اكتسبت رواية صن ماي هوانج “الدجاجة التي حلمت بالطيران” الشعبية الكورية الحديثة شهرة واسعة، بعد أن تم اعتبارها من بين أكثر الكتب مبيعا حيث بلغت مبيعاتها ما يزيد عن مليوني نسخة، إنها قصة دجاجة أطلقت على نفسها اسم “إبساك”، تأويل الاسم عند الدجاجة له معان عديدة ترتبط في جوهرها بفكرة الحرية والتضحية لأجل الحياة، فهي التي عاشت أيامها محبوسة في القن، كانت تراقب بصمت قاتل أوراق شجرة الخرنوب الخضراء التي تنمو وتسقط لتفسح مكانا جديدا على الأغصان العالية للأوراق الجديدة، هذه الفلسفة هي التي دفعتها مرارا لتخيُّل فكرة الحياة خارج أسوار القن بعد أن اعتادت على تقديم البيض للمزارع وزوجته وفق إيقاع روتيني يومي.
تحرر الدجاجة
إبساك التي تعني الورقة الخضراء لم تكن تستطيع التقاط بيضها بسبب ميلان قاع القن فبمجرد أن تضع البيضة الساخنة حتى تتدحرج نحو مكان ثابت بانتظار صاحب المزرعة كي يأتي ويأخذها، رغبتها في التمرد على هذا الإيقاع انسحب على نفسيتها، لتبدأ عملية وضع البيض عندها بالاضمحلال، فغدا البيض يضمر شيئا فشيئا حتى انعدم كليا.
هذه الحالة التي وصلت إليها الدجاجة دفعت صاحب المزرعة وزوجته إلى إخراجها من القن كي تكون بين الدجاجات المهيّأة للبيع، الغريب أن إبساك كانت تستطيع فهم كل ما يدور حولها، وهذه الميزة هي التي جعلتها تتظاهر بالمرض، ليتم نقلها نحو عدد من الدجاجات العليلات لتكون بعد قليل في حفرة الموت، وهي تجمُّع كبير يضم كل الدجاجات الميِّتات، تكتشف إبساك هذا الأمر بسبب المشرّد فحل البط الأبيض البري، لتبدأ عندها بعد النجاة مما هي فيه دورة حياة جديدة.
الجغرافيا في هذه الرواية القائمة على فكرة الخرافة، تنقسم إلى ثلاثة أماكن، الأول هو القن الذي عاشت فيه الدجاجة إبساك، الثاني هو الحظيرة والمزرعة التي يقطنها كلب عجوز وديك يعتبر نفسه ملك المكان وصاحب السطوة فيه، دجاجة تحتضن بيضا، وعدد من البط الداجن، وعلى أطرافه يمكث ابن عرس وعائلته التي تنتظر أي فرصة سانحة للانقضاض على هذا المجتمع كي تظفر بطعام، المكان الثالث هو البحيرة وأطرافها التي ترد على شكل حقل من القصب أو أجمة من الورد البري أو تلال صغيرة من التراب أو القش، هكذا تُبنى الجغرافيا في الرواية التي تسير وفق مسارات درامية متشابكة، هذه المسارات قوامها الرئيس هو الدجاجة إبساك التي تطمح دوما إلى الحرية والأمومة، ونتيجة لهذا الوضع تغادر المكان الأول “القن” لتكون في المكان الثاني “الحظيرة أو المزرعة”، وهناك تلاقي معارضة شديدة من الحيوانات الأخرى، لتجد نفسها تتجه نحو البراري الفاصلة بين المزرعة والبحيرة، حيث تلتقي بالمشرد وهو ذكر من البط البري.
الإصرار على الوجود
كانت الأعاجيب تحدث متتالية مع إبساك؛ الأعجوبة تلو الأخرى، لكن إصرارها على الحياة رغم كل ما يطرأ حولها، دفعها إلى حالة من التصالح مع كل ما قد يحدث، لنقتبس من النص مثالا على ذلك “كانت هذه ثالث أعجوبة تحصل معها، كانت الأعجوبة الأولى هي التحرر من القفص والجلوس تحت شجرة الخرنوب الأسود، أما الثانية فكانت احتضان البيضة، كانت مسرورة بتينك الأعجوبتين، وها هي تشهد الآن أعجوبة أخرى، فشل ابن عرس في مسعاه بعد أن تمكن الرأس الأخضر من الطيران”.
تسير الأحداث عادية في تفاصيلها اليومية قبل أن يلتهم ابن عرس البطة البيضاء لحظة وضعها لبيضة كان الشريكان يخططان لأن تكون طفلهما الأول، القدر عاجلَ البطة فماتت وتركت البيضة في مخبأ بين الورود حتى وجدتها الدجاجة إبساك دون أن تعلم شيئا عن هذه الحادثة، ويبدأ المشرّد من هنا رحلة حماية إبساك والبيضة حتى يموت مع عودة القمر إلى شكل هلال، يموت بين فكي ابن عرس بعد أن أوصى إبساك برعاية الفرخ الصغير الذي كانت تعتبر نفسها أمه رغم الاختلاف بينهما، تظهر هنا حوارات بعضها ذاتي وبعضها مشترك بين الدجاجة وفرخ البط، “أعرف أنك تحبينني يا أمي، لكننا مختلفان”، تجيبه “إننا نبدو مختلفين، لكنني سعيدة لأنني معك، إنك تظل ابني مهما قيل”.
البط البري الصغير الذي حمل بداية اسم “بايبي ثم الرأس الأخضر”، لا يجد أي ترحيب في المجتمع الجديد، يرى الديك أن وجوده سيحدث اضطرابا في المكان الذي سيفتقد إلى الهدوء لذلك فرض على إبساك وصغيرها المغادرة، هنا تبدأ رحلة البحث عن مكان جديد حتى تقع إبساك فريسة بين أنياب أحد من عائلة ابن عرس، في مشهد الختام ترسم الكاتبة الكورية الصورة بعيدا عن إحساس الموت، حيث تبني عالما موازيا بعيدا عن حالة العدم، عالم مفتوح الآفاق حيث تطير فيه الدجاجة إبساك مخالفة للطبيعة، لكنه طيران خيالي غير واقعي يرتبط بفكرة الإصرار على الوجود رغم كل شيء.
يقر الجميع أن القاتل غريب الأطوار، مفترس للفرح، لا يقوى عليه أحد، لكن فكرة المقاومة ضرورية وطبيعية في السعي نحو التمسك بالحياة، تقول الدجاجة إبساك، “أعرف ابن عرس جيدا، إنه صياد بالفطرة، ولايمكننا أبدا أن ننتصر عليه، إنه أكبر وأقوى من أي ابن عرس آخر رأيته في حياتي، إننا في أمان الآن، ولكنه سوف يصطادنا في النهاية، لذا يتعين علينا إنهاء عملنا قبل ذلك”.
هناك شيء ما يحدث في هذا العالم على الدوام، هناك كائن يموت وآخر يولد، هناك فراق ولقاء في الوقت نفسه تقريبا، يعني ذلك أنه يستحيل علينا أن نحزن إلى الأبد، بهذه الفلسفة المتصالحة مع القدر تبني الكاتبة صن ماي هوانج المولودة في كوريا الجنوبية عام 1963، عوالم غريبة قائمة على التضاد والالتزام بدورة الحياة الطبيعية المبنية في أصلها على سيطرة القوي على الضعيف، فهذه الرواية تكتسب قيمتها من قدرة القارئ على إجراء مقاربات شديدة الحساسية بين مجتمع الحيوانات الذي قدّمته الكاتبة، ومجتمعات بشرية تحكمها الكثير من الخطوط الدرامية التي تتشابك مع قصة إبساك الدجاجة، التي تشبه إلى حدّ بعيد مجتمعا كاملا ينتجُ مادة يتمّ تقديمها للسلطة، بينما يفقد المجتمع حقه في الحلم، وإن استطاع التعبير عن ذاته وفق أي مستوى سيواجه الكثير من الصعوبات، إنه طريق الحرية المحفوف بالمخاطر والألم والأحلام على حدّ سواء كما قدّمته الكاتبة.
_________
*العرب