إرشيفات

*أمير تاج السر

منذ سنوات عدة، ولا أدري أثناء حياته أم بعد أن رحل، اشترت جامعة تكساس الأمريكية، ما سمي إرشيف الكاتب الكولومبي الذائع الصيت غابرييل غارسيا ماركيز، بأكثر من مليوني دولار، والجامعة نفسها اشترت بعد ذلك إرشيفات لكتاب آخرين، منهم البريطاني كازو إيشجورو، صاحب «بقايا اليوم» و»فنان من العالم الطليق»، الذي حصل على جائزة نوبل في الآداب هذا العام.
تقول المكتبة التابعة للجامعة، إن شراء تلك الإرشيفات، الخاصة بهؤلاء اللامعين، كانت بهدف البحث العلمي، وإن ما تحتويه سيكون متاحا بشكل طبيعي، ومجاني للدارسين، وبالفعل وضعت منذ وقت قليل جزءا من إرشيف ماركيز على الإنترنت، بحيث يستطيع الراغبون تصفحه بلا عناء. وقد أعلن عن محتويات إرشيف ماركيز، وكانت محتويات عادية لكاتب ظل معلقا بداء الكتابة منذ شبابه المبكر، وحتى توقفت الذاكرة عن الاستيعاب، لا بد من وجود أوراق كثيرة لمسودات جرت كتابتها لقصص أو روايات، بعضها اكتمل ونشر، وبعضها أهمل. لا بد من مشاريع لكتابات وضعت تخطيطاتها الأولية، ورسمت شخصياتها وبعض الأحداث، وأيضا هناك ما نجح منها ونما إلى نصوص كبيرة، ومنها ما ضاع بلا أي زيادة أو نقصان، ويحتمل جدا أن توجد رواية مكتملة، كتبها الكاتب في وقت ما، ورأى بعد ذلك أنها لا تستحق النشر، أيضا قد توجد رسائل عاطفية، وأخرى ساذجة، أو ملحة كتبها المبدع في بداياته لفتيات أحبهن، ولدور نشر وصحف، كان يأمل أن تنشر له، وأظن الجامعة أعلنت عن وجود نص من خمسة وثلاثين صفحة، كان مهملا، والآن هو متاح للقراءة.
في مقدمة كان كتبها ماركيز لمجموعة قصصه الغريبة المعنونة: «إثنتا عشرة قصة مهاجرة»، كان ذكر إنه وضع تخطيطا شاملا لتلك القصص في أوراق كانت على طاولة مكتبه، لكنها فقدت لسبب أو لآخر، واضطر إلى عصر ذهنه من أجل كتابة القصص، ولم يستعد الكثير، وبدأ بداية أخرى، وهذه المقدمة تعطي لمحة لطقوسه في الكتابة، فقد كان من الذين يخططون قبل أن يكتبوا أي حرف، عكس آخرين يكتبون باندفاع تام وبلا أي فكرة عما سيحدث في النص، الذي يكتبونه، وكاتب مثل هذا سيكون إرشيفه غنيا بلا شك.
في الماضي حين كان الناس يكتبون بالقلم، بلا حواسيب جامدة تمتص أبصارهم وترهقهم بوضع الجلوس الدائم أثناء الكتابة، كانت ثمة أوراق كثيرة، قصاصات بلا عدد قد تكون متوفرة في بيت الكاتب أو الشاعر، خاصة إن كان من الذين لا يمزقون القصاصات، ويحبون الاحتفاظ بأوراقهم في خزائن أو صناديق مغلقة، أيضا الرسائل التي تصلهم بالبريد، وكل ما يتعلق بحياتهم، هؤلاء هم أصحاب الإرشيفات المتألقة بلا شك، ولا يمكن مقارنتهم بأي كاتب من الحديثين، قد يضيع إرشيفه الكومبيوتري في لحظة، إن تعطل جهازه، وأعرف كثيرين أنهوا روايات طويلة بمشقة، ولم يحتفظوا بنسخ احتياطية في أماكن أخرى، وضاعت بسبب فيروس أرعن، بثه أحدهم لتدمير الكومبيوترات. وشخصيا أقوم بالنسخ الاحتياطي منذ تعلمت الكتابة على الكومبيوتر، وأحيانا أقوم بنسخ أكثر من خمس أو ست نسخ، وأضعها في أماكن متفرقة، يسهل العثور عليها فيها، إن احتجت. هذا ليس بسبب أهمية كتابتي، وأنني قد أموت حزنا إن فقدت نصا مكتملا، ولكن سلوكا تعودت عليه، وبهذه الطريقة أستطيع العودة لإرشيفي الإلكتروني، ودائما ما أعثر فيه على أفكار مهملة، وأحلام كتابة مجهضة، ونصوص كانت تشكل محورا جذابا في يوم ما، وتاهت مني من دون أن أعرف السبب، وأذكر أنني عثرت مرة على رواية اسمها «كتاب الفانتازيا»، لا بد أنني كتبتها في نهاية التسعينيات، وتحكي عن سائق عربة تجارية يسافر بين القرى والمدن، أحب امرأة، فبرك بعربته أمام بيتها لسنوات طويلة، شاخ فيها وشاخت المحبوبة. كانت تلك قصة مستوحاة من واقعة حقيقية جرت في إحدى القرى الصغيرة، وكتبتها بحماس تلك الأيام، لكن لا أدري السبب الذي حولها إلى نص إرشيفي، لن يرى النور أبدا.
أيضا كنت نشرت في أواخر التسعينيات، فصلا من رواية اسمها «غثيان الصعاليك»، في جريدة «السفير» اللبنانية، أثناء زيارة لي لبيروت. كان الفصل الأول من جملة ستة فصول أنجزتها في النص الذي تدور أحداثه في ريف شرق السودان، وكنت متأثرا بتلك المنطقة في ذلك الوقت، بعد أن عملت فيها فترة، وأيضا ضاعت «غثيان الصعاليك» ولم تكتمل، وكلما عدت إلى النص المؤرشف، استغرب وأسأل نفسي: لماذا ضاعت؟
بالنسبة لقصاصاتي الورقية، فقد عثرت عليها أيضا، وكانت موجودة في خزانة في بيت أهلي في مدينة بورتسودان، كانت هناك مئات القصائد التي كتبتها باللهجة العامية وبالفصحى وبشعر التفعيلة، عشرات القصاصات التي كانت ستشكل نصوصا روائية لو نمت أكثر، وهناك أشياء مضحكة فعلا، لا بد أنها من زمن المراهقة البعيد، مثل رسائل عاطفية لم ترسل لأحد، وحوارات أجراها معي طلاب زملاء في المدرسة، ولم تبارح مكانها، وكنت سعيدا حين عثرت على نسخة الآلة الكاتبة لأول قصيدة كتبتها في حياتي، وكان اسمها «ليه» وقد غناها مطرب كان صغيرا وظل صغيرا حتى بعد أن اكتهل، وكتبتها سكرتيرة والدي على الآلة الكاتبة، ووقعت على الورقة الحرف الأول من اسمها في دائرة، لقد وضعت حرف: نون، وكان اسمها نجاة.
لقد أعادت لي تلك القصيدة حين قرأتها وتذكرت وقائع كتابتها حيوية قديمة افتقدها الآن، كانت الكتابة تجري بتلقائية عنيفة، قبل أن يكبلها النضج، ويضع لها قوانينه المزعجة، وافتراضاته الغريبة، وتلك النظرات الصارمة التي تسقط على النص قبل أن ينشر، تعريه، وتكسوه من جديد، وتعريه مرة أخرى، وهكذا.
إذن ما يسمى بالإرشيف لأي كاتب أو شاعر، سيكون مثار دهشة له أولا، إن عثر عليه، وجلس في أحد الأيام، وراجعه، وسيكون جميلا لو استطاع معرفة السبب في أن بعض النصوص المكتوبة لم تنشر، ونشرت أخرى جاءت بعدها، وعموما هو أمر يخضع للمزاج أولا، وربما لانقطاع الإيحاء عن نص بسبب تدخل ظروف معينة، أثناء كتابته. وأظن أن هناك إرشيفات غنية لمبدعين عرب كثيرون، لا أدري لماذا لا تسعى الجامعات لشرائها وإتاحتها للبحث، إرشيف مثل الذي لمحمود درويش، وعبد الرحمن منيف، ونجيب محفوظ، وكثيرين.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *