*إبراهيم نصر الله
كما عملت الصهيونية ولم تزل تعمل على محو كل الفلسطينيين، بمختلف أديانهم ومعتقداتهم من وطنهم، منادية بيهودية الدولة، تعمل الصهيونية على محو الدين الإسلامي والدين المسيحي من القدس أيضا، باعتبار أن لا دين فيها سوى الدين اليهودي، وما مصطلح تهويد القدس إلا عنوان صارخ لا يحتاج إلى أي شرح. قد تكون القدس اليوم هي أفضل فرصة لترسيخ التسامح والقبول بالآخر في الساحتين الواسعتين، الإسلامية والمسيحية، لأن الصهيونية لا تستهدف طرفا واحدا في معادلة احتكار السماء هذه، بل الطرفين.
لقد جاء قرار ترمب وإدارته، إلغاء لتاريخ المدينة وسخرية فجّة من مشاعر المسيحيين والمسلمين كافة، الذين يشكلون الديانتين الأكثر عددًا بين أتباع الديانات السماوية والأرضية على سطح هذا الكوكب؛ ولذا علينا أن نتوقف عن التعامل معها كمدينة إسلامية وحسب، بل كمدينة إسلامية مسيحية، وقضية تحرر وطني وعاصمة فلسطينية لكل أبناء الشعب الفلسطيني، ولكل الأرواح الإنسانية المحبة والمدافعة عن الحرية في كل مكان من هذا العالم.
إن قضية فلسطين بالدرجة الأولى هي قضية صراع على الأرض، كما قال الكثيرون، ولكن -لا أظن أن أحدا مهما كانت الأفكار التي يحملها- قادر على استبعاد العامل الديني في الصراع، وبخاصة حين يكون العامل الديني الصهيوني هو الدبابة والطائرة والقوة الإعلامية التي تشق الطريق للمهاجرين الصهاينة من مختلف أنحاء العالم، لا للسيطرة على فلسطين كلها، بل العالم العربي كله، فلم تعد فلسطين في العقل الصهيوني التّوسعيّ هي أرض اللبن والعسل وحسب، بل أصبحت كل أوطاننا العربية هي أرض اللبن والعسل لهذا العقل، ولأن هناك من يمهّدون الطريق للصهيونية لتكون عواصمنا ضواحيَ من ضواحي القدس، القدس التي يحتفلون، ومعهم ترمب وكل من هم وراءه، بترسيخها عاصمة للكيان الصهيوني.
كنا دائما وأبدا نقول إن قضية فلسطين هي قضية ضمير وعدالة على مستوى العالم، ولعلنا بحاجة اليوم، -وإن كنا تأخرنا كثيرًا- أن نزجّ العالم المسيحي في كل مكان فيها، ليكون له موقف واضح وغاضب، فإسرائيل تسعى لطرد الدين المسيحي من كل مكان في فلسطين وأول هذه الأماكن القدس، الدين الذي لم تزل علامات وجوده قائمة من كنيسة القيامة إلى كنيسة المهد، كبقية المعالم الإسلامية، في حين أن الصهيونية لم تستطع حتى اليوم إيجاد موقع واحد يدل على وجود أثر يهودي في المدينة.
هناك ضرورة ملحة لأن يكون الفاتيكان في وسط هذه المعركة، وكل إنسان مسيحي في هذا العالم، ولعلنا إذا اعترفنا بذلك، وسعينا إليه، نكون قد حققنا ثلاثة انتصارات كبيرة: الانتصار الأول قائم في حشد العالم المسيحي من أجل حماية القدس عاصمة فلسطينية أبدية، لأننا بذلك نرسخ فكرة التآخي بين الدينين، لا من أجل القيام بتحقيق اتحاد سماوي فقط، هو متحقق أصلا بنبيين من أنبياء الله، بل بتحقيق نصر سياسي لفلسطين والفلسطينيين والعرب، بإثباتنا أن ديننا ليس دين محو لكل ما سبقه من أديان؛ وتاريخ المدينة يؤكد ذلك.
أما النصر الثاني الذي سيتحقق فهو أننا سنكون قد بدأنا بتنقية صورة الإسلام التي لطختها التنظيمات المتطرفة في السنوات السوداء الأخيرة، وهي تطارد المسيحيين العرب وتقتلهم، بسبب معتقدهم الديني. أما الانتصار الأهم، في جوهر هذه المعادلة، فهو أن ننتصر على أنفسنا، ونكفّ عن استخدام الدين كقوة مدمّرة، في داخل المدرسة وخارجها، في البيت، والمسجد، وأن نقف بجرأة ضد أولئك الأئمة الجهلة، ونحاكمهم، الذين كلما صعدوا إلى منبر، راحوا يرفعون الدعاء إلى السماء لإهلاك النصارى، على مسمع من النصارى الذين يقطنون على بعد مئات من الأمتار بعيدًا عن المسجد، أو يسكنون في بيوت ملاصقة له.
لعلنا لو فكرنا في ذلك كله لأصبحنا بشرا أفضل، ولأصبح تحرير فلسطين أقرب، لأن فلسطين لن يحررها التعصّب، بل سيدمرها وهو يحررها، إن تجرأ وفعل! فلسطين يحرّرها من هم ضد التعصب والعماء العرقي والديني، الذين ينظرون إلى البشر في كل مكان باحترام، ومساواة، لا أولئك الذين يتصرفون باعتبارهم أنقى عرقا وأنبل من بقية خلائق الله، فالمهمة الأخيرة تقوم بها الصهيونية وهي ترفع كل يهودي ليكون فوق كل صاحب دين ومعتقد، وتتعامل مع البشر كخدم وعبيد للشعب المختار.
قضية القدس قضية كونية، ولذا، يجب أن نكفّ عن استخدام الرموز الإسلامية، وحدها، شعارا في مظاهراتنا واحتجاجاتنا كلما اندفعنا لنصرتها، بل يجب استخدام الرموز الإسلامية والمسيحية وما جاورها من بيوت ومعالم، وأن نذكّر العالم أن المسيح فلسطيني. والمسيحية فلسطينية. ليست هذه لعبة ذكاء في إدارة الصراع، بل هي الحقيقة، التي بدأ يستجيب لها عدد كبير من الناس، وهم يعممون صورة تضم قبة الصخرة وكنيسة القيامة معا، وقد رأيت ذلك في مظاهرات الجمعة في عمّان قبل يومين.
إن من يظن أن القدس ملك للمسلمين وحدهم، هو صورة أخرى للدعوة النقيض التي تعمل على أن تكون القدس لليهود فقط، فالقدس للفلسطينيين أولا، وكانت لهم أولا، قبل اليهودية وقبل المسيحية وقبل الإسلام. إنها لأولئك الذي كتبوا تاريخ حضارتها بالمحبة والسلام والشجاعة والنور وهم يدافعون عنها وعن تسامحها وعن قدرتها المتجددة في قبول كل جديد ومقارعة كل ظالم وغاز وعنصري.
في رمضان الماضي، راعني الأمر حين سألت طفلا صغيرًا لا يتجاوز السابعة: هل لاعبك المفضل … (لاتيني في ناد أوروبي) صائم؟ فرد: لا، سألته: لماذا؟ في الحالة الإنسانية الصحيحة كان سيجيب لأنه مسيحي، ولكنه أجاب: لأنه كافر. ما قاله الطفل، ليس دليل اتهام له، بل دليل اتهام لأمّه وأبيه ومُدرِّسه ومَدرَسته، ومُجتمع هشّ مريض، يعتقد أنه يملك مطلق القوة ليرسل من يريد إلى الجنة ومن يريد إلى النار، وهو قابع في ظلّ هزائم لا عدد لها.
فلسطين لن تنتصر بهذا المنطق، والقدس لن تنتصر، ونحن الأمة المهزومة، لن ننتصر، بهذا المنطق، فقط سنقدم للعالم كل مسوغات قتْلنا وإبادتنا وتصعيد حملات الكراهية لنا، لا داخل الأنظمة الطامعة المهيمنة، بل سنمهد الطريق لكل الشعوب كي تكرهنا!
_________
*مدونات الجزيرة
مرتبط