فيلم «في حب فنسنت»… ما بين حلم التقنية وحلم كوروساوا

*محمد عبد الرحيم

«كنت أتمنى أن يقبلوني كما أنا» عبارة دالة كما العديد من العبارات التي احتوتها خطابات فنسنت فان غوخ (1853 ــ 1890) التي واظب على إرسالها إلى شقيقه، حتى لحظاته الأخيرة. هذه الخطابات وقبلها أعماله التي أثرت في تاريخ الفن التشكيلي، كلا منهما يعد مكملا لما كان يحياه فان غوخ، الذي عاش طوال سنواته السبع والثلاثين في محاولات مستميته حتى يقبله الآخرون كما هو، لا كما يريدون أن يكون عليه. العديد من الأعمال الفنية تناولت حياة وفن الفنان الهولندي، سواء الأدب أو اللوحات المستوحاة من أعماله، إضافة إلى الأفلام السينمائية، سواء وثائقية أو روائية. وفي الفيلم الأحدث Loving Vincent إنتاج 2017، يتم سرد حكاية فان غوخ في تقنية جديدة ــ لوحات زيتية ــ كمحاولة للبحث عن تفاصيل حياة الرجل والسر وراء مقتله أو انتحاره. الفيلم سيناريو وإخراج هيو فيلشمان ودوروتا كوبيلا.

المغضوب عليه

تراوحت معاناة فان غوخ في كيفية التحقق في الدين ثم الفن، وبعد الفشل في أن يصبح رجل دين حسب المؤسسة الدينية الرسمية، وجد ضالته في الفن، الذي مارسه خلال ثماني سنوات فقط، أنتج خلالها العديد من اللوحات التي غيرت مسار الفن التشكيلي والفن عموما، رغم أنه طيلة حياته القصيرة لم يستطع سوى بيع لوحة واحدة. فأعمال فان غوخ وفق مقاييس عصره التي أنتجها من خلاله لم تكن تجد الترحيب المرجو، فالألوان الزاهية والاحتفائية لم تكن تعرف طريقها ــ اللهم إلا في بعض الأعمال القليلة ــ فالانطباعيون في عصره كانوا يهتمون بالجماليات، ومحاولة تصوير العالم وفق معتقداتهم الفنية كحركة كتب لها الوجود، أما فان غوخ بألوانه ومخلوقاته فكان يمثل ــ في نظرهم ــ حالة من الكآبة لا تُحتمل. وإذا كان هذا في مجال الفن، فالأمر أدعى في الدين، يُذكر أن فان غوخ التحق بمدرسة تبشير بروتستانتية، ذهب على إثرها كمبشر إلى منطقة مناجم الفحم في بلجيكا، ليرى ويُعايش على الطبيعة حياة البؤس التي يعيشها العمال، جوعا ومرضا وموت المصادفات جرّاء انفجارات التنقيب، حتى تبرع بكل ما يملكه للعمال، كما ترك مكان إقامته كمُبشر ديني لأحد المشردين، واكتفى بالإقامة في كوخ صغير. لكن هذا السلوك الإنساني أغضب الكنيسة فتمت إقالته، نظرا لكونه (يُقلل من كرامة الكهنوت). لكنه خرج من التجربة بعدة لوحات لعمال وحياة المناجم، فاستبدل الدين بالفن، وبمعنى أدق.. بحث عن الله في الفن، يقول في أحد خطاباته «حاول أن تفهم القيمة الحقيقية لما يقوله لنا الرسامون العظام من خلال أعمالهم وستجد الإله هناك. فشخص ما أخبرنا به أو كتبه في كتاب وآخر رسمه في لوحة».

مخلوقات فنسنت

ومن خلال شخوص فان غوخ التي جسدها أو خلّدها في لوحاته يحكي الفيلم الحكاية، من خلال الشاب (آرماند) ابن ساعي البريد (جوزيف رولان)، الذي كلفه بإيصال آخر رسالة كتبها فان غوخ لأخيه ثيو. ونظرا لموت ثيو بعد فنسنت بستة أشهر، يتحول الأمر إلى بحث واستقصاء عما حدث لفان غوخ ليلة وفاته ــ الحكاية يتم سردها بعد عام من وفاة الرجل ــ فيذهب الشاب إلى القرية التي كان يقيم فيها، ويتحادث والشخصيات القريبة منه، ابنة صاحب الفندق، طبيبه المعالج وصديقه (بول جاشيه) وابنته (مارغريت)، ومدى صحة الإشاعات التي تحكي عن علاقة غرامية بينهما، كذلك تعرف فان غوخ على مجموعة من الشباب المتحررين فكريا وأخلاقيا، وكيف كانوا يسخرون منه، وهو يجاريهم في مزحاتهم السخيفة، ويستغرق فقط في عالم لوحاته، وصولا إلى حادث القتل بطلق ناري، وإصرار فان غوخ على أنه انتحر، لكن الشكوك تحيط باستحالة ذلك، نظرا لمعنوياته المرتفعة في ذلك الوقت، وخطاباته ذات نغمة التفاؤل التي كان يرسلها إلى شقيقه. إلا أن اللقاء الأخير مع الطبيب ترك لدى الشاب انطباعا بأنه من الممكن أن يكون الرجل انتحر بالفعل، رغم نفي طبيب آخر فكرة الانتحار واستحالتها تماما. ويبقى الأمر هكذا، فالفيلم لم يرد تقديم دليل إدانة لأحد، بل اتفق والحكايات المعهودة المتأرجحة بين القتل ــ بدون قصد ــ أو الانتحار.

الاحتفاء بالتقنية

لا يُنكر المجهود الذي بذله صُناع الفيلم، من حيث رسم الكادر واللقطات المستوحاة من لوحات فان غوخ، بداية من البحث عن ممثلين قريبي الشبه من شخصيات اللوحات، وتنفيذ الفيلم عبر هذه التقنية ــ لوحات زيتية متحركة ــ ومحاولة الإيحاء بالأجواء التي كان يعيشها فان غوخ بالفعل، والتي تعبر لوحاته عن جزء منها، لكن بعد مشاهدة الفيلم يبدأ التساؤل ماذا لو تم تنفيذ الفيلم من خلال الممثلين أنفسهم؟ هل سيبدو الفارق الشاسع، سواء على مستوى الجماليات اللونية والتشكيلية؟ خاصة أن السينما استقت العديد من تكويناتها التشكيلية من الفن التشكيلي، اللون وتكوين الكادر وصولا إلى الإيقاع، والأخير لم يُفلح فيه الكثيرون. الأمر لا يعد احتفاء بالتقنية أو شكل الفيلم ليس أكثر، مهما حاولت الدعاية أن تصنع منه عملا سينمائيا غير مسبوق.

حلم كوروساوا

ويتبادر إلى الذهن أحد أحلام أكيرا كوروساوا في فيلمه Dreams 1990. حيث يذهب فنان ياباني شاب يرتدي قبعــــة كوروساوا لمقابلة فان غوخ ــ أحد أهم التشكيليين المؤثـــــرين في كوروساوا ــ ليبدو بعد حادث قطع أذنه وهو يقـــف في الحقل الشاسع، وليتجـــول بعــــدها الفنان الشاب فـــي عالم لوحات فان غــــوخ التي جسدها كوروساوا، خاصـــــة لوحة الغــــربان الشهيرة، التي حمل الحلم اسمها ــ قام مارتـــــن سكورســــيزي بدور فان غوخ ــ فأيهمــــا أكثر تأثــــيرا وأخلــص لجمالـيات فان غوخ وأكثر عمقا وتفهما لأعماله.
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *