتسع استعمالُه بعد أن استعاره بعضُ الباحثين، حتى بدأ يتوطن المجالَ التداولي بالعربية بالتدريج.
ويحرص باحثون أشدَّ التصاقًا بالتراث على استعمال مصطلح “علم الكلام الحديث” وغير ذلك من تسميات تستبدل كلمةَ “الجديد” بما يوازيها، في محاولةٍ منهم للخلاص من الحمولةِ الدلالية لمصطلح “علم الكلام الجديد”، وما تشي به من قطيعة مع معظم كلاسيكيات علم الكلام القديم، بدعوتها لإعادةِ بناءٍ شاملة لعلم الكلام، تتخطى المنطقَ الأرسطي لتنتقل للمنطق والفلسفة الحديثة، وتتحرر من سطوةِ الطبيعياتِ والدراساتِ الإنسانية والرؤيةِ القديمة للعالم بتوظيفِ مكاسب العلومِ والدراساتِ الإنسانية والرؤيةِ الجديدة للعالم ، وتبعًا لذلك سيتحوّل منهجُ علمِ الكلام وبنيتِه، وتتبدّل الكثيرُ من مسائله، بل سيحدث تحوّلٌ في طبيعة وظيفته، فبدلًا من انشغالِه في الدفاع عن العقائد تصبح وظيفتُه الجديدةُ شرحَ وبيانَ وتحليلَ المعتقدات والكشفَ عن بواعث الحاجة للدين ومختلف الآثار العملية لتمثلاته وتحولاته في حياة الفرد والجماعة تبعًا لأنماطِ الثقافةِ وطبيعةِ العمران والاجتماعِ البشري. وبتعبير آخر تنتقل مهمةُ علم الكلام من كونها أيديولوجية، لا غرض لها سوى التدليل على المعتقدات ونقض حجج الخصوم، إلى مهمة معرفية لا تنشغل بنقض حجج الخصوم، بل يتمحور غرضُها حول تعريفِ المعتقدات وتوصيفِها وتحليلِها بالتوكؤ على الفلسفة والعلوم والمعارف الجديدة، والتعرف على منابعِ إلهامِها ومجالاتِ اشتغالها وأشكالِ فعلها في سلوك الفرد والجماعة.
في ضوءِ ذلك يتضح أننا أمامَ عِلمين لا عِلم واحد، فهما وإن اشتركا بالاسم، لكن توصيفَ “الجديد” يجعله مفارقًا للقديم بشكلٍ كبير، وإن كان يشترك معه في بحثِ جملة من الموضوعات نفسِها، لكنه يضيف موضوعات جديدة لم يعرفها علم الكلام القديم، مضافًا إلى أن طريقةَ بحثه ونتائجَه ومراميَه مختلفةٌ، ذلك أن كلًا منهما له منهجُ بحثه وأدواتُ تفسيره ومفاهيمُه المفتاحية وكيفيةُ رؤيته للعالم. وقد تحدّثنا عن ذلك بتفصيل أكثر في كتابات سابقة .
ظهرت الإرهاصاتُ الأولى لعلمِ الكلام الجديد في الهند في العصر الحديث نهايةَ القرن التاسع عشر مع السيد أحمد خان (1817 – 1898)، الذي لم يكرّر ما هو سائدٌ من آراء في التفكير الديني في الإسلام، بل اجترح اجتهاداتٍ في تأويلِ القرآن، وتفسيرِ ماهية الوحي، تخرج على والمشهور والمتداوَل. ألّف أحمد خان كتباً عديدة، من أشهرها تفسيرُه للقرآن الذي اتخذ فيه منحىً تأويلياً، واهتم فيه بقراءةِ آياتِ القرآن في ضوءِ المعارف الحديثة، فقدّم في ضوء هذا المنهج فهماً بديلاً لبعض العقائد، واقترح في كتابه “تبيان الكلام” نظريةً جديدةً اصطلح عليها بـ”إنسانية الأديان”.
لقد أشاعتْ آراءُ أحمد خان، ونظراتُه التأويليةُ للمفاهيم الكلامية، ودعوتُه للمذهب الطبيعي، عاصفةً من الجدل والمناظرات، أيقظتْ التفكيرَ الكلامي الساكن، وأقحمتْ العقلَ المسلمَ في شبه القارة الهندية في فضاءٍ يموج بأسئلة واستفهامات مختلفة، لم يألفها هذا العقلُ في متون علم الكلام الكلاسيكية، فانبرى للردّ على آرائِه أكبرُ حسين الإله آبادي، والسيدُ جمال الدين الأفغاني، وغيرُهم.
يرى أحمد خان أن نزولَ الوحي على النبي كان بالمعنى وليس باللفظ، أي إن المضمونَ الهي، أما اللفظُ فبشري، بمعنى أن النبيَّ محمد “ص” هو من صاغ مضمونَ الوحي الإلهي بألفاظ عربية هي القرآن. وهو رأي نسبه جلالُ الدين السيوطي المتوفى 911 ه في “الإتقان ﰲ ﻋﻠﻮﻡ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ” لبعض المتقدّمين من علماء الإسلام.
