خاص- ثقافات
* الاطرش بن قابل
أصبحنا ندمن الخداع، طيفك يمُر دون حجاب، لا يستأذن الذاكرة، يواجهني في الباب الشرقي لمدينتي التي انتشت جدرانها رائحة الخوف، وبعضا من رائحة الموت ونحات ينحت أسماء على القبور، قد لا أعرفهم كلهم لكني أعرف أنهم مروا من هنا ذات يوم. ولم يسجلوا أسمائهم إلا على جداريه المقابر ودفاتر البلدية، كانوا هنا ذات صباح ربما يكون جليديا أو ربما صباحا بطعم الحياة ونكهة الفراولة فقد أصبحوا بنشاط، فازدادوا من فيتامين س وبعض المنبهات، كانوا سيقلقون إن لم يوفق يومهم، أو ربما انتظروا هذا اليوم بفارغ الصبر بعد عناء سفر وومضات من آهات على سرائر المستشفيات دون لون إلا من لون الموت الذي تمنوه، هم كذلك بعضنا ممن استقادت بصيرتهم فجنحوا للعبادة، فلم يكن الموت إلا بداية للحياة، ونعيما منتظرا اتقد في روحهم فتساوت حياتهم كمماتهم، فالرفيق رفيق الباب الشرقي للمدينة وليس رفيق دراسة كما ظننت أو رفيق عمل.
بينما ظل قلب مدينتي ينبض ببقايا حياة ونصف ممات، يندثر عطرها على ممرات وأزقة أحياء بالية كثوب تلاعبت به يد الحياة ثم تناولته الرياح ترميه شمالا ويمينا حتى التصق بصفحات جريدة صفراء ليشكلا خيالا آخر لزمن قد يكون قادما أو ربما مــرّ كشباب عمر لم نكن لنصدق أنه قد قبرته ليالي السهد وسهرات على أخبار الموت.
لكن يبقى نسيم عطرك يلاحق ممشاي، قد أفكر في الرحيل أو ربما يستفزني الملّل فعندي من الحنين إلى همسك ألاف الأميال الضوئية وبقايا مناديل تلوح لي بالنزول في تلك الضيعة الغناء، أين مازالت بقايا سحرك وباقي أرامل الزمن فلم يعد يتساوى الحنين بكثرة البنين فهم وإن كانوا فلذات أكباد إلا أنهم كثرة أولاد لا غير، في زمن أصبحت قلتهم ككثرتهم لا تنفع إلا ضجيجا في يد سلطان غواه الكرسي، ودون ذاك لن أدون اسمك على بلاطة من رخام على رأسك فلن تكوني بالنسبة لي مجهولا فالقلب قد يتيه عن كل شيء إلا عن من رواه وغرس فيه ونماه ورتب حدائقه وزرع فيه من الحب ريا على ري.
ويعرف القلب كذلك من انتزع آخر فتيل ليضرب بقنابل دمع وحزن معاقل الحب، لا الزمن دار في فلكه ولا أنا استسلمت لعوارضه وبقيت أنازع وجودي وهو ينازع حمقي وكلانا يرمق الآخر حينا فحينا،
قد أذهب صوب تلكم المدن في الجهة المقابلة من المدينة، في الجهة أين تلهث الحياة تقربا لك، ربما أنال بعض مما حرمت نفسي منه، ودون جدوى أرجع على أعقابي فالحاضر متشبث بالماضي وقد يدس بعض من حنينه في جيوبي فأتلمسها فتدميني، أو يصيبني سحرها فيغويني الركود الذي أعيشه على العودة إلى نقطة كانت قبل الصفر بقليل، فالصفر لم يكن البداية، فالصبا كان للمحبة عنوان والشباب بوابة الأفراح وكُهولتي كانت بداية نٌواح، لكن ما يؤرقني خداعك يا هذا الألم حقا فأنت لا تأتي إلا في وقت مستقطع، تصبح ضربات الجزاء فيه مجازا على خاصرتي تحطم ما يشدني بالأرض فيقترب السكن فيها وملاقاة السابقين، لكني عندما أستخدم العطر صباحا يشدني الحنين إلى التراب، ذلك الراسخ في أعماقنا، فهو دوما بجوار قدمي دون سواها.