خاص- ثقافات
*خلود البدري
“صاغ هذا المصطلح الناقد الهنغاري غيورغي لوكاتش ..” وهو يشير إلى الكتابة الواقعية التي تقدم تمثيلا للواقع بتحليل المجتمع تحليلا عميقا يبرز تناقضاته، ويبين احتمالات تطوره “الموسوعة العربية الواقعية في الأدب
في البدء كتب الروائي مقطعا من قصيدة
“دفعتني البنادق
نحو البنادق
لا خيار بين نار ونار،
فاندفعت مستهزئا
بالهزيمة والانتصار”
قصاصة عثر عليها في جيب جثة جندي مجهول الهوية في نيسان عام 1983خلال معركة الفكه .”ص5
يا له من مصير أن تفرض علينا البنادق خيارا بين نار ونار في هذه الحالة أنت لابد أن تستهزئ بالهزيمة والانتصار معا، لأنك دفعت نحو أمر لم ترغب أن تزج به بل دُفعت إليه .
كان المدخل للرواية موفقا جدا فبتلك القصاصة الورقية، عرفنا ما هي الحرب ..التي كانت ولم تزل، فقد كتب على العراق أن يقاتل في كل الأوقات .
“أن فهم مسرود معين، ليس تتبع مجريات القصة فحسب، بل هو أيضا التعرف إلى طبقات فيها، وإسقاط التسلسلات الأفقية “للخيط” السردي على محور شاقولي بصورة مضمرة . وقراءة مسرود (والاستماع إليه)، ليس الانتقال من كلمة إلى أخرى فقط، بل هي انتقال من مستوى إلى آخر أيضا .ص15شعرية المسرود
لن أتتبع مجريات القصة بقدر ما سأحاول التعرف على مستويات وحالات الضياع التي مرت بأشخاصها، لكن لابد من معرفة القصة أولا ثم نشرع بقراءة مبسطة لها علنا نصل إلى ما أراد الكاتب أن يخبرنا به .
يقول الراوي وهو الجندي الذي سرح من الجيش وعاد له من جديد: “في هذا الفجر، كان انتمائي الهزيل إلى الخارج يزداد سوءا .
وكنت أظن وكان ظني صحيحا، أنني بدأت أخطو نحو قلب الضياع بالاتجاه الصحيح .لم أعد أخشى ذلك الفجر الذي كان يحثني على مغادرة صالات الملاهي شرط أن لا يفضحني .أنا الآن أنغمر في أنفاسه .وهاهو يذكرني بنهاية الأجازات الدورية الشحيحة، وبالمئات من حالات الالتحاق القسري إلى خنادق الموت .أما أصوات أذان الفجر فكانت تراتيل للعزاء .في موكب تشييعي المتكرر .”ص21 _22
أذن هي الانكسارات التي تطأنا من الخارج حيث زمن الالتحاق القسري إلى خنادق الموت، حتى أن البطل بدأ يشعر أن أذان الفجر هو تراتيل للعزاء في موكب تشييع متكرر يا للانكسار الذي فرضه الخارج، الأنظمة المتسلطة .
ثمة انكسارات من الداخل لنرى كيف :يقول الراوي :”رياح انكساراتي بدأت تتحرك من الداخل .وفي ظني تحطمت صلات كنت أحسبها طرية، هزة طارئة لا غير كشفت عن عمق عزلتي قبل أن تطوي صفحتها الأولى .لم أكن أتصور أن لشقيقي رقبة قبيحة كتلك. وما كنت أطمح بقسوة أبوية أكبر مما شاهدت .كنت على يقين دائم، أن ثمة نوعا من الرجال مصابون بمرض “التبغل الحاد “الذي يضفي على سلوكهم عنادا دائميا مقدسا .ص28
تتسارع الأحداث يودع الراوي زوجته على عجل مارا بالقرية التي تسكن فيها .. ثم يُنقل إلى حفر الباطن وهناك يتعرف على العمارتلي المطلوب بثأر لتتكون، صداقة غربة، فيما بينهما فيها ما فيها من الجوع والمرض والألم والوحدة والمعاناة .
حكاية الحرب والمآسي التي يتعرض لها الإنسان وكأن لا قيمة له حيث يرسل إلى جبهات تفتح للقتال ويترك هناك ليمتزج برمال الصحراء، قصة حرب خاسرة تسببت بمقتل وتشريد الآلاف ..
هي رحلة الضياع في الحياة، الضياع في صحراء والتيه فيها ..التعرف على هذه الجموع البشرية الضائعة حالات من الجوع وكيفية التعامل معه .الجوع بكل أنواعه ..حالات الشذوذ والبحث عن الجنس في صحراء شاسعة لا تتواجد فيها أنثى سوى كلبة الآمر !
الصراع الذي يتعرض له الأشتر العمارتلي وهروبه من العمارة ..ثم الأسر ورحلة الأقدام المدماة التي يتعرض لها الراوي ..البحث في المجهول عن المجهول .
في الأسر يقول الراوي :”أنا لا اشعر الآن أنني فقدت حريتي ببساطة لم أكن حرا، ولكنني فقدت ما هو أجمل من ذلك فقدت عزلتي .
يقلقني كثيرا أن ألقى إلى أمد مجهول، بين صخب الأسرى وضجيجهم .
فهؤلاء لا يذكرونني إلا بساعات ضياعي .أنهم في صراع محموم على الأطعمة المجففة وقناني المياه المعدنية والسكائر.وعدا ذلك لا تناسبهم أي مكرمة أخرى .أنهم فرحون لأن هذه الخريطة اتسعت وزال جفافها .
فهم يقارنونها دائما بنهارات القحط والخيبة ويرون أنهم في حال أفضل .ص173
هو الواقع بكل ما فيه من حقائق، بكل إيجابياته وسلبياته صاغها لنا الروائي بأسلوب جميل يجعل القارئ متتبعا تسلسل الأحداث والغوص في رمال صحراء حفر الباطن لمعرفة مصير بشر تجمعت لا على شيء، بل فقط زج بها إلى محرقة موت محتم .