وقد حاول بعضُ المفكرين المعاصرين توظيفَ هذا الرأي والإفادةَ من بعض منطلقاته، إذ تحدّث عبدُالكريم سروش في (بسط التجربة النبوية)، عن أن النبيَّ لا يتلقى الوحي على نحو يكون فيه ناقلاً سلبياً لما يصله، كما هو في معناه ولفظه، بل إن النبيَّ يتلقاه على نحو تفاعلي، تتجلى فيه شخصيتُه وبيئتُه ومحيطُه ونمطُ الثقافة السائدة فيها، وحسب سروش إن النبيَّ في تلقيه الوحيَ بمثابة النحلة التي تعيد إنتاجَ الرحيق عسلاً، لا بمثابة الببغاء الذي يكرّر ما يتلقاه كما هو.
وهكذا استلهم محمد مجتهد شبستري في “نظرية القراءة النبوية للعالم” شيئاً من عناصر فهم هذه المدرسة، التي دشّنها أحمد خان في تفسيره للوحي، واكتستْ صياغةً أعمق لدى محمد إقبال، ونضجتْ أخيراً في كلمات فضل الرحمن(1919م-1988م)، الذي ذهب إلى صياغةِ رؤيةٍ واضحةٍ لمفهوم الوحي في كتابه “الإسلام”. يقول شبستري: (إن الوصول إلى اكتشاف حقيقة الوحي المحمدي مسألة “إيمانية”، أما كيف يمكن أو يجب فهم القرآن، فهي مسألة عقلانية .. إن دعواه تلخصت في أنه إنسان فذّ، وأن الله قد اختاره واصطفاه طبقاً لتجربته الشخصية، وأنه قد جعله قادراً على تلاوة القرآن من خلال الوحي. إن هذه القدرة تسمى في المصطلح القرآني “وحيا”. يتضح من مجموع آيات القرآن أن دعوى النبي قد تركزت على أن ما يتلوه إنما هو ثمرة الوحي، بمعنى أنه بتأثير من الوحي يغدو قادراً على إبداع مثل هذه الآيات. الوحي في القرآن هو الإشارة والإنبعاثة التي هي فعل الله).
أما استعمالُ مصطلح “علم الكلام الجديد”، فيعود الى ظهورِه للمرّة الأولى عنواناً لكتاب شبلي النعماني (1878 – 1914). الذي أدرج فيه مسائلَ جديدةً، مثل: الدين والعلوم الحديثة، حقوق الإنسان، مسألة الانتحار، حقوق المرأة، الإرث، والحقوق العامة للشعب، بموازاة مباحث: وجود الباري، والنبوة، والمعاد، والتأويل، وغير المحسوسات كالملائكة والوحي وغيرها، والعلاقة بين الدين والدنيا. ولا ندري هل مصطلح “علم الكلام الجديد” من ابتكار شبلي النعماني أم اصطاده من أحمد خان ولم ينوّه لذلك.
غير أن شبلي النعماني لم يشتق طريقاً بديلاً لما هو موروث في علم الكلام، ولم يجرؤ على تبني آراء سيد أحمد خان، ويطوّر طريقتَه في التفكير الكلامي، إذ توقف عند ابتكارِ العنوان شكلياً، من دون أن يجتهدَ في إعادةِ بناء المقولات، أو يشتق مفاهيمَ جديدةً في علم الكلام.
وكان محمد اقبال (1877م-1938م) أول من استأنف طريقةَ تفكيرِ أحمد خان، وترسّم نهجَه التأويلي، بمنطقٍ أعمق، ورؤىً أكثف وأبعد غوراً، فقد سعى لزحزحة علم الكلام القديم، وتمحورت جهودُه حول محاولةِ بناء فلسفة بديلة للدين، ليست مكتفيةً بذاتها، وإنما اغتنت بما استوعبته وتمثلته من معارف الآخر. وقد تنوّعت مرجعياتُ التفكير الكلامي عند إقبال، فهو تارة يستلهم مقولاتِ الفلاسفة، وأخرى يتعاطى مع خبرةِ اللاهوت المسيحي الجديد، وثالثة يستعين بعلماءِ النفس، أو الاجتماع، ورابعة ينهل من التصوف الفلسفي. وهو بذلك يتخلص من حالة الوجل والخوف حيال معطيات اللاهوت الجديد، والعلوم الإنسانية الحديثة، التي استبدّت بتفكير معظم الإسلاميين اليوم.كتب محمد إقبال “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، وهو أولُ نصّ في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، لكن حضورَه وتأثيره مازال هامشياً في الدراسات الدينية بالعربية.
مقولاتُ هذه المدرسة- خاصة ما أنجزه محمد إقبال من فهمٍ للوحي، وختمٍ النبوة، والتجربةِ الدينية، و”الاجتهاد بوصفه مبدأ الحركة في الاسلام”- استأنفها أحدُ أبرز تيارات التفكير الديني في إيران، فبنى عليها وأعاد انتاجَها كلٌّ من: مرتضى مطهري، وعلي شريعتي، وعبدالكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري.
وهكذا تواصلت رؤى محمد اقبال في تحديثِ التفكير الديني، بل تكاملت في مواطنه فضل الرحمن، الذي كان خبيراً بالتراث، بجوار تكوينه الأكاديمي واللغوي الخصب، واهتم بتطوير آراء اجتهادية جريئة، ومع أن آراءَ فضل الرحمن لم تبتعد عن الروح الحرّة لمحمد اقبال، لكنها لم تقلّده أو تحاكي تفكيرَه، أو تمسي صدىً لها في كلّ ما قاله، وانما تكرّست واغتنت آراءُ اقبال من خلال فضل الرحمن.
لم تحضر مدرسةُ (أحمد خان – محمد إقبال – فضل الرحمن) في التفكير الديني في المجال العربي، لأن نمطَ فهم الأخوانِ المسلمين للدين وغيرِهم من الجماعات الدينية ومنهجَهم في تفسير نصوصه، الواسع الانتشار والبالغ التأثير في المجال العربي لا يستسيغ منطقَ التفكير العقلاني العميق المركّب في فهم الدين، ولا يتذوق تأويلَ نصوصه، ولا يعرف اللغةَ الذي تتحدث بها أعمالُ هذه المدرسة في التفكير الديني الحديث في الإسلام. لذلك استعارت أدبياتُ الجماعات الدينية في المجال العربي مفاهيمَ أبي الأعلى المودودي، فنقلوها للعربية، لأنها كانت تتكلم اللغةَ التي تتحدّث بها هذه الأدبيات، وبوصفها ملهمةً لشغفهم باستعادةِ دولة الخلافة، ونبذِ مشروع الدولة الحديثة، كما نلاحظ ذلك بوضوح في كتابات سيد قطب، التي ظلّت تفكّر في مداراتها معظمُ أدبيات هذه الجماعات.
لكن تجلّت مدرسةُ (أحمد خان – محمد إقبال – فضل الرحمن) في التفكير الديني في أحد التيارات الشديدة الفاعلية والتأثير في المجال الإيراني، فوظّفت جماعةٌ من المفكرين الإيرانيين مقولاتِها وبنت عليها رؤىً محوريةً في فلسفةِ الدين وعلمِ الكلام الجديد، وعملت على إثرائِها وتطويرِها.
يعود ذلك إلى وجودِ سياقاتٍ دينية وثقافية مشترَكة للاجتماع الإسلامي في الهند وإيران، ففي الاجتماعِ الديني الإيراني والهندي تنوّعٌ موروث، وتركيبٌ يثريه تراكمُ تجارب الأديان وتلاقحُها. الأديانُ في هاتين البيئتن لا يقصي بعضُها البعضَ، تلك ميزةُ الاجتماع الديني الهندي والإيراني، الحافلَين بالتعدّد والثراء الميتافيزيقي. هناك تفاعلٌ وتأثيرٌ وتأثر متبادَل متواصل بين ثقافات الأثنيات والأديان في هاتين البيئتن، حتى إن الرموزَ والشعائرَ في هذه الأديان تتناغم فيما بينها.
وذلك ما تفتقر إليه السياقاتُ الدينية والثقافية العربية، خاصة الجزيرة العربية ومحيطها، لذلك ظلّ الاجتماعُ فيها يمثل البيئةَ الأمثل لنموِّ وترعرعِ التيار السلفي، الذي كان ومازال فقيرا ميتافيزيقيا كالصحراء في فهمِه للدين وتفسيرِه لنصوصه، وتوالدت فيه مقولاتُ وآراءُ وفتاوىً لا تنتمي لهذا العصر، ولا تحكي متطلباتِ حياة المسلم اليوم، ليس لأنها لا تستجيب لها، بل لأنها على الضدّ منها.
وغالباً ما أخفق علمُ الكلام الذي نشأ متأخراً عن عصرِ الوحي في تمثّل روح الوحي، وارتسمت فيه ملامحُ بيئةِ الصحراء الفقيرة ميتافيزيقاً، لذلك طالما لبث أسيراً للفهم التبسيطي للنصوص الدينية، وعجز عقلُه عن أن يرتقي بتأويلِ تلك النصوص، واستبصارِ آفاقها، والتوغلِ في مدياتها، وما يمكن أن تضيفه من دلالات جديدة، تبعاً لما يستجدّ من مقتضياتِ العمران، واختلافِ وتنوّع أنماطِ عيشِ الإنسان، والتحوّلِ في رؤيته للعالم.