*علي حسين
معرفة القراءة، هي أفضل شيء حدث لي في هذه الحياة.
ماريو فارغاس يوسا
كانت فرجينيا وولف تأمل أن تكتب رواية للأطفال شبيهة بما كتبه الفرنسي سانت إكزوبيري في ” الأمير الصغير “، في يومياتها تكتب ” نحتاج الى كتب تجعل القراءة بالنسبة إلينا متعةً، قبل أن تكون سبيلاً الى المعرفة أو مجالاً لتصحيح آراء الأخرين “، وبعد قراءتها لأعمال سانت إكزوبيري تخبر زوجها أن هذا الكاتب الفرنسي له :” موهبة فياضة في رواية القصة التي يكتبها، تلك الموهبة التي أصبحت أندر المواهب وجوداً بين كتاب القصة في العصر الحديث “.
حين كنت في المدرسة المتوسطة أعطاني مدرس اللغة العربية نسخة مصورة من رواية ” الأمير الصغير “، ومثل أي قارئ صغير كنت اعتقد أن هذه هي النسخة الوحيدة من الرواية، في البداية وأنا أقرأ الصفحات الاولى لم أفهم ماذا كان يريد مؤلف القصة، إضافة الى ان هناك الكثير من كتب لم أفهمها في قرائتي الاولى، فقد كنت اقرأ من أجل المتعة فقط، قاطعاً الطريق مع ابطال الروايات عبر الدروب التي يتنقلون فيها، تاركاً نفسي تنساق مع أحداث الرواية.
ظل الآدب يسأل ما هو الإنسان، وجاء نيتشه ليطرح سؤالاً جديداً ماذا يستطيع الانسان؟ وحاول سانت إكزوبيري أن يجمع بين السؤالين ويسأل : ماذا سيصير مصير الانسان؟..فقد سعى إكزوبيري من أول كتاب أصدره بريد الجنوب عام 1926 وحتى كتابه القلعة الذي نشر بعد وفاته عام 1951 مروراً بـأرض البشر والأمير الصغير وطيران الليل، ان لا يتوقف عن تمجيد الإنسان. فالكاتب والميكانيكي والطيار وموظف البريد والهائم في الصحراء، كان في بحثه عن ماهية الإنسان أشبه بصاحب رسالة أخلاقية حاول من خلالها أن يمارس دور المرشد الروحي من خلال كتب لاتزال على قائمة الأعلى مبيعاً في العالم.
تكتب فرجينيا وولف في مقالة بعنوان ” كيف نقرأ كتاباً كما يجب ” : ” من البساطة أن نقول بما أن للكتب تصانيف، فيجب علينا أن ننتقي من كل صنف ما هو مفيد وخليق بأن يمنحنا الجديد. يبقى هناك الذين يسألون عما تعطينا إياه الكتب. غالباً ما نأتي الى الكتب أول مرة ونحن بعقول مقسمة ضبابية، نبحث وقتها عن الرواية التي حدثت في الواقع، وعن الشعر الكاذب، وعن السيرة الذاتية المغرية، وعن كتب التاريخ التي تؤجج كبرياءنا. إذا استطعنا إبعاد كل هذه التصورات المسبقة عندما نقرأ، فإن هذه ستكون بداية مثيرة للإعجاب. لاتُملِ. إذا تراجعت عن ذلك، وأصدرت حكماً مُسبقا في البداية، ستمنع نفسك من الحصول على أي فائدة دسمة مما تقرأه.” – داخل المكتبة ترجمة راضي النماصي-
يمكنني أن أتذكر الأنفعالات التي ولّدتها اول الكتب في نفسي، هكذا كتبت فرجينيا وولف في رسالة عام 1918 وجهتها الى قارئة تسألها عن أهمية الكتب في حياة الانسان..اعتادت وولف أن تقرأ في الصالة الخضراء في منزلها الذي اشترته منزل بسيط في إحدى القرى مشيد بالحجر وسط حديقة كبيرة، حيث كان هذا البيت بالنسبة لها ملجأ للهدوء والطمأنينة :” هذا البيت عبارة عن مركب يحملني فوق أمواج القراءة والكتابة المقلقة والمخدرة في آن واحد “.
وفي غمار الحرب إنزوت الكاتبة الانكليزية الشهيرة في ركن من الصالة لتعيد قراءة شكسبير ولتتعرف على أهواء النفس البشرية وهي تواجه الدمار وآلة القتل :” شكسبير يزودنا برؤية واضحة ومخيفة عن الطبيعة البشرية ومصير الإنسان “.
أتذكر أنني قرأت رواية فرجينيا وولف “السيدة دالاواي” في ترجمتها العربية التي قام بها عطا عبد الوهاب في منتصف الثمانينيات، وما زلت أتذكر كيف أنني شعرت بالملل، وأعترف أنني فشلت منذ الصفحات الاولى في التعرف على اسرار هذه الرواية، وفشلت محاولاتي للظهور بأنني قارئ جيد، أمام تلك السيدة التي تريد أن تشعرنا أن للساعات في حياتنا أهمية كبيرة علينا أن نعرف جيدا كيف نقتنص لحظات الفهم والمعرفة فيها. كنت قارئاً كسولاً أو بتعبير أدق قارئاً عادياً مثلما تصفناً فرجينيا وولف في كتابها الممتع “القارئ العادي “، هذا القارئ الذي دائماً ما يبحث عن الأشياء السهلة التي تقدم له بعضاً من المعلومات الضعيفة والبعيدة عن الدقّة. صادفتني السيدة دالاواي وأنا لا أملك خبرة في قراءة الرواية الحديثة. قبلها كنت جربت مع “يوليسيس” جيميس جويس بترجمة الدكتور طه محمود طه. وقد فشلت فشلاً ذريعاً في حل ألغاز الرواية، وعرفت فيما بعد أنني لم أكن الوحيد الذي ناله التعب فقد سألت الكثير من الأصدقاء : هل قرأتم رواية (يوليسيس)؟ كان البعض منهم يضحك وآخرون يقولون : لم يقرأها سوى القليل، ومررت بالتجربة نفسها وأنا أصارع انفعالات ناتالي ساروت في ترجمة فتحي العشري.واكتشفت بعد سنوات أن ساروت وقبلها فرجينيا وولف وقبلهما المعلم جيميس جويس، تخلوا بإرادتهم عن السرد التقليدي وألغوا الشخصية والعقدة والتسلسل الزمني مثلما تعودنا عليه في روايات القرن التاسع عشر، واعتمدوا بديلاً عن ذلك التكرار والملاحظة الدقيقة للأشياء الصغيرة والأحداث اليومية، وسعوا جميعا الى تغييب التسلسل الدرامي للاحداث. هكذا غيّرتني السيدة وولف لأصبح قارئاً يحمل شيئاً من النباهة، كما يقولون..العجيب إن فرجينيا وولف كان لها رأي آخر في جيميس جويس حيث وصفت روايته يوليسيس بانها “كتاب أمي، هجين، كتبه رجل مُحزِن، أناني، لجوج، فظ، ومثير للغثيان”.. وفي سيرتها الذاتية التي كتبها ابن اختها كوينتين بيل يخبرنا أن رواية يوليسيس أثارت حفيظة فرجينيا وولف، وحركت فيها نزعة الخوف والحسد والإعجاب في نفس الوقت، فقد كانت تعتقد ان للرواية جوانبها الجمالية، لكنها لاتخلو من الخشونة والسوقيّة، لقد خيل إليها أن كاتباً آخر قد انتزع قلمها من يدها ليحط في جرأة متناهية ما عجزت هي عن التعبير عنه.
************
حين ولدت فرجينيا وولف في الخامس من كانون الثاني 1882، لعائلة ارستقراطية تعيش في ضواحي لندن، ظن الجميع إنها لن تعيش طويلاً فقد كانت ضعيفة البنية، كادت تموت تحت نظر والديها، سترافقها الأمراض طيلة حياتها وتلزمها باتخاذ احتياطات طبية صارمة. هذا المرض تحول مع مرور الزمن الى فرصة لأن تنسحب الى عالمها الداخلي وتتفرغ لكتبها وأوراقها، في التاسعة من عمرها كتبت قصصاً قصيرة، كتمت منذ الصغر حباً محرماً لوالدها، توفيت والدتها وهي في الثالثة عشرة، فأصيبت بنوبات من الهيستريا، كانت تخاف الظلام. توفي والدها بعد عامين آخرين فأصيبت بانهيار عقلي، حاولت الانتحار أكثرمن مرة، اعتقد المقربون منها إن زواجها يمكن أن يداوي آلام غياب الأب، تعرفت الى زوجها ليونارد عن طريق أصدقاء مشتركين. عندما طلب الزواج منها استاءت وكتبت إليه رسالة حادة ينقلها لنا “كوينتين بيل” في سيرة حياتها : “أشعر بالغضب من طلبك، تبدو أجنبياً للغاية، وأنا مضطربة الى درجة تثير الخوف. كما قلت لك بقسوة.، لا أشعر بأي انجذاب جسدي نحوك. مع ذلك يغمرني اهتمامك بي”. ونجدها في نفس اليوميات تعترف إنها لم تشعر أبداً بمتعة جسدية مع زوجها، رغم حبها الشديد له.
حار الأطباء في معرفة نوع مرضها وأسبابه، وعزاه عالم النفس جاك لاكان الى الحساسية المفرطة التي لازمتها طوال حياتها والى الخوف من الجنس بعد أن تعرضت للتحرش الجنسي وهي في سنّ السادسة.
في رواية السيدة دالاواي التي أعدت قراءتها من جديد بعد سنوات نجد أنفسنا أمام سيدة تتهيأ للاحتفال بعيد ميلادها، وهو حادث مهم تضطر السيدة دالاواي لان تغرق بسببه في الذكريات التي تزدحم بالأحاسيس والانطباعات والأسرار، ومن خلال “المنولوج” الداخلي نعرف كل شيء عن حقيقة هذه السيدة، ورغم أن الرواية تعرض لنا ثلاثة أزمنة من حياة دالواي، إلا أن أحداثها تدور في يوم واحد هو يوم عيد ميلادها، لكنها تستغرق أيضاً مساحة أخرى عريضة في حياة صاحبتها، مضافاً إليها مساحات زمنية اخرى تمثل علاقتها بالاخرين، وتستخدم وولف حيلة فنية وهي الاستعانة بساعة ” بيك بن ” الشهيرة التي لاتكف عقاربها عن الدوران بشكل منتظم، بينما الزمن الخاص الذي تنتمي إليه السيدة دالاواي ينبسط وينقبض، يتأخر ويتقدم وكأنه شريط سينمائي حافل باللقطات القريبة والبعيدة والمتوسطة، يتأرجح ما بين الماضي والحاضر، ونرى فرجينيا وولف تأخذ دور المونتير في السينما، فهي تلتقط اللقطات التي تسجلها العدسة ثم تحاول إعادة ترتيبها وتوليفها، لتستقر في النهاية على نسخة العرض النهائية من الفيلم – الرواية، وهكذا نجد أنفسنا أمام روائية تحاول أن تضع الزمن الخارجي جنباً الى جنب مع الزمن الداخلي، فنلاحظ أن السلوك العام لكل من ” كلاريسا دالاواي ” و” بيتر والش ” و” سبييموس سميث ” إنما محكوم بالزمن المادي، بينما يسيطر الزمن الداخلي – في نفس الوقت – على كل ما يجري في أذهانهم من صور وذكريات واوهام.
في العام 1927 تنتهي فرجينيا وولف من كتابة روايتها “اورلندو” – صدرت عن دار المدى بترجمة توفيق الأسدي – وتهديها الى إحدى صديقاتها التي جعلتها شخصية متحوّلة تبدأ حياتها فتىً، وتنتهي امرأة. أسرت بكتابتها جيلاً من الكتّاب الذين اعتبروها “منارة الرواية الحديثة “، تناولت في”الأمواج” ست شخصيات تروي حياتها من الطفولة الى الشيخوخة.، يخبرنا ابن شقيقتها، بأن كل رواية كتبتها كانت تثير عندها صداعاً مزمناً وتهيجاً عصبياً وفقداناً للشهية حتى عدّها الاطباء مجنونة، لكنها تغلبت على حالات الكآبة ومضت تعالج نفسها بالانصراف الى الكتابة، ويضيف كوينتين بيل: أن لحظات الاكتئاب كانت تعقبها لحظات الإبداع، وأن بوسع فرجينيا أن تنتفع من أمراضها”.
كتبت ثلاث رسائل وداع، قالت في واحدة منهن :”إنني أجنُّ ثانية، وأشعر أنني لا أستطيع مواجهة وقتٍ صعب آخر. لن أشفى هذه المرة. بدأت أسمع أصواتاً ولا استطيع التركيز، لذا سأقوم بما يبدو أفضل ما يمكن فعله… لا أستطيع إفساد حيوات القريبين مني أكثر مما فعلت”. رأى زوجها الرسائل الثلاث وركض الى النهر. كان الحذاء الذي ارتدته يعوم، تمنت بطلة رواية ” اورلندو ” ألا يجدوا جثتها، لكن جثة كاتبة بريطانيا الشهيرة وجدها الأطفال تطفو قرب الجسر، دُفنت في حديقة منزلها ومثلما طلبت في وصيتها بالعبارة الأخيرة من روايتها الأمواج : “عليك ألقي نفسي بلا هزيمة أو استسلام يا موت”.
************
أنا أقرأ لكي أبحث عما يلمع..فأنت تقرأ في النص من أجل شيء يضيء أمامك
هارولد بلوم
كتب سانت اكزوبيري الأمير الصغير أثناء اقامته في نيويورك بناء على طلب أحد الناشرين الذي أراد أن ينشر قصة للاطفال ويعرضها في واجهات المكتبات في أعياد الميلاد. كان يجلس في أحد المطاعم عندما رسم صورة لصبي صغير على غطاء المطعم، فاقترح عليه الناشر أن يجعل من صاحب الصورة بطلاً لرواية تكتب للصغار، ورغم أن الرواية كتبت خصيصاً للاطفال، إلا أن معظم النقاد والباحثين في الأدب يعتبرونها رواية لكل الأجيال لما فيها من الافكار العميقة التي تجعلها أشبه بنص فلسفي يقدم فيه مؤلفه أفكاره عن الحياة، لتضاف الى سلسلة من الكتب اتخذت من الحكايات البسيطة موضوعاً لها تقدم من خلال رؤى وأفكار ظلت راسخة في الأذهان مثل “أليس في بلاد العجائب” و”روبنسون كروزو” و”حكايات الأخوين غريم”
كانت الأمير الصغير آخر ما كتبه الفرنسي سانت اكزوبيري المولود عام 1900، والذي ظل طوال عمره لايريد أن يغادر عالم الطفولة : ” من أين أنا، أنا من طفولتي.” كان زملاؤه في المدرسة يسخرون منه بسبب أحلامه غير الواقعية، عمل طياراً لكنه ظل يعشق الكتابة فنشر عام 1929 أول رواياته بريد الجنوب، بعدها بعامين تنشر له دار غاليمار روايته الثانية ” طيران الليل ” التي حققت نجاحاً كبيراً، بعدها يقدم ” أرض البشر ” وكانت آخر اعماله التي نشرت بعد اختفائه كتاب ” القلعة ” وهو أشبه باليوميات
تعرض سانت إكزوبيري للموت مرتين، الأولى في صحراء ليبيا والثانية في غواتيمالا، واعطته هذه التجارب إحساساً صوفياً بدور الانسان وهو يواجه الخطر، فبالنسبة لإكزوبيري فإن لحظة الميلاد بسيطة ولحظة الكبر بسيطة ولحظة الموت بسيطة مادامت جميع هذه المراحل تصل بالانسان الى نسيج يعمق الأخوّة البشرية. في نهاية روايته ” أرض البشر ” يلتقي بطل الرواية الذي هو الكاتب نفسه في إحدى محطات القطار بعمال بولنديين يتم ترحيلهم من فرنسا الى بولندا ويرى بين هذه الاكوام البشرية البائسة طفلاً كأنه فاكهة مذهّبة مثلما يصفه : ” هذا وجه موسيقي، هذا موزار الطفل، هذه هدية جميلة من الحياة. وان الأمراء الصغار الذين كنا نسمع عنهم في الأساطير لا يختلفون عنه في شيء. فماذا يصبح هذا الطفل لو وجد الرعاية والتثقيف؟ ما يعذبني هو موزار الصريع في كل فرد من هؤلاء الناس.وليس هناك إلا الأرواح التي لو هَبت على الصلصال لاستطاعت أن تخلق الإنسان ”
كتب إكزوبيري رواية أرض البشر عام 1939 وبعد أربعة أعوام يكتب الأمير الصغير التي يتناول فيها نقاء الطفولة.. لم يتوقع أن يحقق هذا الكتاب الصغير كل هذا النجاح. فقد كان كل ما يأمله أن يعبر عن بعض الأفكار التي راودته ذات يوم حين تعطلت طائراته في صحراء خالية، في تلك اللحظة التي سيطر عليه الخوف والقلق وهو يحاول أن يصلح عطب الطائرة. يسمع فجأة وسط صمت الصحراء صوتاً طفولياً يقول له : من فضلك أرسم لي خروفاً.. يلتفت في خوف وحذر ليجد أمامه طفلاً له هيئة غريبة ولكن ساحرة. يدور الحوار بين الطيار والطفل الذي يلح عليه أن يرسم له خروفاً فيما الطيار يريد أن يعرف كيف جاء الطفل الى هذه الصحراء.
لقد كان سؤال ماذا نفعل هنا مفتاح رواية الأمير الصغير التي حاول اكزوبيري من خلالها أن يقدم لنا حكاية أشبه بالحلم يرويها طفل صغير
نتعرف من خلاله على القيم الإنسانية التي يجب علينا أن نشيعها على كوكب الأرض. يحاول اكزوبيري في الأمير الصغير أن يلخص
تجربته الحياتية، حيث نراه، في نص يبدو للوهلة الأولى كأنه كتب للصغار، يطرح أسئلة وجودية عميقة وجوهرية، كانت هي الأسئلة السائدة في تلك المرحلة من القرن العشرين، أسئلة إلتفت فيها الفرد إلى داخل ذاته ولا سيما في ضوء الحوادث العاصفة الدامية التي كانت تشهدها تلك السنوات الغريبة من تاريخ القرن العشرين.
الامير الصغير الي يسقط من كوكب صغير يعيش فيه وحيدا، كانت في هذا الكوكب ثلاثة براكين يستخدم اثنين منها في الطبخ، بينما الثالث خامد، وعمله اليومي الذي يقوم به هو تنظيف الكوكب من الاعشاب الضارة. من هنا يكشف الطيلر سر طلب الامير رسم الخروف حتى يخلصه من هذه الاعشاب.
ينشغل الطيار في اصلاح طائرته وهو يجيب على اسئلة الامير الصغير بمنطق الكبار، لكننا امام طفل لايعرف مثل هذا المنطق فنراه ينفجر في وجه الطيارقائلا قد عرف ذات يوم رجلا يقوم بجمع الارقام دائما ويردد ( أنا رجل جاد. أنا رجل جاد ) ولكنه لم يعرف في حياته كيف يتأمل نجما، أويستنشق عبير وردة، أو يحب إنساناً
ويعرف الطيار ان عالم الامير الصغير به وردة هي كل همه الحقيقي، لقد اعجب بها ذات يوم فأجابت بغرور :” أنا فعلا جميلة فقد ولدت مع الشمس ” وفي يوم تطلب منه ان يحميها من النمور وهي تعلم انه لاتوجد نمور في الكوكب، ويحتار الامير الصغير امام مطالبها فيقرر الرحيل عن كوكبه، ويخبر الطيار قائلا :” أنني لا أفهم شيئاً على الاطلاق، كان يجب عليَّ ان احكم عليها بناء على الافعال لا ألاقوال.كانت تعطرني وتنير لي، فما كان يجدر بي أن أدرك حنانها وراء خدعها الواهية، فالوردة متناقضة على هذا النحو، ولكني كنت صغيراً جداً حتى اعرف كيف احبها “.
وتدخل الشخصيتان اللتان تنتميان إلى عالمين مختلفين وجيلين متناقضين في مناقشات تتراوح موضوعاتها بين العادي والوجودي. وببراءة الطفل، يخترق الأمير الصغير عمق الذات الإنسانية عبر لغة شفافة يمتزج فيها الواقع بالخيال والحلم بالحقيقة. كلمات الطفل، تبدو أكبر حجماً حتى من الطيار فهو يكشف عن حقائق وأفكار طفولية يراها أهمّ من مشاكل الكبار اليومية، حتى لكأنه يسخر من سذاجة الراشدين الذين يظنون أنّهم الأعلم في كلّ شيء. ولعلّ القصة حصدت ما حصدته من نجاح طوال تلك المدّة حيث ترجمت الى مئات اللغات وبيعت منها اكثر من 150 مليون نسخة، لأنّها نجحت في أن توجد عالماً صادقاً يُعبّر عن أسئلته الكونية الكبرى بأسلوب طريف يدخل قلب القارئ قبل عقله. وبرع سانت إكزوبيري في أن يجعل قارئه، صغيراً كان أم كبيراً، مدهوشاً مرّة تلو الأخرى أمام بساطة هذه الأحداث وعمقها.
يترك لنا سانت إكزوبيري آخر صفحة من روايته خالية تماما، إلا من نجم معلق في السماء، ويقول لنا اذا قمتم بسياحة في الصحراء ـ أرجوكم الا تتعجلوا وانتطروا تحت هذا النجم، فإذا ظهر امير صغير لاتتركوني في كأبتي.. اكتبو لي إنه عاد.
في إحدى رحلاته الجويّة الاستطلاعية عام 1944، يقلع سانت إكزوبيري في منتصف الساعة الثامنة صباحا من يوم 31 تموز، لكنه حتى منتصف النهار لم يكن قد عاد، وتمضي الساعات وطائرته لاتلمح في الاجواء وبناء على شهادة القس هرمان كروت فان طائرته قد اسقطتها الطائرات الالمانية في البحر، ليتذكر العالم مقولته الشهيرة التي كتبها في روايته طيران الليل: “الغرق في وسط المحيط أهون من الغرق في هذه الصحراء”.
يكتب اندريه جيد عن الوجه النبيل لسانت إكزوبيري:” حيث الرجولة لم تمسح بل زادت في لطافة ملامحه الطفولية المشرقة ” هذه الملامح التي حولت الطيار الشهير الى امير صغير يلوح لنا وهو وهو صاعد ألى السماء :” وعندما سأطير على جهازي الجديد، ستصيح الجماهير : ليحيا انطوان دي سانت إكزوبيري.
_________
*المدى