خاص- ثقافات
*محمد بوكحيل
إن المتمعن في حال هذه الأمة وانحدارها المهين سيتبين بيسر أن التشظي الراهن هو نتاج موازين قوى محددة في حالة تغير دائم لا استقرار لها فيما يمضي وهي موازين انتجها صراح عوامل الوحدة وعوامل التجزئة من جهة، وطوفان التدفق المحموم للأخبار والمعلومات والتحليلات عبر الاعلام الغربي الذي شلت قدرة قطاع كبير من الجمهور العربي بعمليات غسيل الأدمغة ،لاستبدال المفاهيم التي تتعارض مع نوايا الغربيين على مستوى الأفراد والأمصار تارة، وطورا على مستوى الأمّة العربية ككل، صراع تغذيه مجموعة من العناصر “الجهل، والتقليد الأعمى، والتبعية الغوغائية، والجهود الماكرة الوافدة من الخارج، وابتعاد الناس عن القيم والاسترسال في أحلام اليقظة، والانبهار بمظاهر الفضاءات الاجتماعية في الغرب.
وبجمع هذه العناصر ورصفها وترتيبها وتحليل مفعول كل منها، ووضع النتائج في إطار التطور العالمي الحاصل في مختلف مجالات الحياة وما أنجبه العقل البشري من رقي من جهة وفي ركن واقع امتنا من جهة أخرى. نستقرئ أننا كتبنا جملة وصف الاعلام السابقة بشكل صحيح! ذلك أن تدفق السرد وانسياب عملية استحضار الماضي وصور التفاخر لا يمنعان تدفق تيار الوعي من استجلاء عوالم الحقيقة واختراق المحظور من خلال ردم المسافة بين الواقع والوهم فحسب، بل يسخر السرد عادة لإعادة صياغة عوالم اللاشعور صياغة تخيليّة وفتحها على عوالم الحلم. وللإعلام الآخر بصمة في توطين هذه الحالة الشعورية لدى الانسان العربي وشأنه في ذلك هو شأن الإنسان الاستهلاكي لأشياء الحضارة، العاجز عن إنتاجها الذي سوف ينتهي لامحالة -شاء أم أبى- إلى لون من الارتهان القيمي الثقافي والحضاري.
ومما لا شك فيه أن العقل الباطن لكل عربي به صورة رائعة لعقولنا، وادراكنا لكنها تظل مندرجة تحت لواء الطموحات والأماني. وهوما جعل العقل العربي عقيما لا ينتج فكرا، و جامدا لا يملك حراكا.
ثم أن منهجيات وأساليب نقل الأفكار في الوطن العربي ظلت بدائية على مستوى الأفراد والمؤسسات الأمر الذي حد من حضورها بدرجة كبيرة، وجعل الفكر خاصا ببيئته منحصرا، وقد اضطرته فضاءاته الحيوية إلى الخضوع للأحلام التي لا تنتهي. هي لوحة يطغى عليها ولون ضباب الخريف البنى متبوعا بعباءته لون الشتاء الرمادي بخلاف واقع الفكر العالمي المعاصر الذي أصبح فكراً متمدداً ومؤثراً بفضل وسائل الإعلام المتطورة والمتكاملة.
وفي ظل هذا الواقع ينصهر مطلب الفكر مع الغرائز، ويجتمعان لترسيخ المظهر التحكمي الذي مثّلته السياسة الإعلامية في الوطن العربي التي لا تحيا الأعلى ترجمة الرغبات الفردية المادية لطبقة الحكام ورغبات السماسرة المتصاعدة.
