أحلام فارس

خاص- ثقافات

*حسن لشهب

أدار عينيه في كل اتجاه ناظرا   لما حواليه دون كبير اهتمام باحثا عما  يسترعي البصر . لم يثر انتباهه شيء عدا جمع من الأطفال يجرون وراء الكرة وصياحهم البهيج  الذي يبث  في الآفاق بعض  الحيوية و  البهاء …
تذكر أيام الصبا والمعارك مع الأقران ..كانت لحظات يقيس فيها الشباب قوتهم في المصارعة وكأنها اختبار  لولوج مرحلة الرجولة ..
تذكر يوم رآها ، يوم ساحر لا يمكن أن ينساه كأنما غرست بنظراتها وجمال عينيها جذورا للعشق غاصت عميقا في القلب ، ومنذ ذلك اليوم صار كل شيء يقبل النسيان ، سوى أنه يحبها ..
رائعة كانت ، جمالها كان وعدا بالسعادة والوفاء..  منذ أن وقع نظره عليها وهو فوق فرسه تاه في جمال عينيها العسليتين ، فاقترب كل منهما من الآخر مع الأيام  لكي لا يفترقا على الاطلاق.
شعر بانقباض في الصدر لما تذكر المرة الأولى تحت الخيمة…
عبير شعرها  وملمس بشرتها الناعمة و شعورهما المشترك بأنهما يشكلان جسدا واحدا ، وكلا متماسكا فقد معه كل شيء معناه ووجوده .
وحدها كانت  الوجود كله والعالم كله ، كان القلب تعيسا قبل اللقاء، ومنذ أن احتلته  أدرك أن التعاسة كانت سليلة وحدته وأن القلب لا يتذكر شغفا غير ما تملكه منذ أن غاص بصره عميقا في غور عينيها الفاتنتين..
تأمل جمع الشبان فوق الخيول وبحث عن
ابن الغالية عادت به الذاكرة إلى يوم ولادته ، فمن أجل أن يصل هو كان عليها أن تغادر…
نقلت لابنها أفضل ما لديها ومن والده أخذ طول القامة وشعره الأسود الناعم.
قال لها قبل أن تسلم الروح لباريها :
_ لا تتركيني يا رفيقة القلب.
أجابته وقلبها خافق :
_ يشق علي فراقك ويؤلمني أن يكون فؤادك كسيرا .
_ لو تعلمين كم أحبك.
_ سألقى ربي سعيدة بهذا الحب الجميل.
يتذكر كلماتها وتزداد ثقته في جمال غرام صادق ما يزال يقوى مع الأيام.
كلما نظر إلى ابنه غشيه شعور بالفخر و خف انقباض صدره  و قل شعوره بالألم  الذي لازمه منذ أن علم بموتها وهي تأتي به إلى الوجود… حزن قوي كاسح بقي حاضرا على الدوام لكنه خف حين بدأ الابن يكبر
و معه كبر مبرر استمرار الحياة ، فالمستقبل ملك لمن يؤمن بجمال أحلامه . فقر عزمه على تربيته ، وإعداده ليكون فارسا وقائدا للخيالة في القبيلة .
منذ ذلك الحين ترتسم ابتسامة الفخر على محياه كلما نظر إليه كأنها تحية  للغائبة.
تذكر يوم ركب الفرس فوق السرج المذهب بقامته المديدة وعينيه الواسعتين بلون عيني المرحومة. فقد رآه الأقدر على الحفاظ على تقليد العائلة في قيادة الخيالة .
جده  مات برصاص جنود الاحتلال الفرنسي لم يكن يمل من تكرار الحكاية كل وقت وحين …
بفضل الأبطال نحن أحرار كرام ، فخورا كان كلما استحضر صورة والده وهو يتقدم فرقة  المقاومة لصد عساكر النصارى الغازية.
واليوم بعدما كبر ابن المرحومة لم يعد لديه ما يطمح إلى تحقيقه في هذا العالم ، ينظر إلى ما يحدث  وكأنه لم يعد معنيا ، يشعر أنه شرف الأجداد بعد إعداده  لدور المقدم أو
علام الفرسان. قد لا يسعفه  القدر ليشاهد موسم التبوريدة المقبل، لا بأس قال ستكون مشيئة الله هي الحاسمة في كل الأحوال.. تنهد  كأنه تخفف من حمله ، لا ينتابه حزن  ولا ألم. فالأشياء تسير في مداراتها بشكل عادي..
فريق الفرسان يبدو منظما والخيول تحرك رؤوسها بكل أبهة تجللها الألوان الزاهية. كل حصان ينافس الآخر بجمال الناصية وقوة خصلة شعر الذيل واتساع صدورها منها الأشقر والأدهم والداكن و الأشهب.
لو ترين ابنك يا غالية وعلى خصره “الكمية” مشدودة إلى” المجدول” الأحمر المفتول بعناية وسرج جواده الأشهب المذهب و المزين بحبات “الموزون”.
هو مقدم الخيالة يقود السرية متحكما في طلقة البارود بإتقان ، لو رأيته يقود الخرجة  واقفا فوق السرج لأدركت أن ما خفف عني ألم فراقك هو رؤيته يشرف كل يوم ذكرى غيابك  فلا حزن ولا انكسار لفراق الدنيا  لا حزن ولا ندم وأنا في شوق لكي  أسلك  الطريق إليك بعد أن ارتاحت النفس  لرائحة البارود وامتلأت بركة وعزة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *