خاص- ثقافات
يوسف عدنان *
يتكاثف في شخصية بابا نويل أو سانتا كلوز فيض من التوظيفات الرمزية والاستعارات والاستيهامات والدلالات المسقطة على هذا الرجل العجوز ذو اللحية البيضاء والثوب الأحمر {الرامز للحب والمحبة} والذي هو وكما يُشاع مأخوذ من قصة القديس نيكولاس وهو أسقف “ميرا” صادف موته شهر ديسمبر، لذلك يأتي ذكره واستذكاره من منظور استعادي كل رأس سنة. وسنقتصر في هذه السطور الموجزة على اقتطاف تمظهر واحد من هذه التوظيفات اللاشعورية، وهو المتعلق “بالصورة الأبوية” image paternel”.
إن بابا بما هو رمز للأب الخيالي (الصورة الأبوية) فهو يكاد يكون معادلا رمزيا على مستوى المتخيل طبعا لعيسى المسيح، وخير دليل على ذلك، هو أن جميع السمات المسقطة على هذه الشخصية الفانتازية من قبل الذات الغربية، نجد أوجها لتمظهرها في سيكولوجية المسيح والتي تشمل على سبيل الذكر لا الحصر: العطف، المحبة، العطاء، عدم الزواج/ العذرية أو الإمساك/ الاهتمام بالمعوزين، النزول من السماء، الحرص على التخفي بمعنى يسوع / سانتا كلوز الموجود والمستجيب للطلبات والأدعية. لكن يضلّ غير مرئي وحضوره مشوب بالسرية إلاّ على سبيل المحاكاة {أي عندما نجد بعض الأشخاص يقلدون باب نويل ويخرجون بثيابه ويجلسون مع الأطفال ليحكوا لهم بعض القصص أو لأخذ صورة معهم وأشياء أخرى من هذا القبيل {…} الخ.
وحتى نعود إلى فكرة الصورة الأبوية المنوطة ببابا نويل، نجد الاختصاصية النفسية بيتسا ستيفانو فرأت ان بابا نويل “يحل مكان الأب البشري حين يكتشف الطفل أنّ والده ليس كلّي القدرة Tout-Puissant كما كان يعتقد، فيُصاب بخيبة الأمل فيشرع في البحث عن بطله المفقود في القصص الخياليّة”. وتضيف: “ثمّ يُقال للطفل إنّ له أباً سماويا كلي القدرة يستجيب لكلّ طلباته ولكنّ عطاياه غير مرئيّة، وهكذا يدخل بابا نويل بين الأب البشري والأب السماويّ، أبا كلّي القدرة يستطيع اختراق أحلام الأطفال في غفوتهم، محققاً أحلامهم ومودعاً اياها تحت الشجرة هدايا معلّبة بأمنياتهم: “فليكن لي ما طلبت”. والمستنتج من هذا التحليل النفسي المُساق: أن صورة الأب، بشريّة كانت أو سماويّة، بحاجة إلى إعادة رسم ملامحها. وتُجمل الاختصاصية النفسية ستيفانو تعليقها بالقول أن صورة بابا نويل هي صورة تعويضية لأب لا يستطيع فعل كل شيء أو اجتراح المعجزات، كما يحلم الطفل، ولكنّه يستطيع أن يحبّ ويغدق الكثير على ابنه أو ابنته متلفعا بلون المحبّة الأحمر. فهو ليس فقط الأب الذي أعطى الحياة بل المرافق لهذه الحياة كي تتحقّق أحلامها تحت جذع شجرة تسمح لأغصانها بالنمو.
إن غياب بابا نويل طيلة السنة لا يُعدم سكنه الخطاب – المكان – الذاكرة – الهوام – المتخيل .. لنقل اللاشعور. وهذه الصيغة الطيفية التي يعبر بها اسم الأب {سانتا كلوز كصورة أبوية مأمثلة / الموضوع المثالي idéal} سواء همسا أو استذكارا أو حنينا أو انتظارا أو حلما إلى غير ذلك، يجعل من الموضوع المفقود يشمل حيزا من الواقع وذي قدرة مستدامة على الانبعاث من جديد والحركية على مستوى ديناميات الحياة النفسية اللاوعية عند الأطفال كما بالنسبة للراشدين. مما يجعله يخلق نوعا من التقبل الابتهاجي assomption jubilatoire، وكذلك طمأنينة نفسانية ataraxie.
أما من وجهة نظر فرويدية، يمكن اعتبار الأب نويل تجلي ملتوي للعقدة الأوديبية في نسختها الغربية {أي كما تتنزل على اللاشعور الغربي} لكن وهذا ما ينبغي التأشير عليه، ليس على نحو إخصائي، بما أن فائض المحبة الموجه الى شخص الأب نويل يعبر عن تحويل transfert، من لدن الطفل تجاه الأب البديل، وليس من السهل تعرية هوامات هذا المشهد المتاخم لبقايا حياة ليبيدية / شهوانية غير مشبعة الرغبات. غير ذلك لما لم يحضر بابا نويل بصيغة المؤنث، فمن المعلوم أن العطاء والخصوبة والحنان والاهتمام المفرط بالأطفال من شيم وخصاص المرأة لا الرجل، لهذا يستقيم ربط هذا الفونتازم fantasme بالحرمان واللاإشباع المذكرن، أي علاقة {أب، ابن / père , enfant بدل علاقة mère , enfant}. إذ ينبغي الأخذ بعين الاعتبار المغزى الأعمق، المعنى الضمني اللامصرح به، الرسالة المستورة، الرمزية المضمرة.
وحتى ندلّل أكثر على ما تقدم ذكره، نقول من باب التأويل {لأن مضامين المحكي الأسطوري وحتى الديني قابلة للمعالجة التأويلية وهو ما يجديه التحليل النفسي}، أن هناك في كل رأس سنة قتل رمزي للأب الواقعي {البيولوجي} من أجل إحياء صورة مماثلة للأب المثالي في المتخيل الغربي، ذلك الذي لا يلغيه الزمن والموت والاحتجاب … وهذه التعويض إذا صح القول لا يقف هنا وحسب، بل نجد له تمظهرات أخرى، إذ على مستوى طقس العمادة أو التعميد baptisme ، نعثر على نفس الهوام، من خلال إحالة الابن على راعي آخر {عراب} ليكون الاسم الأبوي مزدوج الدلالة والمفعول على مستوى تشكيلاته في اللاشعور الغربي.
*أستاذ الفلسفة
متخصص في التحليل النفسي والفلسفة النفسانية