العجوز والقهوة

خاص- ثقافات

*حسن لشهب

خاصم الكرى أجفانه ، لم يعد قادرا على النوم إلا لماما تتوالى الليالي على إيقاع    رقاص الساعة… حالات يقظة  تتخللها إغفاءات متقطعة  يقوم متثاقلا شفتاه تخنقان أنين آلام  تمزق جسده.
يساعد رجليه على مغادرة السرير يرتعش جراء برودة الأرض و برودة  جسده الهزيل وكيف له أن يشعر بالدفء بعد أن أصبح جسده مجرد هيكل عظمي يكسوه جلد هش كغلاف.
يجر نفسه إلى غرفة أخرى بكثير من المعاناة…
كل يوم يصبح جسده غريبا أكثر فأكثر ، يرفض  الاستجابة لأوامره وكأنه فقد القوة على ترويضه.
في ذلك اليوم غادرت رفيقة العمر…
يوم لعين لا يستطيع محوه من ذاكرته ولو للحظة يصاحبه الألم والأسى ، يتربص به كما لو أنه صار جزءا منه.
بالمطبخ أعد بصعوبة كوب قهوة ، وفكر ماذا بوسعه أن يفعل وحيدا ، وكيف له أن يتفاعل مع الناس والأشياء بعد غيابها  لم يعد يملك من أمره شيئا عدا ذاكرة مترعة بالوجد والحنين.
حمل كوب القهوة بيدين مرتعشتين بالكاد تمكن من إحاطته بأصابعه المتجمدة.
دقت الساعة الخامسة صباحا ما يزال الظلام جاثما على المكان ، فراغ وصمت وذهن استباح فضاء ذاكرة متخنة بالشجن والذكرى .
منذ فترة غابت …
بشكل غير متوقع ، حدث ذلك فجأة  ذات صباح وجدها جثة هامدة بعد ليلة شديدة البرودة  ومع مرور الأيام  بدأ يشعر بالخوف من فقدان صورتها من ذاكرته ربما قد يجد صعوبة في تذكرها وهي  تضع رأسها على كتفه في الصورة التي يحملها في جيب سترته.
أغفى قليلا وهو هائم في ذكريات السنين، ولما فتح عينيه المتعبتين كانت الساعة تشير إلى الثامنة ..مؤكد أن  الأزقة والشوارع قد اكتظت   الآن بالناس والسيارات .
ارتدى ملابسه وحمل عكازه مستعدا للخروج من أجل شراء بعض الأغراض أشياء قليلة فحسب للبقاء حتى الغد .لا داعي للتفكير والتخطيط لما هو أبعد من ذلك لم يعد أي شيء مضمونا.
ركب الحافلة بصعوبة بالغة
لم يساعده أحد..
وجد نفسه تتقاذفه الأكتاف و الأيادي حتى أنقذته امرأة أجلسته برفق في مقعدها .  تبدو عطوفة وحنونة من خلال حركاتها ونظراتها …
شكرها وعيناه دامعتان وهو يطيل نظره اليها عساه يمتلئ  من مشاعرها الإنسانية.
نزل من الحافلة بصعوبة وسار ببطء تجاه الدكان
بحثا عما يلبي  نداء حاجاته الحيوية ولما اقتنى ما اشتهاه أعطى النقود للفتاة المسؤولة حاول جاهدا الإمساك بما تبقى من فكة… كلما أمسك بإحدى القطع عادت للالتصاق بموضعها كأنها تأبى مغادرته،  … شعر بنظرات الناس مصوبة إلى أصابع يديه ورقبته المكسوة بالتجاعيد.  ولما عجز عن التقاط النقود تخلى عنها  وراءه  وغادر المتجر رغم مناداة الفتاة عليه .
ما بال الناس ينظرون إليه بهذه الطريقة كأنه مصاب بمرض معد.؟ متى كانت الشيخوخة يوما معدية ؟ ولم ينظر اليه الناس بهذا الشكل؟ بعد أن سار في الطريق  قليلا شعر بيد تلمس كتفه، استدار ليجد شابا غريبا يمد إليه النقود…
_ إنها نقودك يا عمي..
تركتها بالمتجر منذ قليل.. شكر الشاب بإيماءة من رأسه وتابع السير …
وبقدر ما صار شعوره بالتعب والوهن يتعاظم مع الأيام ،أصبح يقضي سحابة أيامه جالسا فوق مقعده يناجي صورة من غابت ،منذ فترة يصيخ  السمع لضحكتها و كلماتها و أناتها و لهاثها .
ترتعش صورة  الغائبة أمام ناظره بجانب الأريكة الفارغة فنجان فارغ .. ومن حيث لا يدري تتسرب الدموع لتملأ أخاديد وتجاعيد وجهه.
ما أثقل الصمت ، وما أمر الشعور بعبثية ما يجري وما يحوم به  من أشياء  و ما أشد برودة الزمن والمناخ وشيئا فشيئا صار يحس  بجسده ثقيلا أكثر من المعتاد أطرافه أصابها شلل وجمود وحتى ضربات القلب التي كانت مؤلمة أحيانا غابت في ظلام الكرى الذي غالب أجفانه رغما عنه هذه المرة .

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *