قراءة في المجموعة القصصية “المدينة تحترف الخبل”* لمحمد عزوز
وأنا أتساءل كيف يمكن لي أن أقدم هذا المتن كان لدي توجه أني سأقتصر على قصة معينة قصد مقاربتها، محاولة مني إدراك الكل عن طريق الجزء، لكن مصاحبة هذا المتن جعلتني أعيد النظر في طريقة التعاطي معه لارتباط بعضه بالبعض. فهو كلي يستعصي إدراكه دون ربط أوله بآخره وسابقه بلاحقه، ووفقا لذلك ستتخذ المحاولة القرائية من مجموع القصص متنا واحدا له ميزته وفرادته تكمن أساسا في انفصاله المتصل.
فهذه الورقة محاولة قرائية منطلقة من فرضية أن هذا المتن إنما هو تجربة ما عايشه محمد عزوز وما لاحظه في المجتمع من اختلالات
محاولة تتخذ من المعاناة والحزن باعتبارهما تجربة مدخلا أساسا لكشف حجب هذه التجربة التي ارتبطت بمفهوم أساس هو التفكير أو الوعي، لا تتحصل مساءلة الحزن إلا من خلال هذا الارتباط فالمعاناة تجربة سحيقة الغور تروم بلوغ التخوم باعتبارها مسعى للانعتاق، بوصف هذا الأخير مخاطرة وخلاصا في آن. ذلك ما مكن التجربة من الغوص في دواخل الشخوص وملامستها ابتغاء التعالي عن واقع مر ومجتمع مليء بالاختلالات، يؤدي التفكير فيه إلى حال من الفراغ المهول الذي يعيشه الفرد جراء انسداد الآفاق في ظل الخبل المستشري في المدينة/البلد بوجه عام، خبل ولد هذه المعاناة اللامتناهية التي تسري في دماء شخصيات هذه المجموعة المتسمة بالتوحد في تعددها.
فالقارئ لن يتجشم عناء الاهتداء إلى هذه المعاناة في خطاب القاص فقد جسدها توثر علاقة البطل بذاته الواعية، الدائمة التفكير في أزمتها وفي مجتمعها المليء بالتناقضات، الباعث على الأسى، كما يجسد ذلك هذا المقطع من قصة “الموت على ضفة الفنجان” ( ..وبعدما أمضى هنالك وقتا طويلا لا يفكر أو بالأحرى يفكر في لا شيء لملم أوراقه مثلما وضعها وهم بالانصراف…) ص 22
فالبطل في هذه القصة وهو المكتوي بلظى البطالة في لحظة تفكير، تفكير ناتج عن هذه البطالة الباعثة على الألم، إنه يتأمل واقعه المرير محاولا التعالي عنه إلا أن سلطة هذا الواقع أقوى وبذلك فرغم هروبه فإن ذهنه لا ينقاد إلا إلى الأسى العميم، أسى يتعدى الذات لتكتوي به الأسرة كذلك (….وتوقف مترددا وتساءل إلى أين اذهب ؟ المنزل سأضفي عليه طابع الصمت الرهيب وقد أتسبب في جلب المعاناة لأسرتي إلى مقهى آخر) ص 23
إن العلاقة بين الحزن والوعي/التفكير علاقة جدلية في هذه المجموعة القصصية وعليها تتأسس التجربة الكتابية وهذا ما يوضحه هذا المقطع من قصة “معادلة”(.. لأنه دائما يحرك القطعة النقدية بتذمر بالغ لعن جيبة الفارغ بحقد على حياته لأنه قضاها في التعلم، حاضره الشقي يجعله يفكر كذلك ..) ص43
يشكل التفكير وفق هذا المنحى جسرا نحو هاوية التأزم إلى حد الحقد على الحياة التي أتعبها هذا الإدراك الموجع في تعلم تبين له أنه رمى به في نهاية المطاف إلى هذا الفراغ المهول الذي لا يدفع إلا إلى التدخين والتنقل بين المقاهي، إنه الواقع الذي عبر عنه الراوي في قصة “انطفاء” بأنه “يتطلب جهدا مستمرا للبقاء على قيد الحياة.. حياة على الأقل” ص49 وليس الحياة الكريمة كما تمناها البطل في قصة “وقع في خطأ” بقوله: “الشباب والحب الرومانسية، والفوز بحبي الأول البيت.. والوظيفة والوطن، الثقافة والفكر والأدب….”ص7.
إن اقتران تجربة المعاناة بالتفكير هو ما سوغ اعتمادهما مدخلا قرائيا وقد عبر القاص عن هذا التفكير أحيانا بالعملية الذهنية كما نجد ذلك في قوله”راح يقيس حرارة الفراغ التي في ذهنه عبر جدران المقهى …”. ص 21
فالفراغ وفق هذه التجربة المركبة ناتج عن الحيرة التي تتملك البطل في مدينة/بلد يلفها الفساد من كل جانب، مما يجعل التفكير في التحرر من هذا الواقع أمرا حتميا، حتمية تقترن باستحالة التحقق في ظل غياب ترسخ الوعي لدى العامة التي ما تزال تقاتل بعضها من أجل مباراة كرة قدم بين فريقين أجنبيين كما في قصة “وباء”، وأمام هذه الاستحالة يغدو البطل سابحا في حيرة التأمل المؤلم بين واقع الحال المزري وبين تطلع في وعي يقود إلى الخلاص، خلاص جمعي لا فردي.
وللبينية أهمية بالغة والإمكانات التي تمنحها لعملية التأويل هي الاقرار ببرزخية الموقف فالبطل ليس على ثبات فهو في وضع التطلع المأمول بما هو انتقال من البطالة إلى الشغل على المستوى الفردي./ ومن وضعية الخبل إلى وضعية الإصلاح على مستوى المدينة/ البلد، التي استشرى فيها الفساد إلى درجة الاحتراف وقد عبر القاص عن تناقضات مدينة الخبل في أكثر من موضع مثلا في قصة “أرخص لحم” وكذلك في قصة “لقطات من متاهة مشوهة.”
إن القاص محمد عزوز قد برع إلى حد كبير في رسم خط المجتمع المغربي وفي تبيان تناقضاته العميقة وقد عبر عن ذلك بأسلوب راق جدا وبرمزية لا حد لها تحتاج إلى وقفة متأنية وهنا نستحضر قصة “الكنزوالشعر” التي يؤسس فيها للحل، أي القضاء على الخبل المنتشر في المدينة، إذ لايمكن أن يتأتى ذلك في غياب التعاون والتآزر من أجل تحقيق هذا التغيير المنشود ومحاربة أشكال الخبل المنتشر في المدينة من فساد في القضاء وعدم استقلاليته وغير ذلك من المظاهر الأخرى وعموما يمكن القول إن تجربة الكتابة عند محمد عزوز تجربة عميقة تدفع فيها اللغة إلى بلوغ الحدود والعتبات للاشتغال فنيا في منطقة الإخفاق المجتمعي برؤيا تعري ما يعتري الذات جراء هذا الإخفاق، فوظيفة اللغة في ما كتبه محمد عزوز لا يجعل منها أداة ووسيلة فقط وإنما يحولها إلى سؤال كتابي بما بلغته في البناء وسؤال المعنى المتوشح بهواجس القلق و الأسى.
____________
*المدينة تحترف الخبل، محمد عزوز،منشورات مكتبة سلمى الثقافية،تطوان،الطبعة الأولى 2014