وحينها تطرح إشكالية مدى إمكانية وقدرة اعلامنا التطبيقية على إخراج الإنسان العربي من قوقعة اللافعالية. وهنا يطرح سؤال غير برئ؛ ما المقصود بالإعلام في هذا المقام؟
الإعلام كما يقال سلاح ذو حدين، بقدر ما يمكن أن يسهم به في الارتقاء بالفرد والمجتمع، وينمي المثل العليا والمعاني الفاضلة في عقول الجماهير ونفوسهم، فإنه يمكن أن يلعب دورا سلبيا من خلال بث الأفكار الهدامة للقيم أومن خلال سياسة التعتيم التي التي ان انكشفت تصيب الفرد بالذهول. كما الحال في تعاملات بعض القادة العرب مع السياسة الإسرائيلية حيث يتجاهلون لعب إسرائيل دور الدولة القائد المركزي والقوي الساعي لفرض نماذج رؤاه على الآخرين في المنطقة العربية وظلوا يرفعون شعار إسرائيل دولة مغتصبة فاقدة لمشروعية الوجود شكلًا ومضمونا والمحصلة هنا أن إسرائيل اليوم قوية عسكريًّا واستراتيجيا، وتملك رؤية صائبة، ولا يتردد قادتها في بحث حقيقة المخاطر الراهنة وبقدر ما يجدون في التطبيع مع دول عربية ترتضي استمرار إسرائيل ككيان متماسك! بقدر ما يسعون للإيقاع بالدول الرافضة للتطبيع.
وباختصار شديد فإن الاعلام الذي يرجع في أصله الاشتقاقي اللغوي إلى الفعل الماضي الرباعي أعلم ويعني تزويد الناس بمصادر العلم والفكر والمعرفة ونشر أكبر قدر من المعلومات بينهم، من خلال نشر آراء ومواقف أشخاص واخبار عن السياسات والإنجازات والإنتاج في مختلف الميادين من خلال وسائله المتنوعة المسموعة والمقروءة، والمرئية المقروءة، التي تضطلع بنشر الثقافة بين الناس وتعميم الوعي، وترسيخ القيم ومبادئ الحضارة ومكوناتها من خلال نشر الخبر، مصوراً أو مسموعا أو مقروء أي نشر المعلومات وتثقيف المجتمع بما يهمه في جميع جوانب حياته وإذا استثنينا ما يسيء إلى أخلاقيّات المجتمع نقر بأن تعميم مواد التسليةٍ والترفيهٍ على النّاس من اهم الأدوار الإعلامية
وبالتطرق إلى ابعاد الموضوع بالدراسة والبحث، والتدرج بالأمور الأقل توسعا للوصول إلى بعض المسائل ذات الارتباط الشبه مباشر بمشكلة التخلف العام والخوض بصلب الموضوع لاستشعار مدى حجم المشكلة الإعلامية وأسبابها بملاحظات منهجية حول متطلبات التشخيص العلمي الصحيح لأشكال وأسباب غياب الحقيقة في الإعلام العربي. في المجتمع وخارجه، نجد الأمر يستدعي القيام بدراسات علمية ميدانية على مُدخلات ومُخرجات الخطاب الإعلامي العربي ومن خلال أكثر من وسيلة إعلامية نقرأ على مُخرجات الإعلام العربي طابعا عاطفيا سطحيا متشنجا لا يرتقي إلى معايير العمل الإعلامي؛ بل هو في الغالب استجابة حينية مظهرية لعموميات لا تستجيب لاهتمامات المواطنين، ولا تعبر عن حقيقة الأحداث والمواقف، وسرعان ما تتراجع قيمتها مع تراجع اهتمام الجهة المستجاب لها، وهو ما يوجب القول ؛ لما صار الإعلام أداة خطيرة تأثيرها وسط المجتمع بمختلف فئاته ومشاربه غير محدودة، والكل يتطلعون أن تكون مخارجه انعكاساً لمتطلباتهم الضرورية،باتت الوسيلة الإعلامية تمثل قوة كبرى في بناء وتطور المجتمعات البشرية. ما جعله عاملاً حيوياً لتنفيذ الخطط والتحركات السياسية، والبرامج الاقتصادية وصياغة العقل البشري؛ علمياً ومعلوماتياً، وتكنولوجياً، وفنياً وسلوكياً، صياغة تنسجم مع ما تتطلبه ممارسات الهيمنة والتفوق ومختلف اتجاهات صناعة المستقبل. وبات دوره يتركز في التثقيف بمفهومه الشامل، وفي صياغة الرأي العام تجاه القضايا المهمة الداخلية منها والخارجية إذ يضيء للإنسان سبل الحياة، ويجعله يرى على مصباح العقل وبوعي أقرب إلى التمام، ما له وما عليه من حقوق وواجبات، ويثبت الوعي بحق الآخر ووجوده في مقابل الأنا والتزاماته، وبه يضاء درب التعامل مع السلطة والتعرف على حدود مالها وما عليها، وما تمثله وما ينبغي أن التمثيل له من واجبات، بوصفها ممثلة للجماعة وخادمة لها.
هنا نفتح قوسا كبيرا نستهل محتواه بطرح السؤال؛ هل يمكن اختزال مفهوم حقوق الإنسان في مجال الإعلام ضمن مجرد الانتهاكات والتجاوزات التي بات يتعرض لها تحت عنوان القذف؟
والإجابة عن هذا السؤال الرئيس لا يكون إلا من خلال تسجيل ملاحظات تتعلق بالخصوصيات العامة للمجال الإعلامي ومستهدفيه في الوطن العربي عامة وفي الجزائر على الخصوص.
فّاذا أخذنا على سبيل المثال بعين الاعتبار التطورات التي عرفتها حقوق الإنسان على المستوى الدستوري وعلى مستوى الأجهزة الرسمية الحكومية منها والأجهزة ذات الصلة. بالتنظيمات الاجتماعية نجد أن القوانين والدساتير العربية أغلبها إن لم نقل جميعها ، ومنها الجزائر، تؤكد على حماية الحياة الخاصة للأفراد وصونها وعدم التعرض لها أو انتهاكها لكن هذه الانتهاكات تتكرر دون أدنى احترام للقانون في العديد من الدول العربية وخصوصيات الفرد ما تزال في بعضها تكبح إلى حد كبير من الدور المفترض للإعلام في حماية حقوق الإنسان .
البعض يرى أن تسابق وسائل الإعلام في تناول الحياة الخاصة للأفراد، ونشرها يهدف إلى كسب الجمهور والشعبية حتى لو أدى ذلك إلى انتهاك حرمة الحياة الخاصة للأفراد في تجاوز للقوانين والأعراف والتقاليد الاجتماعية وإلحاق الاذى والضرر المعنوي المادي بالأفراد. ومن نافل القول إنما المطلوب أوسع وأخصب من هذه النظرة، وما يمكن فهمه بشكل أساسي في هذا الشأن هو العمل الوقائي الذي يجب أن يضمن العمل الإعلامي نفسه مثلا: تناول خصوصيات الشخصيات العامة أو السياسية أو التاريخية بشكل لا يهدف تمكين الناس من الإلمام بالمعارف الأساسية اللازمة لتحررهم من كافة صور الجهل والقمع والاضطهاد، وتغرس الشعور بالكــرامة والمسؤولية تجاه الحقوق والمصالح العامة وتمكن الوسيلة الاعلامية من كسب الشعبية أو السبق الصحفي بالنقد البناء، بل يعنى تشويه صورة الشخصية أمام الرأي العام وبالتالي الطعن في مصداقية ونزاهة الشخص لتحقيق هدف مادي أو سياسي. هذا انتهاك للحقوق هذا بخصوص البعد الوقائي لحقوق الإنسان. أما بالنسبة لبعد الفضح الفوري لانتهاكات حقوق الإنسان فإن إعلام المجتمع المتواصل مع الجمهور كرقيب ناقد لكل من القوة السياسية والقوة الاقتصادية والشخصيات الحاكمة هو صاحب الحق السبق الى المعلومة الصحيحة أو نشرها إذا توافرت له الحرية وهوما تخشاه أطراف السلطة وتعتبره من الإخطار الجادة ما يجعلها تحجب المعلومة وتتصدى لطالبها بالتهديد والوعيد ووصم عمله مرة بالقذف.إضافة الى الدور الترفيهي الذي تعلبه الوسائل الإعلامية لتخفيف المعاناة اليومية من جو الظروف المهنية والمعيشية للمتلقي؛ أفراد وجماعات ومؤسسات، لم يعد مجرد وسيلة للإخبار السطحية والتثقيف المحدود والترفيه العبثي كما نرى بل يدخل في اطار الاعلام الموجه السياسي ،والاجتماعي والثقافي والاسري. لذا لابد أن تلتحم وسائله ببيئتها وواقعها ومجتمعها وتعبر عن هذا الواقع وذاك المجتمع باحترام للمتلقي وصدق وشفافية بالإبداع المطلوب والعقلانية السليمة وتنهض بالفكر وسيادة الابداع… ، وكسر الحواجز لتستميل الجماهير نحو أفكارها، ومبادئها، وآرائها.
ولا شك أن الاعلام فعل يقوم بالتنوير متعلق بالحرية ومبني عليها،وحامل لروح التواصل الخلاق الذي لا بد من توافره في كل فضاء معرفي. باعتباره الناشر، والمروج الأساسي للفكر والثقافة، واداة فعالة في عملية تشكيل الوعي الاجتماعي، وسلاح نافع لمحاربة الشكوك والشائعات وبهذا يكون الإعلام شريكا رئيسا في إصلاح منظومة القيم والمفاهيم التي تحدد علاقات وسلوكيات الأفراد والنسيج الاجتماعي وفي مجمل المنظومات الأخرى سياسية واقتصادية واجتماعية اسرية، لكن حين تخضع لرقابة غير مسؤولة أو تقع في أيد مرتعشة تزين القبيح من القول وتلمع القبيح من العمل، وتبيح تبني طرح من الطروحات الفاسدة، أو تؤسس لمفاهيم غريبة، وهو واقع الإعلامي العربي اليوم؛ الكُلُّ ناطق باسم المادة والحاكم. ناظر بعين العاطفة والرياء ، لا موضوعية ولا مهنية. القضايا العامة مبعدة من ساحة النقاش الإعلامي. القضايا الاجتماعية مغيبة.
لا تسألني عن برامج ترفيه أكثر من الذي نراه والذي هو مادي يبحث عن الربح والمصلحة باي وسيلة كانت. هكذا اعلامنا مهزلة وصورة مبعثرة لقوة مكسرة؛ لا اعتقد أن هناك مرحلة عربية مفصلية مرت دون أن يتعرض الإعلام العربي برمته من اجلها للنقد، بل والتوبيخ أحيانا لأنه لم يكن على مستوى هذه المرحلة أو تلك، ولم يوضح هذا الموقف أو ذاك، ولم يشرح هذه الفكرة أو تلك.
وكل هذا النقد، وقدر كبير من هذا التوبيخ، كانا يوجهان للصناعة الإعلامية العربية بوجه عام من حيث سياساتها وخطوط عملها وخضوعها لسلطة الحاكم بأمره في أية دولة عربية.
ظاهرة سادت معها نظرية ترى في تكليف الضعيف فكرياً وسياسياً ومهنياً في مجالات الاعلام والثقافة والتربية، خير وسيلة لتنفيذ التوجيهات وتلميع التوجهات، فبدت المؤسسة الإعلامية حالها كحال بقية المؤسسات ترزح تحت وطأة الضغوط السياسوية فلن ينصلح أمرها إلا بتحريرها من الضغوط وإصلاح ضمير مسيريها، وهو إمر صعب المنال في ظل ما نرى فاختيار القيادات العربية التنفيذية، يخضع لمعيار الولاء والسمع والطاعة لا الكفاءة والقدرة على المواجهة في اتخاذ القرار، ومن يتابع التغطيات الإعلامية للأنشطة الرسمية في عالمنا العربي يرَ كيف تصور المنجزات الوهمية وتعظيمها، رغم تخلف الخدمات التعليمية والصحية والإسكانية وارتفاع حجم البطالة ، وغياب الديمقراطية وتراجع الإصلاحات. . قل كل على ما يرام. إننا نعتقد أن بقدر ما تتحرر هذه الصناعة الاعلامية من ضغوط السياسة وإغراءات رأس المال والعشائرية والطمع ، بقدر ما تقترب أكثر من المصداقية، وتتسع شريحة متابعيها، في ظل هذا الانتشار الواسع لوسائل الإعلام، وشدة المنافسة، وتطور المعلومات، وارتفاع نسب الحريات لحد الفوضى، وبروز تكنولوجيا الاتصال وازدياد الوعي والفهم لدى الشرائح الواسع من المجتمع ، وعلم مسيرو المؤسسات الإعلامية الرسمية منها و الخاصة، بمضمون الواقع الجديد، الذي يستدعي رفع هامش الحريات الهادفة نقدا وانتقادا وتحليلا وحوارا، وتحجيم مساحة المادة الضعيفة والآراء التي لا تتسم بالصدقية والمسؤولية.، حتى تتحقق الديمقراطية ويبعد الاختراق الثقافي من الساحة الوطنية.