عاصمة التاريخ ومسقط الروح

*خيري منصور

تمر لحظات فارقة في التاريخ يصبح أي كلام أو كتابة خارج مجالها المغناطيسي ووهجها، بمثابة تواطؤ يهدف التهميش أو التناسي، أو التلاعب بقائمة الأولويات.
من هذه اللحظات ما نعيشه الآن وهو أقسى اختبار سياسي، وأعسر اختبار أخلاقي للمثقف، إذا كان جديرا بهذه الصفة وليس طارئا، كما يحدث في الحفلات التنكرية التي تصهل فيها الفئران وتموء النمور وتدعي الأفاعي بأن فحيحها حفيف، وهي لحظات تتطلب فك اشتباك بين شفق لم تشرق فيه الشمس تماما، وغسق لم تغرب فيه تماما.
فالقدس عاصمة التاريخ وسُرّة الجغرافيا وأعلى قمة في سلسلة جبال الميثولوجيا، وهي حجر المغناطيس الذي طالما اجتذب الأحداث مهما بلغت جسامتها لتصبح مجـــــرد برادة حـــديد! من لم يولد فيها ولم تكن مسقط رأسه عضـــويا هي مسقط روحه، ولكل حجر أو حصاة في سورها أو على طريق آلامها مسامات يرشح منها الدم، وفي كل زقاق من أزقتها صدى لخطوات رسولية، أما حفيف تينها وزيتونها فهو بالأبجدية الخالدة، العصية على العبرنة والاختطاف الذي يحترفه لصوص التاريخ وسدنة الطقوس في سوق الأساطير السوداء.
ولم يحدث ذات سطو عليها أن حجبت رائحة البارود والدخان أريج البخور والبياض المضمخ بالبنفسج في نوار اللوز، وهي لم تقترض من قصيدة أو نشيد بقدر ما اقترض منها الإبداع شحنته الممهورة بمواعظ الجبال، وها هي في أحد مطالع ألفياتها العديدة تستولد المهد من خشب التابوت وتجترح أفقا لمن لامست أنوفهم آفاقا سدّها الغبار وما يثار من سجالات عقيمة لكي يحجب المشهد. وحين نكتب منها وليس عنها أو حولها فذلك مجرد محاولة يائسة لتسديد مديونية باهظة لأنها هي التي طالما كتبتنا، ومنحت آدميتنا المهدورة تساميها وما يليق بها من التراجيديا. قدرها كقدر المسك الذي تشتعل رائحته كلما تشظّى، وكقدر الليمونة التي ما أن تجرح حتى يسيل شذاها ليرضع منه الحجر.
الكتابة بعيدا عنها الآن تتخطى التواطؤ إلى التحالف مع غزاتها، لأنها كما وصفها كاتب يهودي ممن تصفهم الصهيونية بالعقوق هو إسرائيل شامير خرجت من قمقم الأسطورة إلى التاريخ، ودون كيشوت سواء كان جنرالا أو حاخاما خدعه التابع سانشوا الذي كان يحترف اختراع أنباء عن انتصاراته على الخشب، فهي لم تعد عذراء الأيديولوجيا التي تشرنقت داخل الخرافة بل تزوجت وأنجبت ولها من أحفاد الأحفاد ما يكفي لإضافة سور من لحم بشري إلى جانب سورها الحجري، لكن السؤال الذي لا بد أن يتحول إلى جملة من المساءلات السياسية والثقافية والأخلاقية هو قدس من؟ قدس المقاول، أم المقاتل أم المقاوم أم المخاتل؟ قدس الصيرفي والسمسار؟ أم قدس الفادي الذي عبّد البحر بخطاه؟
إنها في زمن الشمس الداجنة التي رسمها بيكاسو داخل نيون أشبه باللحية، تصلح لأن تكون على وجه شيخ أو قسيس أو كلوشار أو دجال، ما دام الأمر مرتهنا للنوايا، لكنها بعيدة عن كرنفالات الفضاء المدجج بالحواة وصانعي الشربات من الفسيخ، كما يقول مثل شعبي مصري، لا تقبل أي تأويل يفرغها من الجوهر الخالد، وهي التي اتسعت لكل العقائد من قرآن وإنجيل وتوراة، كما يقول الصوفي ابن عربي عن قلبه، يجري الآن تضييقها وتعذيبها كما كان يفعل بروكوست الإغريقي قاطع الطريق بضحاياه بحيث يبتر سيقانها إذا فاضت عن مساحة سريره.
تهويدها يعني باختصار اختطافها واختزالها وأخيرا تقويلها القسري وليس تأويلها الحضاري والإنساني، وما يتعرض له الآن شجرها وبشرها وحجرها من التنكيل هدفه أن تعترف بما لم تقترف، وبأنها هناك وليست هنا، لكنها تلقحت منذ فجرها ضد استحلالها بأمصال باسلة من رحيق شهدائها، ومن افتدوها لكي تبقى طافية ولا تغرق حتى لو كان ما تطفو عليه هو دماءهم، فما كان احتلالا أصبح الآن استحلالا، وما كان رهانا على الماضي أصبح رهانا على المستقبل، لأن ما يسعى إليه ثالوث التهويد والأسرلة والعبرنة هو التمدد لاحتلال المستقبل واستيطانه.
فأي مفارقة تلك التي أعادت حمى الحياة إلى برودة الجثة؟ ومن لدغوا من ذبابة تسي تسي السياسية التي حطت على جثة نظم سياسية تعفنت ولم تدفن صحوا من سباتهم المزمن، فالقدس الآن قيامة للناس ومنهم الأحياء الموتى وقيمومة لكل ما كتب وإعادة سعاة البريد لأنهم لم يعثروا على المرسل إليه، إنها عاصمة التاريخ وسرّة الجغرافيا وما تبقى من رحيق!
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *