قراءة أولية في اليد الدافئة ليحيى يخلف

*إيهاب بسيسو

تتقاطع في “اليد الدافئة” مسارات الحياة والحكايات الشعبية في مزيج ينهل من رؤية الكاتب الخاصة وتجربته الشخصية لينسج عالما روائيا مشبعا بالتفاصيل اليومية. تلك التفاصيل التي تقدم نماذج مختلفة للحياة الفلسطينية.

ولأن الرواية ابنة المخيلة والرؤية القادرة على نحت حياة افتراضية موازية للواقع، كما أنها ابنة المدينة التي تعج بالتفاصيل والتنوع والتعدد، ينطلق يحيى يخلف عبر لغة غير متكلفة من مدينة رام الله، المدينة التي تتقاطع عبر أحيائها مسارات الزمن والسرد كي يرسم ملامح شخصيات روائية أراد لها اقتحام فضاءات العزلة التي تطوق تفاصيل الحياة الفلسطينية.

* * *
تسعى الرواية للتحرر من العزلة عبر البحث عن دفء مفقود ومن خلال إحالات رمزية تتخذ من الحكايات والحوار الذاتي مرتكزا أساسيا لنقاش تحولات الواقع الفلسطيني بين بدايات الثورة في منتصف ستينيات القرن العشرين والحاضر.

في الرواية قد لا تفصح الشخصيات عن كامل ملامحها غير أنها تقود القارئ لخلاصات متعددة حول الوطن والهوية والتجربة، ما ساهم في جعل العمل الروائي مسرحا متعدد الأصوات والحركة، يعكس حالة بانورامية للمشهد الفلسطيني الراهن دون إغفال لحضور الذاكرة في الزمن المضارع بشكل يبدو عفويا غير أنه قابل للتأمل.

* * *
تستند الرواية إلى جملة من المفردات والشخصيات والحكايات وإن تفاوت حضورها في سياق العمل الروائي منها مخيم اليرموك وبغال المخيم، كذلك الأرض المسيجة في وادي الباذان وهيئة المتقاعدين ومقبرة الأرقام والفتاة اليابانية هياتارو وسمعان الناصري وصوفي وأبو الخير وأحمد أبو خالد ونرمين.
يتعدد مفهوم العزلة لدى الشخصيات الروائية ويتفاوت الشعور بالاغتراب والإصرار على خلق مساحة للحضور رغم كل الصعوبات في سياق الحالة الفلسطينية.

في استحضار حكاية خيول وبغال مخيم اليرموك التي كانت تجر عربات جمع القمامة تحضر في المقابل صورة الفرس “نيللي” في رائعة هوراس ماكوي، “إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟”، غير أن بغال المخيم في “اليد الدافئة” لم تواجه نفس مصير الفرس “نيللي” التي قتلت بعد كسر ساقها، فبغال المخيم التي أصبحت بلا جدوى مع دخول شاحنات جمع القمامة التي تبرعت بها “الأونروا” لم تعد ذات فائدة تهيم في طرقات المخيم في انتظار النهاية.
يشكل هذا التوظيف السردي مفارقة قاسية يستخدمها يحيى يخلف بشكل مكثف وكأنها منبع قلق يدفع لتمرد الشخصيات الروائية كي لا تكون النهايات ذات “أفول قبيح” …

* * *
حضور المرأة في الرواية بين المهاجرة الصومالية صوفي إلى الناشطة اليابانية هياتارو إلى الزوجة الغائبة الحاضرة في الذاكرة إلى الجارة التي تعمل طوال الليل وراء ماكينة الخياطة في البناية المقابلة – والتي مثلت انعكاس صورة الكاتب من خلال السرد – إلى نرمين الناشطة في مجال حقوق الانسان يجعل للعزلة أبعاداً متعددة، فالمهاجرة التي تركت خلفها جراح الحرب الأهلية في الصومال بحثاً عن دفء في الاغتراب، والناشطة اليابانية التي تركت خلفها جراح بلاد أنهكتها الحرب العالمية الثانية قبل أن تستعيد حضورها دوليا جاءت إلى فلسطين من فرنسا مع شقيق نرمين كمتضامنة مع حقوق الشعب الفلسطيني.

تشي دلالات الأمكنة ببوح إضافي يمكن الاستدلال عليه من دلالة الجغرافيا الممتدة من الصومال إلى اليابان إلى أوروبا قبل أن تتكثف الجغرافيا مرة أخرى في فلسطين وكأن اختيارات الكاتب لم تنبع من مصادفات عفوية بقدر ما اشتملت على أبعاد سياسية ومعرفية.

* * *
كذلك تعدد أوجه حضور شخصيات الرجل التي تنوعت بين السارد المتقاعد أحمد أبو خالد ومرافقه أبو الخير وصديقه الفنان المهاجر سمعان الناصري، والدكتور نادر سمح بأن تصبح اختيارات الشخصيات جزءا من مزيج شخصي وعام أراد له يحيى يخلف أن يتحرر من طوق الذاكرة ويتسع ليتخذ مسارات مختلفة ومتعددة قابلة لطرح أسئلة المشهد الراهن من خلال تنوع الصوت السردي والحكاية وتوظيف الأسطورة.

في المقابل جعل الكاتب للحضور الشاب مساحة سردية مختصرة دون إيغال في التفاصيل وكأنها إشارة إلى مخاض سياسي واجتماعي يتبلور مع دور الحركات الطلابية، أو هكذا ربما أراد الكاتب أن ينظر للمستقبل بشيء من الأمل بعد تجربة امتدت من المخيم إلى الأرض المسيجة. هذه التجربة التي أراد لها الكاتب أن تتوسط المساحة بين ألم العزلة وأمل الغد من خلال شخصية أبو الخير الذي لعب دورا أساسيا في اللعبة السردية.

* * *
إن امتداد السرد بين مقبرة أرقام الشهداء والأرض المسيجة في وادي الباذان يشير إلى عزلة الانسان والمكان معا في ظل واقع سياسي معقد، فالمتقاعد الذي يشعر بالعزلة لا يختلف كثيرا عن شهيد سرقته مقبرة الأرقام من دفء العائلة ولا يختلف عن أسير في زنزانة أو أرض مسيجة مهددة بالاستيطان.

هذا ما جعل الحبكة الدرامية في العمل الروائي منسجمة مع دور الشخصيات الروائية في الإفصاح عن مفردات الحالة الفلسطينية، غير أن السرد بدا وكأنه خلق مساحة لتمرد الشخصيات الروائية على الروائي الذي أراد لها في الأساس التمرد على وجوه العزلة المتعددة وسياقاتها المختلفة، حين نسجت الشخصيات الروائية حكاياتها الموازية قبل أن تعود إلى دورها في الرواية حين يعود الروائي لالتقاط زمام الحبكة الروائية منعا للتشتت وتفكك البناء الدرامي.

لم يعتمد يحيى يخلف على الزخرفة اللغوية أو الافتعالات المجازية بقدر اعتماده على قوة الرمز وحضور الذاكرة والحكاية الشعبية، لذا جاءت اللغة السردية سلسة دون تكلف متممة للفكرة والرؤية ومنسجمة مع وظيفة السارد في العمل الروائي أحمد أبو خالد الذي عمل في الإعلام قبل تقاعده المبكر.

* * *
اليد الدافئة عمل روائي يواجه به يحيى يخلف أوجهاً متعددة من العزلة، العزلة التي تشرع الأبواب على المزيد من الأسئلة والتأمل …
_____
*الأيام

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *