*الفاهم محمد
قليلة هي الظواهر والأحداث المؤسسة التي تدفع المجتمعات إلى الاصطدام ببديهياتها المطلقة، فتراجع ذاتها وفقاً للضرورة التاريخية، وتخرج معلنة عن تشكل جديد لأناها. ظاهرة الأصولية الإسلامية هي واحدة من هذه الظواهر، التي جعلت العالم يقف حائراً أمامها، غير قادر على تفسير أسبابها، وبالتالي إيجاد الحلول الملائمة لها، ما عدا طبعاً الحل الأمني المباشر.
إن أغلب الأبحاث والمتابعات ترى أن أسباب هذه الظاهرة تعود إلى غياب الديمقراطية، وإلى الأزمة السياسية التي تعرفها الأنظمة العربية، وإلى فشل المشروعات التنموية والسياسية، من اشتراكية وقومية وليبرالية. هذه التحليلات تقول، صراحة أو ضمنياً، إنه كلما كانت هناك تجربة ديمقراطية حقيقية، وتنمية متوازنة تراعي ما هو اجتماعي، فإن ظاهرة الأصولية ستتجه حتماً إلى الذوبان والتراجع للوراء. طبعاً الرفع من الأداء الديمقراطي الحقيقي من شأنه أن يعمل على محاصرة هذه الظاهرة، غير أن ذلك لن يكون في نظرنا كافياً لاجتثاثها من الوعي الجماعي للناس وذلك للأسباب الآتية:
أولا: ما دفع بهذه الظاهرة إلى الواجهة ليس فقط الفقر والبطالة، والاختلالات الاجتماعية والاقتصادية بل القوة والجاذبية التي تمتلكها المفاهيم التي تنبني عليها الإيديولوجيا الأصولية، وهذا هو ما يشكل قدرتها الكبيرة على الاستقطاب والتأطير. وما يزيد في نجاحها هذا هو أن الدول العربية التي تعلي من شعار الحداثة، لا تمتلك منظوراً حداثياً للمسألة الدينية، ربما لأن ذلك يتطلب جرأة سياسية وموقفاً كبيراً حضارياً ليس في استطاعتها أن تتخذه بعد.
ثانياً: التطرف الديني والانغلاق المذهبي، هو رد فعل اتجاه الفعل الكاسح الذي تمارسه الحداثة والعصرنة، وبالتالي كيف يمكن أن تكون المشاريع التحديثية هي الحل لمثل هذه الظاهرة، في حين أن الإرهاب ينصّب نفسه كمناوئ للحداثة وكحامل لمشروع حضاري بديل لها.
ثالثاً: تعيش الحداثة اليوم أزمة داخلية كبيرة جداً. أصبحنا نطلق عليها: ما بعد الحداثة، كاتجاه فكري يشكك في نجاح المشروع الأنواري. فكيف إذن يمكن التعويل على الحداثة في حل معضلة الإرهاب، في حين أنها هي نفسها تعيش مثل هذه الأزمة، الناتجة بالخصوص في إهمالها لمسألة القيم كمبادئ أساسية مؤسّسة للسلوك البشري، سواء اتجاه نفسه أم اتجاه الطبيعة بشكل عام.
كيف نقارب إذن هذه الظاهرة بلغة موضوعية تبتعد عن اعتبارها مجرد حدث عابر لا أهمية له؟. ما السبيل لطرح معضلة الإرهاب بلغة عقلانية هادئة، تهدف إلى نحت مفاهيم بديلة وطرح أسئلة جريئة؟ وليس الارتكان فقط إلى لغة الشجب والإدانة؟ هل المقاربة الأمنية التي نتبناها اليوم كفيلة لوحدها باجتثاث هذه الظاهرة ووضع حد لها؟ أخيراً، ما معنى أن نكون حداثيين في وجه التطرف الديني؟
بين المحلّل والمفكّر
لقد أصبح عصرنا يضخّم كثيراً في اللغة والتحليلات السياسية. إنها حاضرة في صحافتنا وإعلامنا وفكرنا، فكل ما يحدث في العالم نفهمه ونؤوله وننتقده بلغة سياسية. حتى إن المحلّل السياسي احتل في عصرنا هذا المكانة التي كان يحتلها المفكر سابقاً، بل أصبح هذا الأخير تابعاً له إن لم يتحول هو نفسه إلى محلّل سياسي.
ما الفرق إذن بين المحلّل السياسي والمفكر؟
يهتم المحلّل السياسي بوجه عام بالوقائع: قيام حرب معينة، غرق زورق في محيط، مقتل شخصية سياسية… إن هدفه بالأساس هو إنارة الرأي العام، وإخبارهم بما يجري من وقائع في الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية، مع توضيحها قدر الإمكان والكشف عن الأسباب المباشرة التي تتحكم فيها.
أما المفكّر، فهو يهتم بالحدث الذي يمتد ليصبح عبارة عن ظاهرة: ظاهرة الحرب، ظاهرة الجريمة السياسية، ظاهرة الهجرة السرية… إن هدفه هو صياغة تصورات وتقديم نظريات عامة، قادرة على فهم هذه الظواهر في علاقتها بالإنسان كإنسان، أي ضمن إطار شمولي لا نتساءل فيه عن زيد أو عن عمرو، ولا عن هذه المجموعة البشرية أو تلك، بل عن معنى هذه الظواهر بالنسبة لمصير البشرية ككل.
هناك إذن اختلافات جذرية بين مفهوم الوقائع ومفهوم الحدث، نجملها فيما يلي:
أولا، الوقائع لها طابع عابر لحظي وخاص، أما الحدث فهو يملك من السمات ما يجعله أساسياً وماهوياً.
ثانياً، الوقائع يكون لها تأثير محدود قد يزول بتدخل جهات أو فاعلين معينين، مثل واقعة اختلاس أموال عمومية، أو انقطاع طريق بفعل عوامل مناخية، أو تأخر وصول القطار في مواعيده المحددة. بينما الحدث له تأثير قوي ليس من السهولة مقاومته والتغلّب عليه، إنه يحتاج إلى مدة أطول، وإلى تعاون عدة جهود من جهات مختلفة.
ثالثاً، قد يتحكم عامل واحد أو عدة عوامل محدودة على أية حال في صناعة الوقائع، كالإهمال وعدم تحمل المسؤولية، أو اضطراب المناخ أو غيرها. أما الحدث فتصنعه عدة عوامل متشابكة ومتناسلة يصعب عزلها عن بعضها البعض. مثل حدث؛ ظاهرة العولمة، أو التمييز العنصري، أو التطرّف الديني، أو حدث سقوط جدار برلين، أو ثقب الأوزون… طبقا لهذه الاعتبارات يبدو من البديهي أن تكون اللغة السياسية ملائمة للوقائع، أما الظواهر والأحداث الجسيمة فهي من اختصاص المفكرين والمشتغلين بحرفة السؤال والمفهوم.
حينما يتحوّل المفكّر إلى محلّل سياسي، يصبح الفكر مجرد تعليقات ومتابعات Des commentaires، نكون أمامها مجرد منفعلين، مشدوهين، حيارى إزاء ما نسمع أو نشاهد. إن تعاظم دور المحلّل السياسي، والذي ساعد عليه انتشار القنوات الفضائية، ورغبتها في تقديم تحليلات تضمن بها أكبر قدر من المشاهدين، يحد من عملية تفحّص الفكر لمواضيعه وأدوات اشتغاله، وطرحه لها على وجه آخر من الاعتبار. إن هذا هو ما يجعل في نهاية المطاف الحقيقة نفسها ضحلة، لا تشبع نهم العقل في التفكير والمساءلة.
لهذه الأسباب نقول إن المسألة الأصولية إلى جانب العديد من القضايا الأساسية للإنسان العربي لم تطرح بعد بما تستحقه من جرأة السؤال والمواجهة الفكرية العنيدة، ونحن هنا نعتبرها حدثاً أساسياً وليست مجرد وقائع عابرة. إنها عبارة عن مشكلة ثقافية عميقة، تتعلق بفهم وقراءة وتأويل التراث العربي الإسلامي، لذلك فالصراع معها لا بد أن يكون أساساً على مستوى الوعي والقراءة الحداثية المتفتحة واليقظة. أي أنه لابد من تفكيك المفاهيم التي تقوم عليها الإيديولوجيا الأصولية مثل مفهوم الجهاد، حاكمية الله، دار الإسلام ودار الحرب، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تطبيق الشريعة… هذه المفاهيم التي يتوجب اليوم تفكيكها، إذ لم يعد بالإمكان تحيينها حذافيرياً في عالم الحداثة، هذا العالم الذي بدأت تغادره جميع الخطابات الشمولية.
آخر الحكايات الكبرى
تدخل الأصولية الإسلامية كخطاب وكممارسة ضمن ما كان يسميه جان فرانسوا ليوتار بالحكايات الكبرى مثل الماركسية، الليبرالية، الميتافيزيقا (1)، هذه الخطابات التي اعتقدت في مرحلة تاريخية معينة، أنها بإمكانها أن تقدم تصوراً نهائياً عن التاريخ والإنسان والحقيقة. وهنا نلاحظ أن الأصولية بدورها تقدم نفسها اليوم كخطاب يحمل الخلاص للإنسان على جميع المستويات، سواء الروحية أو الاقتصادية أو المعرفية… فالفكر الأصولي يقدم نفسه مثل عقيدة غير قابلة للزيادة أو للنقصان، وهو لم يدرك بعد القيم التي يتأسس عليها عصرنا مثل الحرية، الاختلاف، التعددية، التسامح، التعايش، الديمقراطية، نسبية الحقيقة… هذه القيم التي أنتجها التطور الحضاري البشري. لذلك فهو يعيش في زمان غير زماننا، معتقداً أن الحقيقة اكتملت في فترة تاريخية معينة، وما علينا سوى الرجوع إليها لحل مشاكل الحاضر.
ولكن هل يمكن أن يكون الماضي هو كمال الحاضر؟
إننا لا نحتاج إلى أن نذكّر هنا بالإلزامية التي يفرضها الراهن، سواء كواقع معيش يشدنا إليه في تفاصيله اليومية، أو كوضع فكري وكسؤال لا يمكننا إلا أن نواجهه بشجاعة، بدل الفرار للعيش في أحضان لحظة فردوسية متوهمة.
نشير هنا إلى ثلاث ملاحظات تبدو في غاية الأهمية:
أولا، الماضي نفسه مسكون بالتعدد والاختلاف، تطبعه جروح لم تلتئم بعد إلى يومنا هذا. كما أن الكثير من المصادر التراثية ما زالت تحتاج إلى التحقيق.
ثانياً، الوعي بالزمان يعني بالضرورة الوعي بالتغير والحركية والانفصال، الوعي بأن الإنسان يولد داخل زمانية معينة، لا يستطيع أن يعرف نفسه بعيداً عنها. هذا هو معنى (الدازايين) ومعنى الوجود في العالم الذي حدثنا عنه هيدغر إذ ليس في مقدورنا التخلّص من الحاضر بجرة قلم، بل إن رفض الحاضر يتم داخل الحاضر نفسه. إن الحنين المرضي للماضي تبعاً للتحليل النفسي لا يصنع سوى الهزيمة في الحاضر.
ثالثاً، الانفصال عن الماضي يقتضي الإبداع في الحاضر، والتخلّص من الاستنساخ الأعمى للسلوك والمواقف والنقل الحرفي للنصوص. نقول الإبداع وليس فقط الاجتهاد، لأن الأول يعني الخلق على غير مثال سابق، أما الثاني فهو مفهوم يظل محكوماً بالشروط التي وضعها الفقه. إن مسألة الإبداع هذه ضرورية لتثوير القوالب الجاهزة، وتفكيك الأبنية العتيقة، كما أنها تتطلب قدرا من الشجاعة للذهاب بعيداً أكثر مما يتيحه ظاهر النص.
صدمة الحداثة
نحن اليوم، أكثر مما مضى، في حاجة إلى تجاوز الحرفية نحو تأويلية خصبة للمعنى والدلالة. إننا هنا لا ندعو طبعاً إلى إهمال الماضي وطرحه جانباً، وإنما نريد الإشارة إلى أن الماضي نفسه ينبغي أن يكون في خدمة الحاضر وليس العكس. لا أحد يولد من عدم، فالكائن البشري هو نتاج تاريخ يمنحه كياناً وهوية معينة. غير أن الزمان يتجاوز ذاته محتفظاً في نفس الوقت بالعناصر الأساسية من الماضي، إنه يتجاوز ويقصي في الآن معاً. تنضاف إذاً الأصولية إلى الحكايات الكبرى التي أنتجها عصرنا هذا، مدعية تقديم خطاب شمولي حول الإنسان والحقيقة والوجود العام. لذلك فحل هذه المعضلة لا يمكن أن يكون فقط باعتماد الجانب الأمني، إذ إن الأمر هو أعقد من ذلك بكثير، فالأصولي مازال يعيش في عالم ذهني لم تصنعه الثورات الأساسية التي شكلت عصرنا: الثورة الفيزيائية والنجمية التي أطاحت بمركزية الأرض، بحيث أصبحت مجرد حبة رمل في شاطئ كوني لا متناهٍ. والثورة البيولوجية التي مكنت الإنسان اليوم من التأثير المباشر في سلسلة التطور. ثم كذلك الثورة المعلوماتية التي تتجه إلى إعادة التفكير في مفهوم الذكاء والوعي بالذات. يعيش الأصولي كما لو أن الأندلس لم تسقط بعد، والخلافة الإسلامية ما زالت قائمة نرفل في عزها ونعيمها، وجيش الإسلام يقف بحوافر خيوله على أبواب الانتصار.
بطريقة أخرى نريد أن نقول إن ظاهرة الانغلاق الديني في الوطن العربي هي تعبير عن مشكلة ثقافية أساسية، تضرب بجذورها في الأعماق التاريخية للتراث العربي الإسلامي، وبالتالي فهي مشكلة ينبغي أن تحل أولا وقبل كل شيء عن طريق تأسيس قراءة جديدة لهذا التراث، وترسيخ مفاهيم بديلة لتلك التي يقوم عليها الخطاب الأصولي عن طريق التربية والتعليم. ولربما أهم قيمة ينبني عليها الوعي بالحداثة، تكمن في الإيمان بنسبية الحقيقة، والقلق، والتوتر الناتج عن الإحساس بلا طمأنينة اتجاه التحولات التي يعرفها الوضع البشري. نعت ألفن توفلر هذه الظاهرة بصدمة الحداثة (2)، حيث يقف الإنسان الغربي بعد قرون من عناء البناء والتشييد غريباً أمام هذا العالم الذي بناه بنفسه، والذي أضحى يتجاوزه. أما بالنسبة للإنسان العربي فالأمر أسوأ بكثير، إنه مضطر إلى التعايش مع عالم غريب عن قيمه، بل عالم مستفز له ومهدد لكيانه التاريخي والثقافي. ولكن بين هذا وذاك هل ثمة من إمكانية للهروب من الأسئلة المقلقة للحداثة؟. أي هل ثمة إمكانية للعثور على موقع في عالم اللاموقع؟. لقد انطلق الغرب من الوعي بالحداثة وها هو يصل إلى صدمة الحداثة، أما الخطاب الأصولي فهو ينطلق مما انتهى إليه الغرب، أي من صدمة الحداثة عساه يرفع هذه الصدمة إلى مستوى الوعي والسؤال. ولكن سواء هنا أو هناك يبرز الشرط الأخلاقي الوحيد لعصرنا، والذي علينا أن نعيشه باعتباره شرط وجودنا ألا وهو إفراطنا في حب الوجود كما كان يقول نيتشة، هذا الحب المعذب بالسؤال، لأن: «التعايش مع يأس مدجن، أفضل من الاستمتاع بآمال غير أكيدة» كما قال داريوش شايغان (3). إن هذا معناه أن صدمة الحداثة التي نعيشها اليوم قد تكون شرط الوعي بالحداثة.
الأزمة الأخلاقية للحداثة
تعرف الحداثة في العقود المتأخرة أزمة بنيوية كبيرة على جميع الأصعدة:
سياسياً، تجلت أولاً في فشل الشعارات البرّاقة للقرن الثامن عشر، مثل محو الفقر على المستوى العالمي، التقريب بين دول الشمال ودول الجنوب، القضاء على الفوارق الطبقية. وثانياً سقوط جميع الخطابات الإيديولوجية التي كانت تبشر بحمل الخلاص للبشرية، سواء كانت ليبرالية أو اشتراكية.
