الحشف

خاص- ثقافات

* ابراهيم عثمونه

ألم تكن صديقتي تعشق القهوة فلماذا رمت اليوم فناجينها في البرميل ؟

كانت ثلاث فناجين و”بكرج” وبقية من كيس القهوة وحتى زجاجة مياه شركة “النبع” التي كانت تصنع منه قهوتها حين جئتُ بعدها ولملمتُ الفناجين والبكرج وحتى الكيس وزجاجة الماء ، وعلى طرف بلدتنا من الجهة الأخرى كانت العرافة التي تقرأ الفناجين في “سمنو” ، كانت عجوزاً هرمة تقيم لوحدها حين دفعتُ بابها وتقدمتُ ووضعتُ أمامها كل هذا الذي لملمته من البرميل . شهقت العجوز وبكت ثم مسحت دموعها ثم عاودت تقرأ فنجان صديقتي وتقرأ ما حصل لها . لم تسألني عنها مَن هي ؟ لالا ، لكنها فقط سألتني أين هي الآن ؟ وحين رفعت وجهها فيَّ لتعيد عليّ السؤال أين هي صاحبتي وصاحبة هذه الفناجين ؟ كان على وجه العجوز المجعد خريطة لفناجين أخرى وزمن آخر ووطن وبلاد لا أحد يعلم إلى أين تسير ، وقلتُ في نفسي أنه ما أكثر أولئك الذين جاؤوها من خارج سمنو مصحوبين بفناجينهم . لم أسالها إلى أين تقوم حين استأذنتني ونهضت ومشت على عكاز لتصنع لي فنجان قهوة مما تبقى في هذا الكيس ، سمعتها تسألني عن مقدار السكر وهي من مكانها في المطبخ ، وحين وصلت ومعها السفرة وشربتُ قهوتها خرجتُ منها أترنح كما لو انني شربتُ خمراً ، يا الله ، كان يتلقفني جدار الشارع من اليمن ويعيدني من اليسار وحين ارتطمت جبهتي بعمود الكهرباء القريب من بيتي استيقظت من النوم وهرعتُ إلى كتاب “بن سيرين” لتفسير الأحلام الموجود في مكتبتي . لم يؤذن الفجر بعد حين جلستُ أقلب الصفحات وأبحث عن عمود كهرباء وشارع وسكران يترح في الشارع ، وكانت عيني أكثر اتساعاً ساعة وجدتُ على أحد صفحات الكتاب كل شيء رأيته في منامي الليلة قبيل آذان الفجر ، حتى ذلك العمود الذي ارتطمت به جبهتي كان موجوداً ، وعرفتُ أشياء قد لا يعلمها حتى “غسان سلامة” – مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا –  الذي سيتعرض إلى عملية وسينجو منها ، وبتُ أخشى على نفسي لأنني أحمل معلومات لا تعلمها حتى أميركا ، لكن العجوز السمناوية كانت قبلها قد طمأنتني وأكدت لي أننا ، أنا وأنتم ، سوف نعيش أطول عمراً منهم.

حدث هذه قبل ساعات من الآن ، ولولا عمود الكهرباء لكان من الممكن أن لا أستيقظ إلا بعد ساعة أخرى وكنتُ سأرى أشياء أخرى ، ويستمر النوم والحلم وأعرف حتى مصير هؤلاء الذين سنعيش أنا وأنتم أطول عمراً منهم ، وكنتُ أيضاً سأعرف إن كانوا سيتيهون كما تاهت قبلهم سلالة الغجر في ارض الله ، أم أنهم سيسقطون كما يسقط الحشف من عرجون التمر ويبقى العرجون لأهله وأرضه يجدد دورة حياته هنا في ليبيا . تباً للحشف الذي لا تأكله سوى الحيوانات الجائعة ، فهو الذي يقول عنه المعجم العربي ( الحشف من التمر هو أَرْدَؤُّهُ ، وهو الذي يجفُ ويَصْلُبُ ويَتَقَبَّضُ قبل نُضْجه فلا يكونُ له نوًى ولا لِحاءٌ ولا حلاوة ولا لحمٌ)

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *