مرّ شاعرٌ عابرٌ بشوارع وعمائر مدينة عربية ساحلية شهدت فصولاً من حرب أهلية طاحنة لمدة تزيد على خمسة عشر عاماً، ثم جاء من يزيح أنقاضها ويقيم على أرضها أحياء جديدة، وجاء من يمتدح هذا الجهد المعماري. وحده الشاعر العابر لاحظ ما فات البناة والمداحين، فكتب بضعة سطور شعرية ملخصها أن المدينة، ويعني مدينة الأمس، غادرت ولم تترك سوى أسمائها، ومن العبث البحث عنها في الشوارع والعمائر الماثلة، الجديدة واللامعة بالطبع.
لم يذكر الشاعر اسم المدينة العربية، وأظن أنه لم يكن بحاجة إلى ذكره، لأن ما لاحظه يتجاوز اسم هذه المدينة، أوتلك، بعد أن تكاثرت المدن العربية التي تغادر ولا تترك سوى أسمائها، مهما اجتهد البناؤن في التفنن، ووضع لافتات تحمل أسماءها القديمة على ملامحها الجديدة، هذا إن اجتهدوا وتفننوا.
المدن استمرارية بصرية وثقافية وأخلاقية، وملامح تعالق أصلية حية لتنبض بمجرد وضع اللافتات، وهي قبل كل شيء ما يتذكره الناس ليواصلوا حياتهم. ولهذا ليس من المدهش أن أقرأ مثلاً لكاتب مقدوني أن والده كانت الذكريات وسيلته لمواصلة العيش، بحيث شاهده يتوقف كلما مرّ أمام فضاء خال كانت تمثل فيه بناية ما ذات يوم قبل أن تختفي. إنه يتذكر ليحيا. بهذا التعبير يمكن اختصار مآسي المدن التي اختفت وحلت محلها مدن لا تحمل سوى أسمائها القديمة.
ما غاب وراء مظاهر الأحياء الجديدة قد يكون حكايات مثلتها زاوية، أو عطفة، أو صخرة على شاطئ البحر، وقد يكون عبقاً تشيعه في الجو عادة الأسواق التقليدية الموروثة، عبقاً لم يعد موجوداً، أو من المحال إشاعته بعد أن غابت العناصر والعلاقات التي تضافرت على إشاعته. وقد يكون الغائب ما ارتبط بحدث، أو أحداث كأن تكون لقاءات، ومهرجانات وأعراس، ولا تعوض الأسماء عن غياب من هذا النوع.
المعني بكل هذا غياب مدينة وأناسها، أو انقطاع وجودين هما المدينة وأناسها. الأول بالتدمير والثاني بالتشريد. في الماضي لم يكن ثمة انقطاع وقطيعة، فمع غياب وجوه وحضور أخرى حتى إن لم تتشابه الوجوه، كأنما يتوالى حضورها في ساحة أو على خشبة مسرح، يبقى المكان بمكوناته؛ شوارع، وأزقة، وأسواقاً، وعمائر، ونوافذ، وشرفات، شاهداً على استمرارية من نوع ما، تجسيداً، أو مجسداً لوجود ملموس يُركن إليه ويُؤتمن. الأسماء ليست كذلك بالطبع، فهي غير قابلة للسكن، لا تمتلك أقداماً تسعى بها، ولا ظلاً يركن إليه؛ هي مجردات، والإنسان شأنه شأن مدينته ليس تجريداً.
حين تتهدم المدن، أو يتم تدميرها، وحين يتشرد سكانها، أو يتفرقون لأي سبب من أسباب الجوائح، يقال ليس هناك أسهل من إعادة بناء الحجر وزراعة الحجر؛ سنعيد البناء الجميل، بل وسيكون أجمل مما كان. ويعد آخرون بإعادة من تشتت وتفرق من سكانها. ويقال كل هذا وملامح وجوه القائلين خالية من أي تعبير يوحي بعِظم، أو معنى الخسائر، فأتأكد من صدق حدس الشاعر العابر، وأرى أن ما عناه بالمدينة التي لم تترك سوى أسمائها أعمق مما تصورت للوهلة الأولى؛ ليس حضور المدينة فقط هو ما غادر تاركاً أسماءه، بل وغادرها الحضور الإنساني الذي لا يلتفت إليه عادة حين يجري الحديث عن إعادة بناء ما تهدم، من دون أن يترك حتى أسماءه.
المدن ليست حجارة يمكن تعويضها من أي مقلع حجارة، بل هي علاقات قبل كل شيء، والعلاقات هي التي تجمع بين الناس ومدينتهم. يتذكر صديق كاتب أنه غاب عن مدينة درس وعاش فيها عدداً من السنين، ولم يبارحه الحنين والشوق إليها وأمنية العودة، وعاد ذات يوم بالفعل إلا أنه لم يطق البقاء فيها يوماً واحداً. وقال في تعليل ضيقه ومسارعته إلى مغادرتها أنه لم يشعر بالألفة في الأماكن التي ألفها سابقاً، وكان شعوره بالغربة أعمق مما تخيل. لماذا؟ لأن المدينة التي عاشت في خياله واشتاق إليها لم تعد موجودة حين عاد إليها ماثلة على وجه الحقيقة؛ تلك المدينة الغائبة كانت جملة علاقات بينه وبين من عرف فيها من الناس، وبينه وبين شوارعها ومبانيها، ولم تكن علاقات من طرف واحد. حين عاد بعد غياب لم يجد الناس الذين عرفهم، ولم يجد في الأمكنة تعويضاً عن تلك الألفة المفقودة.
الكاتب الإيطالي «إيتالو كالفينو»، أشهر من تناول صوراً للمدن، متخيلة وواقعية، رسم في كتابه الروائي المبتكر «مدن غير مرئية»، صورة مدينة من تلك المدن من عناصر عدة؛ أولاً من بشر تحركوا هنا وهناك، تسلق بعضهم شرفة، وأطلق بعضهم الرصاص من سفينة، وعُثر على آخر طفلاً على الشاطئ.. إلخ، وثانياً من المسافات الفاصلة بين شارع وشرفة، وبين مزراب وحافة نافذة قطعها قط قفزاً، وثالثاً من ذكريات وقصص الصيادين المتداولة وهم يصلحون شباك صيدهم على رمال الشاطئ. لم يقل كالفينو ما الذي يغيب ويحضر إن غادرت مدينته هذه، المدينة الحاضرة مثل منمنمات نسيج في أذهان من يتداولون القصص، ولكن من المؤكد، كما أظن، أن غياب كل هذه العلائق المترابطة سيعني اختفاء المدينة، ولن يعيدها إلى الوجود بناة جدد، ولن يرسخها امتداح ما فعلوا، وتعليق أسماء الشوارع والمنعطفات القديمة على الأشكال الجديدة.
في إحدى قصص كالفينو في كتابه نفسه عن المدن غير المرئية، يُعاد بناء مدينة أصابها الخراب، وتخليداً أو تمجيداً لنمطها المندثر، تستخدم مواد متخلفة من مدينة الماضي؛ تيجان أعمدة ومواقد وأحوض استحمام ومرايا وستائر وأسرة نوم.. وما إلى ذلك. ولكن سمة هذه الاستعادة البارزة هي أن هذه المواد لا توضع في الاستخدام كما في الماضي. ولأن الناس لم يعودوا يعرفون معنى تاج العمود، وجده كالفينو ملقى في مزرعة تربية دواجن، وتحولت أصص الأزهار إلى أوعية تفريخ الصيصان، أما ستائر نوافذ القصور الفاخرة فاستعملت لسدّ ثقوب الجدران.. وهكذا ولدت مدينة مشوهة بسبب تغييرها لوظائف أدوات وآثار سلفها المدينة المتحضرة كما يبدو، أي بسبب أنها لم تفهم ماضيها فهماً سليماً، فولدت كأنما من العدم بلا ذاكرة. ولنا أن نتخيل مثلاً، ماذا يعنى أن تستخدم المدينة الجديدة قوس نصر تذكارياً بوابة لحضيرة أغنام وأبقار، أو تستخدم كتب مكتبة ومخطوطاتها وقوداً في مطابخها لطهي الطعام، وهكذا.
بالعودة إلى الشاعر العابر، صاحب ملحوظة المدينة الساحلية غير المرئية التي لا تغني عنها أسماؤها، نجد أن الوجه الأول الذي لاحظه تناول مدينة الماضي كما هو واضح، إلا أنه أوحى بما قلناه عن مدينة الحاضر، ومن هذه امتد الخيال إلى مدينة المستقبل؛ مدينة تم تدميرها فوضعت موروثها في غير موضعه، فلا هي استنسخت ماضيها، ولا هي أبدعت مستقبلها.