علمياً وتقنياً، اتخذت الأزمة طابعا دراماتيكيا، حينما انقلبت وظيفة العلم المتمثلة في تحقيق التقدم إلى وسيلة لتخريب الطبيعة والقضاء على الحياة. لكن أكبر الأزمات حضورا وتمثلا من طرف غالبية الناس هي الأزمة الأخلاقية، إذ حتى الإنسان الذي لم يتلق أي حظ من التعليم، يستشعر أن هناك تراجعاً صارخاً على مستوى القيم والمبادئ، فتفكك الأسرة والنظام الاجتماعي، إضافة إلى اضمحلال الهوية، وظهور العنصرية الثقافية أو الدينية، ثم صعود ثقافة الاستهلاك.. كل ذلك جعل السلوك الأخلاقي حبيس تناقضات عنيفة، وتوترات قوية، بين واقع أصبح يتجاوز الإنسان ويدوس عليه، ومبادئ تتراجع إلى الوراء وتضمحل أمام هجوم صدمة الحداثة. لقد حاولت هذه الأخيرة أن تتجاوز الحياة الأخلاقية الدينية بإحلال إيتيقا من نوع خاص، يتوهم الفرد أنه صانعها لكنها في الحقيقة من صنع دور الأزياء العالمية، والشركات العابرة للقارات التي تقرر فيما ينبغي أن يأكله ويلبسه ويسمعه سكان العالم.
على مستوى السلوكيات والطقوس الاجتماعية ورؤى العالم يمكن تشخيص هذه الأزمة، على سبيل المثال لا الحصر كما يلي:
القلق النفسي وعدم الاستقرار في اتجاه معين.
الخوف الدائم من المستقبل وضعف الاطمئنان لما يمكن أن يحمله.
الفراغ الروحي الهائل وتراجع المثل العليا كالصدق والوفاء والمحبة.
طغيان أخلاق القوة والعنف في الثقافة والسياسة والمجتمع بشكل عام.
تراجع الهالة السحرية والقدسية للطبيعة، بفعل تقدم العلم وهيمنة المنظور التقني.
تراجع المجتمع العضوي القائم على العلاقات الاجتماعية التقليدية، لصالح المجتمع المؤسساتي الذي تحكمه القوانين الموضوعية.
أمام هذه الأزمة، تقدم الأصولية نفسها اليوم كبديل شرعي لحل التناقضات الأخلاقية التي تتحرك فيها الحداثة، فهي تعتقد أنها تمتلك نظاماً من المبادئ والقيم قادر على تجاوز المأزق الحضاري الذي وصلت إليه الحداثة الغربية. يحق لنا إذن أن نتساءل الآن: هل بإمكان التطرف والانغلاق الديني أن يسد الفراغ الأخلاقي الذي تركته الحداثة؟ إلى أي حد يمكن القول بأن النظام الأخلاقي الموروث عن القرون الوسطى، كفيل بأن يشكل للإنسان اليوم دعامة أخلاقية قوية للعيش باطمئنان؟ ما معنى أن نكون أخلاقيين في زمن الثورات الكونية الأساسية التي تدفعنا إلى إعادة تعريف الكائن والحقيقة؟.
تجدر الإشارة أولا إلى ظاهرة مهمة يعرفها الخطاب الأصولي، ألا وهي تضخم اللغة الأخلاقية، فهي عندهم المدخل الذي ينبغي أن تبدأ به كل مسألة، والنتيجة التي ينتهي إليها كذلك. هكذا يصاغ الحديث في الاقتصاد والسياسة والمعرفة بلغة أخلاقية أساساً، وما يبدو أنه قابل للنقد هو أن الأخلاق التي يتحدث عنها الخطاب الأصولي لا يتناولها من جانب «الحكمة العملية» التي ينبغي للإنسان أن يتدبرها لمواجهة وقائع الحياة ومستجداتها، بل هو يتناولها من جهة تلك المنظومة المتعالية من الوصايا والقيم التي يكفي للإنسان أن يتزود بها في خضوع وامتثال مطلق، حتى يعيش في اطمئنان مع ذاته.
بطريقة أخرى يتعلق الأمر بأخلاق طهرانية تستلهم سلوكيات متعالية في اللباس والحديث والمواقف… كذخيرة وسلاح في وجه الضغط الذي تفرضه الإكراهات المادية للحداثة، هذه الإكراهات التي تخلق حالة من التشوهات الشيزوفينية بين الألق الأخلاقي الطهراني الذي تشع به تلك النماذج المتعالية، والحاجات والإلزامات التي يفرضها منطق الحداثة وقوة الأشياء. لا يتعلق الأمر إذن بكيف نكون متخلقين وأناسا طيبين. بل كيف نفهم ونمارس كينونتنا الآن وهنا، كيف نجيب على الأسئلة التي تطرحها علينا الثورات العلمية الثلاث.
إن الأصولي غير قادر على تحمل الحياة بعنفوانها، بثرائها وتناقضاتها، لذلك فهو يبحث عن ملجأ آمن يطمئن فيه ذهنه من التحولات المقلقة للحداثة، وهذا الملجأ هو النموذج الأخلاقي المبني على قاعدة صارمة من الأوامر والنواهي. غير أن استفزاز الحداثة ليس له حدود، وهذا هو ما يجعل الأصولي في نهاية المطاف بعد أن استشعر الخطر الذي يتهدد نموذجه الطهراني يتحول كي يصبح قاضياً يصدر الفتاوى/ الأحكام لتكفير وتبديع كل مخترع ومبتكر من مبتكرات الحداثة.
هكذا يتقمص الأصولي خفية، بقصد أو بدونه نموذج الكائنات النبوية، غير أن ما لا يعيه حتما هو أن الشعور بالعصمة أو بالتعالي لا يسهم إلا في تدهور الدين نفسه، أو بشكل أدق تدهور الحياة الروحية العميقة التي نادى بها الإسلام. لقد أكد هذا الأخير على ضرورة المرور إلى الفعل، فما دام الإسلام ديانة تدمج في الآن معا البعد الروحي والبعد الزمني، فهذا أكبر دليل على أنه لا يمكن أن يختزل في مجموع التعاليم والعقائد الثابتة، بل لا بد أن يكون هناك بعد آخر مرتبط بالتاريخ، ومحايث للتجربة الإنسانية وغير متعال عليها. بعد يكون الإنسان هو فاعله ومبدعه ومنتقده في الآن معا. إن الايتيقا التي نتحدث عنها هنا، هي عبارة عن أخلاق مرتبطة أساساً بالحركية التي يعرفها التاريخ، سواء في المجال العلمي أو الاقتصادي أو السياسي أو غيره. لم يعد الأمر مرتبطا بمجموعة من المبادئ القبلية والمتعالية السابقة على التجربة، بل بالعكس كل ما يتعلمه الإنسان اليوم عن الخير والشر، والقيم والفضائل العليا يتعلمه أساساً انطلاقاً من مجال الفعل، أي من مجال التجربة البشرية ذاتها، وهذا هو ما يزعج الخطاب الأصولي الذي يريد أن يتحصّن بأخلاق فوقية، أخلاق من دون إنسان، غير أن الحداثة ماضية في جموح متواصل نحو المستقبل غير آبهة بمن يريدون البقاء خارجها، وهي متأكدة مع ذلك أن سيلها الجارف لا بد أن يجرّ معه الجميع في نهاية المطاف. يبقى فقط الإشارة إلى إن هناك من يعيش وفقا للضرورة التاريخية، فيعرف كيف يحيي توتر الحقيقة وقلق الوجود، وهناك آخرون يتعلمون (ربما؟) ولكن ببطء بعد أن يكونوا قد ملأوا العالم بالأحزان والمآسي، وهذه هي حال الإنسان العربي الذي اعتاد أن يأتي دائماً متأخراً بالنسبة للحقيقة، وتلك هي محنته.
عن الحداثة
أثارت الحداثة، كمصطلح وكحركة، الجدل منذ أن ظهرت في المجتمع الأوروبي أواخر القرن الخامس عشر، أو بداية القرن السادس عشر.
والحداثة تشمل مجموعة من التغييرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى أخذ تلك التغييرات على أنها عصرية.
ويؤرخ بعض المفكرين بداية الحداثة عام 1436، مع اختراع غوتنبرغ للطابعة المتحركة. البعض الآخر يرى أنها تبدأ في العام 1520 مع الثورة اللوثرية ضد سلطة الكنيسة. مجموعة أخرى تتقدم بها إلى العام 1648 مع نهاية حرب الثلاثين عاماً، ومجموعة خامسة تربط بينها وبين الثورة الفرنسية عام 1789، أو الثورة الأميركية عام 1776، وقلّة من المفكرين يظنون أنها لم تبدأ حتى عام 1895 مع كتاب فرويد «تفسير الأحلام».
وأياً ما كان الأمر، فإنه على الرغم من أن الحداثة تُربط عادة بالتقدم التكنولوجي، فإن التغييرات الفكرية كانت الأكثر تأثيراً، وهي تشمل المجالات الفكرية والسياسة والاقتصاد والدين وعلم الاجتماع. والحداثة كما عرفها كانط هي: «الأنوار: خروج الإنسان من حالة الوصاية التي تسبب فيها بنفسه، وتتمثل في عجزه عن استخدام فكره دون توجيه من غيره (…) ولكن لإشاعة تلك الأنوار لا يشترط شيء آخر سوى الحرية في إبراز مظاهرها كاستخدام العقل علانية من كل زواياه».
عن المستقبل
في ثمانينيات القرن الماضي، حققت الثورة المعلوماتية نقلة هائلة في تاريخ وحياة البشرية، مع تطور الحاسب الآلي (الكومبيوتر)، من جهاز مؤسسي إلى جهاز شخصي، وتوسع نطاق استخداماته.
وقد استطاعت الثورة المعلوماتية، بما أحدثته من تغييرات معرفية وفكرية نوعية، تغيير نظرتنا عن العالم وعن الأشياء، وبالتالي أحدثت تحولات عملية في سلوكياتنا، وأصبح من الثابت أن الممرات والطرق الإلكترونية تكاد تشكل اليوم البنية الأساسية الجوهرية للتغيرات الثقافية التي أسهمت في خلق فعاليات متطورة في توجيه الرأي العام.
وهذا التطور المعلوماتي يحمل بذوراً معرفية إيجابية يمكن أن تسهم في حل الكثير من المشاكل الإنسانية المعقدة، وتسهم في تطور الحالة الإنسانية والتعاونية عند البشر. مع الإقرار بأن قوة الأدوات المعلوماتية تتحقق في قدرتها على التحكم الثقافي بالآخرين باعتبارها المصدر المعلوماتي لتشكلها المعرفي، فعن: طريق التثقيف كوظيفة أساسية لوسائل الإعلام يكتسب الأفراد ويطورون داخليا كل نواحي ثقافتهم.
وبحسب ليوتار في كتابه «شرط ما بعد الحداثة» فإن المعرفة بصفتها سلعة معلوماتية لا غنى عنها للقوة الإنتاجية، أصبحت وستظل من أهم مجالات التنافس العالمي من أجل إحراز القوة، ويبدو من غير المستبعد أن تدخل دول العالم في حرب من أجل السيطرة على المعلومات كما حاربت في الماضي من أجل السيطرة على المستعمرات.
الهوامش:
1 جان فرانسوا ليوتار: الوضع ما بعد الحداثي ترجمة إحسان عباس دار شرقيات 1994.
2 ألفين توفلر: صدمة المستقبل، المتغيرات في عالم الغد. ترجمة محمد علي ناصف، الطبعة الثانية 1990. يؤكد توفلر عالم المستقبليات في كتابه هذا أن الإنسان قد عرف عبر مسار تاريخه بقدرته على التكيّف مع الأوضاع الجديدة التي تعترضه، ولكن مع ذلك لهذا التكيّف حدود ما دام أن هناك أشياء مستقبلية قد لا يتمكن الإنسان من تقبّلها والتكيّف معها، ومن هنا تأتي دلالة عنوان الكتاب «صدمة المستقبل». ويعدد الكاتب العديد من ردود الفعل اتجاه هذه الصدمة بدءاً من القلق والعنف والكآبة (ص 342)، ولكن مع ذلك لم يستطع الكاتب أن يحدس رد الفعل الأعظم الذي عرفه عصرنا اتجاه هذه الصدمة ألا وهو الإرهاب والتطرف الديني.
3 داريوش شايغان: النفس المبتورة، هاجس الغرب في مجتمعاتنا. الطبعة الأولى دار الساقي 1991 ص22.
_________
*الاتحاد الثقافي
مرتبط