قررتْ ألاّ تشــيخ..

خاص- ثقافات

*ميمون حرش

خرجت “نون” من حمامها دافئة، منتشية. إنها، الليلةَ، مدعوة لحفل زفاف ابنة عمتها. ستكون ضيفة شرف، بل وصيفة لعروس عزيزة في حفل مخملي أسطوري..

الحمّام الخطوة الأولى للاستعداد، تلته رياضة تمطيط تجاعيد الوجه، ولتبدو في أحسن صورة، فتحت دولاب مساحيق، وجلست على كرسي صغير قبالة مرآةٍ ما كذبت على أحد أبداً.. أمامها أنواع من البودرة، والمراهم، والبخور، والعطور .. تحفظ دور كل ماكياج؛ فتقبل على كل نوع منه حسب الدور بحماس شديد، ومع كل استعمال تحملق في المرآة كأنها تحتج على صراحتها كلما أظهرت وجهها على حقيقته.. حدسها لا يخطئ دور كل مسحوق. فالترتيب مهم في الحفاظ على الجمال، وأي فوضى قد تأتي بنتيجة عكسية تماماً. ثم إن حفظ التناسق مَلكة، واستعمال الماكياج بوعي مهارة .. هي تعرف كل هذا، بل وتسرف في دقة استعمالها…

عكست المِرآة “نون” كنملة وهي “تعمل”. شعرها القليل مقصوص على شكل queue-de-cheval .. التسريحة مناسبة لشكل رأسها الصغير، تبدو بها كما لو كانت في الثلاثين .. خداها متورّدان بدون دم، وعيناها قصير ما بينهما، وجبهتها مركونة هناك، وسطهما، كما لو كانت في زحمة..  فمُها أطول من فم النجمة “صوفيا لورين” .. ولأنه طويل جداً، فهي  حريصة على اختيار أحمر الشفاه اللائق به .. وكل مرة لا تستقر على لون واحد إلا بعد أن تجرّب العشرات، وهي لسبب لا تدريه، أو لا تريد أن تدريه، غير مكترثة بأن كثرة  التجريب، التي تقدم عليها كل مرة، تُسْهم، عوض تجميل هذا الفم المُشْكلة، في تمطيطه وتشويهه .. ولأنها متقدمة في السن، فهي أحْرَصُ على الدقة في استعمال كل بودرة ماكياج بمهارة عالية .. الترهُّل عدوها، وشد الوجه والماكياج والظهور بما يليق حربٌ تدخلها بثقة..

قامت مِنْ على كرسيها. دارت عدة دورات،وعيناها جاحظتان في مرآتها .. انتهت الآن من الماكياج، ولا بد من ثوب  يناسب لون كل بودرة لطّخت بها وجهها. لم تكن لتعْدم وسيلة في ذلك ما دامت ثرية؛ فمن أجل جمالها لها في بلاد الناس سفرات ورفيقات..  ومع كل سفرة تجلب من فرنسا تحديداً كل ما تحتاج إليه.. في دواليبها ألبسة من ماركات عالمية، وبتوقيع أشهر المصممين، فضلاً عن أحذية عالية الكعب خاصة لكل لون.. وبحكم التجربة، فهي تعرف ما يناسب من الأثواب، وما لا يليق لهذه المناسبة أو تلك.. تعدّ ذلك نوعاً من الثقافة، بل ويطلق عليها من يعرفها، على سبيل النكتة، “عرّافة الموضة”..

ولأن العرس استثنائي، فقد حارت بعض الشيء في نوع الفستان الذي يليق بالمناسبة. فبعد أن استقرت على التقليدي، غيرت رأيها فجأة.. ساخرة مدت لسانها لصورتها في المرآة بطريقة فيلمية.. هذه حالها في كل مناسبة يحضرها مدعوون لا تعرفهم..

حائرة .. حائرة…

 يرنّ هاتفها النقال. صديقتها في الخارج تستعجلها .. لم تلبِّ، لكن “نون”  دعت صديقتها عبر رسالة الإسميس SMS للصعود إلى الشقة للحظات فقط .. (بغيتها كانت أن تستشيرها).

“نون”  لم تجهز في الوقت المناسب أبداً، ويبدو أنه الديدن نفسه عند تلبية دعوات كل الأثرياء .. وصديقتها التي تتجاوز عن أفعالها الرعناء دائماً، بحكم الرفقة، تجاهلت رنات هاتفها، وحشت نفسها في المصعد، دون أن تكلف نفسها قراءة الرسالة… وبعد لحظات، كانت داخل الشقة…

تبادرها بالقول :

–  هَـلُو عزيزتي، كل هذا الوقت ولم تجهزي بعد..؟!

–  التميز، يا صديقتي، يحتاج دائماً وقتاً إضافياً..

أضافت “نون”:

– طيب أشيري علي… أنا حائرة بين فستانين .. إليك هذا الكاكي العصري، وهذا الخمري التقليدي .. ما رأيك؟ هه..

قالت ذلك، وهي تشير إليهما في دولابها..

نظرت الصديقة حيث أشارت، لكن ما أثارها لا الثوبان، وإنما هو كثرة الفساتين التي ترفل إلى جانبهما.. نقلت نظرها في ديكور الصالة .. أمامها سوبير ماركت منزلي  بامتياز .. لم تكن أول مرة ترى ذلك. إنما حيرتها في كثرة ما ترى، وكيف يزداد يوماً عن يوم ككرة ثلج!. ظلت تحملق في ديكور أنثوي، لو رأته شهرزاد لجزمت أن ما ينقص لياليها هو بعض من بذخ”نون”.. أحذية عجيبة، وأحزمة رفيعة، وفساتين شتى، على مقربة منها أوشحة، ومناديل العنق.. وفي أماكن مختارة بدقة، ترفل حقائب لليد تبدو كما لو كانت تستغيث من إهمال… أثر الذوق في ترتيب كل ذلك لا يغيب عن أحد، كما لا يخفى البذخ على ذي عينين، ولو كان بهما عمش أو قذى..

حيرة “نون”  بين الفستانيْن لم تعِرْها الصديقة أي اهتمام، ما دامت تؤمن بأن البذخ دائماً يزيد في جرعة الحيرة لدى من يلهيهم التفاخر بما يملكون..

كانت مأخوذة بما ترى، ولم تكترث لـِ “نون” حين كررت السؤال (هي تعرف أنها ستظل  تثرثر به، وفي النهاية ستركب رأسها..).

قالت لها متحسرة (لم تعد تعـرف كم مرة تسجل هذه الملاحظة):

–  تعرفين “نون” ؟ .. ما ينقص هذا الديكور هو وجود كتاب!..

 و”نون”   تضحك بهستيرية، وترد…

–  كم أنت عنيدة .. ألا تملّين من هذا الكلام .. وما جدوى الكتاب؟ ثم ألم تسمعي باختراع اسمُه الإنترنت؟ .. ألا ترين الحاسوب هناك !..

أشارت إليه، وأضافت:

–  اُنظري إليه .. إنه يضاهي كل كتب العالم، واطلبي أي كتاب “وشبِّيكْ لبّيكْ” يوفـره لك “الشيخ غوغل”بمجرد نقرة واحدة..

– أنا أقصد أن بيتك لا تنقصه غير مكتبة ! إن لها حلاوة خاصة،رغم وجود الحاسوب..

تضحك “نون”  مرة أخرى، وتدور حيث مرآتها، وتنشغل بإعادة أحمر الشفاه الذي أفسده الضحك (ليس هناك ما يعكر صفوها أكثر من فمها)، ثم يستقر رأيها على فستان ثالث لم يكن في الحسبان. ارتدته وهي ما تزال تضحك..

   ظلت تضحك حتى وهي في العرس، وبحسرة غير مفهومة كانت ترمق المدعوين وهم يتأبطون هداياهم .. طريقة تقديمهم لها تستفزها دائماً .. تعدها، بالشكل الذي تتم بها، كلاسيكية وبدوية. هي لا تكره الهدايا، بل تحب أن تهديها، كما تحب أن تُهدى لها رغم ثرائها .. غير أن طريقة التقديم عند بعضهم لم تكن تستهويها ألبتة..

   في مناسبات عدة، طالما علقت على هذا الأمر. كانت تكرر دوماً لمن ترتاح له أو لها:

 “الهدية .. إذا لم تترك أثرها كما الحريق، لا جدوى منها .. وأثرها في أن تسبق حضور صاحبها بمدة .. قبل المناسبة بيوم على الأقل، يجب على الناس أن يبعثوا بهداياهم، لا أن يتأبطوها في الوقت الميت؛ حسب تعبير معلقي كرة القدم..”.

   العروس إلى جانبها مبتسمة، لكن متوترة .. ابنة خالها “نون”  لا تمل من الضحك، ومن الحديث عن  بنود الإتيكيت دون أن تكلف نفسها مراعاته في مواقف كثيرة. ومثل سكّير ثَمِل، أطلقت العنان للسانها، وضغطت على زوادة قهقهة مدوية حين لمحت سيدة سمينة مقبلة تجاه العروس، مترنحة، وهي تتأبط علبة كبيرة مزمّلة بنفس لون الفستان الذي ارتدته، وستتحول سقطتها  فوق هديتها، متعثرة بسبب كعبها العالي، إلى لقطة سينمائية نادرة التقطتها أعين كل من كان قريباً منها.. تناثرت هديتها، التي كانت تحمل بزهو، بفعل قوة العثرة، وانكشف نوعها، كما الصبح، لذوي عيون .. كانت عبارة، عن رزمة فوطات كثيرة، بينها ثلاث علب نادرة من “أولويز”. ولما لم تتمالك “نون”  نفسها من الضحك، قرصتها العروس أنِ انتبهي .. و “نون”  ستسري عُتبها بقولها:

–  حسْبك هديتي ، من فرنسا جلبتها لك، متميزة كجمالك، سترين … !

(…)

سيمضي على العرس وقت (مدة شهر العسل)، وتسافر”نون”  ، وتمكث في باريس المدة نفسها. وهناك في عاصمة الأنوار، خلال قيامها بجولاتها المسائية، كانت تكتفي بالابتسامة دون الضحك..

الضحك مؤجّل إلى حين عودتها إلى الديار .. طبائع الناس هنا تفتح الشهية لكل شيء، ولأي شيء..

إنها الآن عائدة وغانمة..

   وفي باريس كانت قد حسمت أمرها مع الصديقة وملاحظتها المملّة حول الكتب .. من”مكتبة مازارين” في مدينة الأنوار ستجلب معها كتابيْن؛ الأول عنوانُه “تأخير الشيخوخة عن طريق الماكياج”: (Retarder la vieillesse à travers le maquillage)، والثاني “الماكياج إكسير الحياة” 🙁 LE maquillage : Elixir de la vie).

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *