*فخري صالح
إذا كانت القدس هي مدينة الصراع، فهي مدينة السلام أيضاً. تعايشت فيها القوميات والديانات والأعراق والثقافات، واختلط فيها البشر كما لم يفعلوا أبداً في مدينة أخرى في العالم. إنها «مدينة الله»، كما يكتب الروائي الفلسطيني حسن حميد في رواية تتخذ العنوان نفسه. ولعلها، لهذا السبب، ظلت على مدار العصور ساحة للصراع، للحياة التي تتدفق فيها من كل ركن في الكرة الأرضية، وكذلك للدماء التي سالت فيها كما لم تسل في مدينة أخرى في العالم. في هذه المدينة المقدسة، والمنكوبة في الآن نفسه، يدور صراع مرير منذ قرن، لإضفاء هوية واحدة عليها ومحو الهويات الأخرى، هوية يهودية خالصة. وهو الأمر الذي استعصى على الغزاة والفاتحين السابقين، فهي ظلت، على مدار العصور، مدينة تحتك فيها أكتاف القادمين من كل أرض، وتصطدم المناكب، وتختلط الألسنة، وتتمازج الأعراق. لقد ظلت مدينة المقدس والإنساني.
ولاستكمال هذه الغاية دارت الآلة الإعلامية، وكذلك الثقافية الصهيونية، للحديث عن كون القدس بؤرة اهتمام اليهود وعاصمة أرضهم الموعودة، ما جعل الأدباء الإسرائيليين، بعد احتلال فلسطين عام 1948، بتوجيه من الأفكار الصهيونية، يتخذون من القدس أيقونة مركزية في عملهم الإبداعي، في شعرهم ورواياتهم ومسرحهم. هذا ما نعثر عليه في كتابات كتاب يهود وافدين من لغات وثقافات وقوميات مختلفة، وكتاب ما يسمى جيل «الصابرا»، أي الجيل الإسرائيلي المولود في أرض فلسطين؛ في أعمال شموئيل يوسف عغنون وعاموس عوز ويائيل دايان وأ. ب. يهوشواع، وغيرهم.
قبل وبعد
في مقابل هذا الاهتمام الكثيف بالقدس في السرد الإسرائيلي، والصهيوني واليهودي عموماً، لا نعثر على غزارة الإنتاج القصصي والروائي، سواءٌ في الأدب الفلسطيني أو الأدب العربي عموماً. وبغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى قلة عدد الأعمال السردية التي تؤكد حضور القدس في الذاكرة والوجدان العربيين، تكفل كتاب مقدسيون وفلسطينيون من مدن مجاورة، أو منفيون في أصقاع الأرض المختلفة بكتابة سيرهم الذاتية التي تتحدث عن حضور القدس في عيشهم اليومي، قبل الاحتلال وبعده، أو كتابة أعمال روائية تدور حول القدس، في التاريخ أو الحاضر، أو أنها تتخذ منها فضاء مكانياً وزمانياً تدور فيه أحداث رواياتهم. لقد صوَّر خليل السكاكيني، الذي كان يسكن في القسم الغربي من المدينة، في مذكراته «كذا أنا يا دنيا»، شكل العيش في القدس وفلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، كما فعل كتّاب مقدسيون آخرون مثل محمد إسعاف النشاشيبي وإسحق موسى الحسيني، وكذلك إدوارد سعيد في مذكراته «خارج المكان» وفي عدد من المقالات التي استعاد فيها الفترة الزمنية التي قضاها في الجزء الغربي من القدس أثناء طفولته.
واتخذ جبرا إبراهيم جبرا، المولود في بيت لحم، القدس فضاءً لأحداث روايته الأولى «صراخ في ليل طويل»، التي كتبها بالإنكليزية في ثلاثينات القرن الماضي، ثم قام بعد ذلك بترجمتها ونشرها في أعقاب ضياع فلسطين.
لكنّ هذه البذرة الأولى لحضور القدس في الرواية الفلسطينية، وفي أدب جبرا على نحو خاص، تعاود الحضور على نحو شديد السطوع في مذكرات جبرا «البئر الأولى» التي يستعيد فيها طفولته الفقيرة ما بين بيت لحم والقدس، وأيام شبابه الأولى قبل ذهابه للدراسة في جامعة كامبردج أثناء الانتداب البريطاني لفلسطين. الأمر نفسه نعثر عليه في روايات جبرا التالية: «صيادون في شارع ضيق» (التي كتبها بالإنجليزية كذلك وترجمها تلميذه محمد عصفور)، و «السفينة»، و «البحث عن وليد مسعود». وما يفسر الحضور الكثيف للقدس في أعمال جبرا الروائية والقصصية والسيرية، على رغم أنه عاش معظم سنيّ حياته في بغداد بعد النكبة، هو رؤيته للقدس بوصفها أجمل مدن الدنيا، فهي، كما يقول في كتابه «الرحلة الثامنة»، «مدينة تتخالط فيها الثقافات العريقة تخالطاً عجيباً فتغني بتياراتها السيل الحضاري العربي الكبير. هذه معجزة أخرى من معجزات التاريخ في هذا الجزء من العالم تعايشُ المذاهب والألسنة والعادات في ظل الشخصية العربية». ويضيف في المقالة نفسها: أن القدس «ليست مجرد مكان فحسب. إنها الزمان أيضاً. إنها تجسيد قائم لتجربة الإنسان الهائلة مع تاريخ حضارته، منذ أن بدأ التاريخ يتضح على يديه، بإنجازاته وفواجعه».
جوهرة المدن
ولعل هذه الرؤية التي تقيم في قلب عمل جبرا إبراهيم جبرا القصصي والروائي والسيري، للقدس بوصفها جوهرة مدن العالم، وموضع الصراع المرير الذي يدور فيها وحولها، هي ما يوجه أجيالاً متعاقبة من الكتاب الفلسطينيين، ممن يعيشون في القدس أو على أطرافها، أو في المنافي الكثيرة التي توزع الفلسطينيون إليها. وعلى رغم التباين في الأساليب والرؤى الفنية، وتباعد طرق النظر إلى العالم، والولاءات والتصورات السياسية المختلفة بين الكتاب، تظلّ القدس قبلة العالم، مدينة عربية يجري تحويلها وتغيير هويتها على قدم وساق، كل يوم. هكذا هي في أعمال نبيل خوري في «حارة النصارى» مثلاً، ومحمود شقير في «ظل آخر للمدينة» وكذلك في ثنائيته الروائية «فرس العائلة» و «مديح لنساء العائلة»، وفاروق وادي في «منازل القلب»، ورشاد أبو شاور في «العشاق»، ومحود شاهين في «الهجرة إلى الجحيم» وعدد آخر من أعماله الروائية، وسحر خليفة في «الميراث» و «صورة وأيقونة وعهد قديم»، وأحمد حرب في «الجانب الآخر لأرض الميعاد»، وأسعد الأسعد في «ليل البنفسج»، وأحمد رفيق عوض في «مقامات العشاق والتجار». وأضيف إلى هذه الكوكبة من الكتاب الفلسطينيين الكاتب الجزائري واسيني الأعرج في عمله «سوناتا لأشباح القدس»، والروائي العراقي علي بدر في «مصابيح أورشليم» الذي سعى إلى كتابة جدل الصراع الفلسطيني- الصهيوني من خلال رحلة متخيلة لإدوارد سعيد إلى القدس، والكاتب العراقي كنعان مكية في روايته الإشكالية «الصخرة» المكتوبة بالإنكليزية.
ثمة أعمال أخرى لروائيين فلسطينيين، وعدد قليل من العرب، تعبر على القدس عبوراً سريعاً، أو أن القدس تشكل فصلاً من فصولها أو خيطاً سرديّاً فيها. ولكن ما يهمنا تأكيده هو الاهتمام بالقدس كفضاء للعيش وأرض للصراع في الرواية الفلسطينية والعربية.
علماً ان السرد العربي عموماً، في أشكاله وتنويعاته المختلفة، يتسم بالضعف إذا قورن بما كتبه إسرائيليون، ويهود صهاينة، أو كتاب غربيون مشبعون بالرؤية الصهيونية للقدس كأرض موعودة. وإذا قارنا ما ترجم إلى اللغات المختلفة من روايات إسرائيلية مكتوبة عن القدس، وعلى رأس ذلك ما كتبه عاموس عوز، بالروايات الفلسطينية والعربية التي تتخذ من القدس فضاءها المكاني– الزماني، فستميل الكفة لمصلحة الكتابات الإسرائيلية. وهذه كارثة في ضوء الصراع المحتدم على القدس منذ ما يزيد على قرن من الزمان، فالمعارك تخاض أيضاً على جبهات الأدب والثقافة.
مرتبط