الوساطة الثقافية

*سعيد يقطين

مصطلح «المثقف» من المصطلحات الحديثة في الثقافة الغربية، وكان يتصل بمن يشتغل بالعمل الفكري تمييزا له عن العمل اليدوي. وحين نقول الفكر في القرن التاسع عشر، نعني به كل ما يتصل بالمعرفة المنشدة إلى العقل والعلم. ومع الدعوة إلى تغيير بنيات المجتمع الغربي، ارتبط مفهوم المثقف بالثورة، تارة، وبالعضوية، تارة أخرى، وانتهاء بالالتزام بالقضايا الكبرى التي تسهم في تحول الذهنيات والواقع.
كان العرب في القديم يتحدثون عن الفقيه، والعالم، والحافظ، والمؤرخ، والشاعر.. وكان كل هؤلاء لصلتهم بالثقافة العالمة، يندرجون في نطاق «الخاصة»، مقابل العامة. ولم يتبلور مفهوم المثقف بالمعنى المتداول حاليا في العربية إلا في الستينيات من القرن الماضي، تحت تأثير سيادة التفكير في التغيير الجذري للمجتمع العربي، تماهيا مع المفهوم الذي ساد في أوروبا. فصار التمييز بين المثقفين يتأسس على طبيعة العمل، من أجل نشر قيم التقدم مقابل الرجعية التي تدعو إلى الحفاظ على الوضع القائم، أو الرجوع إلى الماضي.
ميز عبد الله العروي في كتابه «أزمة المثقفين العرب» بين السلفي الذي ينطلق من الثقافة ممثلة في العقيدة (الدين)، والليبرالي الذي يتأسس تصوره على الأمة، أو القومية (القطرية)، والثوري الذي ينهض على ركيزة الطبقة. إذا سلمنا بهذا التمييز لا يمكننا سوى التساؤل: من هو المثقف العربي؟ هل المثقف هو صاحب المواقف من الواقع؟ أم من يمتلك رؤية ثقافية للتحول الاجتماعي؟ أم هو من يمارس ثقافته، ووعيه من أجل التغيير؟ وما هي المرجعية المعتمدة لديه؟ هل تغير مفهوم المثقف العربي الذي ظهر في بداية الاحتكاك مع الثقافة الغربية أو بداية القرن العشرين مع ظهور الطباعة؟ أم هو الذي برز بعد هزيمة 1967؟ بعد تطور الوسائط الجماهيرية؟ وماذا يمكننا القول عن المثقف بعد انتشار الوسائط المتفاعلة؟
ما يزال لمصطلح المثقف رنينا في الكتابات العربية حتى وقتنا الحالي، مع تسجيل تراجع في ذلك. لكننا إلى جانب هذا بتنا نتحدث عن: الفاعل الثقافي والناشط الجمعوي، ويقدم بعضهم باعتباره محللا سياسيا، أو خبيرا اقتصاديا، أو متخصصا في الحركات الدينية. وفي المجال الأدبي يتم الحديث عن الكاتب والناقد والروائي. فهل هذه التسميات دالة على التمييز بين ممارسات ثقافية جديدة، أو بين تخصصات باتت أكثر دقة في وسم العمل الثقافي؟ فما هو العمل الثقافي الذي يقوم به هذا الفاعل أو الناشط؟ هل هو الذي يقف في المظاهرات؟ أم الذي يشتغل في الجمعيات؟ أم الذي يكتب المقالات؟ لا يمكننا سوى طرح مثل هذا النوع من الأسئلة، بعد أن ظهر في بداية الألفية الجديدة، مفهوم «الوسيط الثقافي»، والوساطة الثقافية في الأدبيات الأجنبية تحت تأثير سياقات جديدة للعمل الثقافي؟
إذا انطلقنا من مفهوم «الوساطة الثقافية» لمحاولة تشخيص واقع العمل الثقافي العربي والقائمين به نتساءل ما هو الدور الوساطي الذي كان ينطلق منه المثقف العربي، أو يمارسه من يسمى حاليا الناشط الجمعوي، وهو يشتغل في وظيفته في المجتمع، في ضوء التمييز الذي نجده عند عبد الله العروي؟ إذا تأملنا جيدا وظيفة هذا المثقف نجدها تتلخص بصورة أساسية في عملية الكتابة عن المجتمع وقضاياه السياسية والاجتماعية والفكرية، بغض الطرف عن التخصص الذي يكتب فيه. وبذلك كان التمييز بين الكاتب وغيره، ممن لا يكتبون، وإن كانوا منخرطين في عملية التحول الاجتماعي، على اعتبار كون «الكتابة» هي الوسيط الأساس للتواصل مع المتلقين الذين يفترض فيهم أن يكونوا مثقفي المستقبل.
مع زوال مفهوم الطبقة الذي كان مركز التفكير لدى المثقفين منذ أواسط القرن الماضي وحتى الثمانينيات منه، ما هو المفهوم المركزي الذي حل محل الطبقة لدى هؤلاء المثقفين أو الناشطين أو الفاعلين الثقافيين، أو المختصين أو الخبراء؟ ما نشهده حاليا هو العودة مجددا إلى ترهين مفاهيم قديمة تتصل بالعقيدة، والأمة، أو القطر، من جهة، ومن جهة أخرى بدأت تبرز مفاهيم جديدة تتصل بالطائفة والعرق (اللغة)، هذا بطبيعة الحال إلى جانب مفاهيم تتصل بالديمقراطية والحداثة، من جهة ثالثة؟ وإذا كنا في السبعينيات نميز بين المثقف بحسب الوظيفة التي يرمي إلى تحقيقها فنقول عن أحدهما بأنه تقدمي، وآخر رجعي، ما هو التمييز الذي يقام الآن بين هؤلاء الفاعلين الثقافيين مهما كان التسميات التي تعطى لهم؟
يقودنا هذا التشخيص إلى تأكيد أن العمل الثقافي الذي كان يتخذ بعدا شموليا وكليا في تحديد مقوماته في التفكير والممارسة، بات أكثر ميلا إلى التخصيص، وأن الوساطة الثقافية باتت أكثر تجزيئا وهي تركز على قضايا خاصة تهم فئات اجتماعية محددة، وبذلك غاب المشروع الثقافي والحضاري العام الذي كان يلم مختلف الفاعلين الثقافيين، ويوحد رؤيتهم إلى عملية التغيير. في ضوء هذا التشخيص يمكننا الجواب عن السؤال: لماذا لم يكن المثقفون في طليعة أحداث الربيع العربي؟ ولم يساهموا في توجيهه بعد وقوعه نحو الغايات الكبرى التي تهم تطلعات المجتمع.
تركزت الوساطة الثقافية العربية على «السلطة»، وأغفلت «المجتمع»، فكانت أزمة الثقافة.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *