*خيري منصور
قبل سبعين عاما كتب جورج أورويل تلك الديستوبيا الروائية بعنوان «1984» وهي على النقيض من اليوتوبيات التي حلم بها فلاسفة ومصلحون على امتداد التاريخ، بدءا من جمهورية أفلاطون المُثلى التي طرد منها الشعراء لأنهم وحدهم المؤهلون على الدوام لرفع اليد احتجاجا وليس القبعة امتثالا.
وما بين اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة والديستوبيا أو المدينة الراذلة يسقط الواقع بكل معطياته لصالح واقع آخر مُتخيّل، ومن المعروف أن المدن الفاضلة تزدهر في فترات الانحطاط، وعندما يصبح الواقع عسيرا ولا يطاق، لأنها تعبير عن حلم هو نقيض السائد، أما المدن الراذلة ومنها مدينة أورويل فهي تعبير عن رؤى كابوسية وغالبا ما تكون ذات نبرة نذيرية، لكن التاريخ لا يستجيب دائما للحالمين، وتهب أعاصيره على غير ما تشتهي قواربهم، سواء كانت ورقية أو شراعية، فما حدث عام 1984 الذي تنبأ أورويل بأنه سيكون العام الذي تصبح فيه الحياة جحيما، وينقلب كل شيء إلى ضده لم يكن كما تخيله في نظم شمولية فقط، رغم أن ما حدث في تلك النظم في نهايات القرن العشرين كان بمثابة عصيان آدمي على تعاليم القطعنة، وما حدث بعد ذلك بأقل من ربع قرن هو أن النظم الرأسمالية التي بلغت ذروة التوحش، واستطالت مخالبها وأنيابها، وأصبحت تقطر دما تحولت إلى ديستوبيات، وأصبح الشقيق الأكبر متجسدا في كاميرات الرصد والتنصّت وهدر الحريات بذريعة الحفاظ على الأمن ما دفع أمريكا بعد أحداث سبتمبر/ايلول عام 2001 إلى القول بأن من يتخلى عن حريته في سبيل أمنه سوف يفقد الاثنين معا!
صدرت ديستوبيا أورويل في عام استثنائي من القرن العشرين، فيه طرد شعب من أرضه واستوطنها غزاة بقرار لوزير خارجية البلاد التي ينتسب إليها أورويل، وهو اللورد بلفور، وكانت الحرب العالمية الثانية قد بدأت تعيد رسم التضاريس السياسية لهذا الكوكب، ولم تعد خطوط الطول والعرض جغرافية خالصة، بقدر ما أصبحت أيديولوجية، والزمن الممتد بين الرواية والديستوبيا التي تنبأ بها هو ستة وثلاثون عاما بين عامي 1948 و1984 حدث خلالها ما لم يخطر ببال أورويل، وهو القيامات الوطنية في ثلاث قارات كانت تراوح بين الاحتلال والانتهاك والإلحاق باسطبلات الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس، وأصبحت امبراطورية درداء تبحث عمن يقضم لها التفاحة، وقد وجدته بالفعل بعد الحرب العالمية الثانية، وهو التوأم الأنكلوساكسوني الذي حوّل لندن إلى ضاحية نائية لنيويورك سياسيا، خصوصا في تسعينيات القرن العشرين، عندما تحول رئيس وزرائها إلى سانشوا التابع لدون كيشوت وتولى نقل أخبار انتصاراته الوهمية.
ما تخيله أورويل عن معجم جديد ومضاد للكلمات حدث بالفعل، وأصبح السلام الزائف اسما مستعارا لحروب إبادية، وأصبحت الكراهية هي البديل لكل ما عرفته الإنسانية خلال سبع ألفيات، وديستوبيا هذه الألفية منذ مطالعها ليست ماركسية كما تصورها أورويل، لأنها تحققت في قارة لا يوجد فيها حزب ماركسي، واحتكرت تصدير الديمقراطية، لكن على متون الدبابات والصواريخ العابرة لسيادات البلدان وليس للقارات فقط، كما حدث في العراق، وإذا كان لمشهد واحد أن يختصر ديستوبيا فهو لثلاثة جنود مرتزقة يحملون شعارا إسبارطيا وجنسية أمريكية امتطوا أسد بابل والتقطوا الصورالتذكارية، وكان هذا بحد ذاته نوعا من الفيتيشيا السياسية التي جرى تهجيرها من معجم الجنس إلى معجم السياسة، لأن الأسد الذي امتطوه مجرد حجر وليس أسدا بابليا، لأنه لو كان كذلك لخلخل صدى صهيله جدران البنتاغون والبيت الأسود الذي أرسلهم.
والإنسان ذو البعد الواحد الذي اختزل الإنسان من كائن آدمي إلى إسفنجة للاستهلاك، لم يظهر في جغرافيا الديستوبيا الأورويلية، بل في نيويورك ولوس أنجليس وكاليفورنيا وبقية الولايات، ولأن ما ألحقته عدة إدارات أمريكية بالعالم من كوارث استغرق الميديا وشغل المراقبين بإحصاء الغنائم والخسائر، فإن ما سوف يأتي من أيام أو أعوام، سيتيح المجال للعالم كله أن يكتشف أشد الحروب الأمريكية ضراوة وتنكيلا، وأشد تأثيرا من الحرب النووية، وهي الحرب التي أعلنها جورج بوش الابن على العقل الجدلي وعلى أهم منجزات عصر النهضة في أوروبا، حين أعاد العالم إلى الثنائية المانوية وشطره إلى ملائكة معه وشياطين ضده، ثم زعم أنه يستلهم قراراته من السماء، والاعتداء الأمريكي على أوروبا لم يتوقف عند وصفها بالعجوز، كما قال رامسفيلد، بل في تقويض ما شيدته من صروح فلسفية، ومن عقلانية وبُعد ثالث، يتيح للإنسان أن يكون في منزلة بين منزلتين وليس فقط عدوا أو حليفا وشريرا أو خيّرا! من هنا كانت شيطنة الآخر المختلف، هي المعادل الأمريكي لما سمي في أدبيات المعجم الصهيوني «الهَتْلَرَة» أي الاتهام بالنازية.
سبعون عاما منذ ذلك العام الذي ولدت فيه أعظم تراجيديا في التاريخ المعاصر وبين رعاة البقر الذين انتقلت إليهم عدوى جنونها، فاستباحوا الشرائع منذ حمورابي حتى هذا الصباح، وشهروا الفيتو في وجوه الشهود أيضا لأنهم ليسوا شهود زور، ومما تحقق من هذه الديستوبيا قتل الآخرين تحت ذريعة إنقاذهم، وإبادة الفقراء من أجل التخلص من الفقر، حسب تعبير هانكوك في كتابه «سادة الفقر».