الجسد في الكتابة

*رشيد طلبي

يقول محمد شكري في روايته «الخبز الحافي»: «لقد علمتني الحياة أن أنتظر. أن أعي لعبة الزمن بدون أن أتنازل عن عمق ما اسْتَحْصَدْتُهُ: قل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف حتما، طريقها. لا يهم ما ستؤول إليه. الأهم هو أن تشعل عاطفة أو حزنا أو نزوة غافية… أن تشعل لهيبا في المناطق اليباب المَوَات».
بدءاً ينبغي التمييز بين الجسد والجسم؛ فإذا كان الأول يرتبط بنظام الحاجة، فإن الثاني يرتبط بنظام الرغبة.
ومن هنا، فالجسد يتمتع بكيان مستقل عن مختلف الأنظمة الأخرى التي تحيط به، ما لم يعبر عن معرفته الحسية والحدسية، من خلال علامات ورموز وكلمات.
وهذا لا يتأتى إلا عبر اللغة والدين والثقافة. وتعد الكتابة مجالا خصبا للتعبير عن تجربة الجسد؛ التي تنطلق من الحاضر؛ فهو منطلق حداثة الإنسان، نحو استشراف المستقبل لتحقيق حريته التي تعد مكونا مهما في نظامه الأنطولوجي والوجودي على حد سواء. فالجسد علامة للإنسان على فرديته وحريته الشخصية.
لا غرو، أن تكون لهذا المفهوم منطلقاته الأنثروبولوجية والتاريخية والثقافية التي ارتبطت بالكتابة على الجسد؛ كما جسدتها «النقوش الموروثة» والكتابة على الجسد بتقنية «التاتو» و«البيرسنغ» و«الندوب» وعمليات التجميل، التي سادت في العصر الحاضر وغيرها، التي جعلت منه صفحة يمكن الكتابة عليها للدلالة على مدى الجمال الذي يتمتع به الإنسان أحيانا، أو القوة أحيانا أخرى، تشبها بالطبيعة. الشيء الذي جعل هذا الجسد أيقونة متنقلة تطورت بتطور المجتمعات البشرية وفق التغيرات الثقافية، حيث انتقل إلى الطبقات الميسورة، بعد أن كان شائعا لدى الطبقات المهمشة في المجتمع.
ولم يكن الأدب العربي بعيدا عن هذا المفهوم الذي ظهر في الغرب، وتطور مع الجيل الثالث، الذي رفع عقيرته بحقوق الإنسان وحرية المرأة وغيرها، فظهرت كتابات تحت اسم «كتابة الجسد» في المسرح والسينما والرواية والشعر والفن التشكيلي (…) وقد تنامت هذه الموجة مع ظهور رواية محمد شكري «الخبز الحافي» سيرة روائية محرمة في المغرب، وروايات ياسر شعبان ومحمود حامد وتوفيق عبد الرحمن في مصر. وفي الجانب الأنثوي ظهرت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي في روايتها «ذاكرة جسد»، وزهور كرام في رواية «جسد ومدينة» وسلوى النعيمي في روايتها «برهان العسل» وغيرها.
فمع تنامي اتجاهات ما بعد الحداثة، احتل الجسد مكانة مهمة في الكتابة، لتحقيق دلالات فنية وهي دلالات جماعية ذات ارتباط بـ»الجندر» التي يتم إنتاجها في علاقة القارئ بالنص. فانطلاقا من البناء البيولوجي، يتحقق البناء الفني والجمالي والثقافي في ظل سياق خاص يقوم على اللغة الرمزية والعوالم المتخيلة؛ تجسيدا للصراع الذي يعيشه الإنسان بين الطبيعة والثقافة. وهذا ما يجعل الجسد في الكتابة محط تساؤلات نقدية وتاريخية، وفق زاوية النظر المختلفة بين كل من النص والمؤلف والقارئ.
وتتعدد وجهات النظر حول هذه العلاقة، وندين هنا لميخائيل باختين في كتابه «جمالية الإبداع اللغوي»، الذي يعد من أوائل الذين نظروا في هذا المجال، في نطاق التفاعل الحاصل بين البنيوية والفكر الفينومينولوجي، حيث ينظر إلى أن الجسد في النص يتركب من العناصر الثلاثة وهي (جسدي وجسد الآخر والفعل).
فالجسد الشخصي لا يتم إدراكه إلا من خلال عملية التطابق، التي تبدو مستحيلة بين الفكر والإدراك، فإذا كان الفكر يجهد نفسه في إدراك الجسد في الفضاء والعالم، فإن الإدراك لا يأتي إلا من خلال صورة الآخر التي تعجز الذات عن تحقيقها إلا من الداخل. وبذلك، فمفهوم الجسد يتقاسمه العالم الشخصي وعالم الآخر. وهذا ما جعل باختين يقول: «لا أملك سوى الصلاحية الداخلية إنها صلاحية لا يمكنني إسقاطها على تعبيريتي الخارجية، بما أن هذه الأخيرة منفصلة عن إدراكي الداخلي، وهو ما يجعلها بالنسبة لي وهمية وغارقة في فراغ مطلق من القيم». أما الفعل فهو الضامن لتحقق فضائية الجسد، باعتباره فعلا موجها نحو المستقبل، لهذا، فالأفعال لا تمنح نفسها لنا إلا من خلال الوعي الداخلي بها.
بذلك تؤسس التجربة الفنية على معطيات التجربة الجسدية الإدراكية التي تجعل من الكتابة أكثر عمقا واكتمالا في التجربة المعيشة، وفي هذا السياق، تسهم اللغة في منحها خصوصية جمالية تجعلها تعلو عن التجربة الواقعية.
في مقابل هذا، يذهب بول ريكور إلى أن مفهوم الجسد في الكتابة يأخذنا إلى مفهوم الأنوية في العالم الذي يتأطر بإشكالية الذات، حيث لا يختلف مع باختين إلا في تصوره للعلاقة بين المؤلف والشخصية داخل العالم السردي التخييلي، فالنص وفق هذا المنظور يتوزع بين الأدبي والأنطولوجي والفينومينولوجي والأخلاقي القيمي بشكل توافقي واضح، لكن لم يخرج هذا عن عالم السرد والهوية السردية التي حاول أن يجمع فيها بين نظرية الفعل ونظريته الأخلاقية.
في حين يرى كريماص، من منظور سيميائي، أن العالم لا يتحول إلى معنى إلا بالجسد الذي يشكل شرط تكون اللغة. لذلك، لا يتم الاهتمام إلا باللغة والمعنى اللذين ينتجهما. ومن هنا تم التركيز على خطاب الأهواء أو الإحساس بوصفه خطابا للذات، سواء كانت مدركة أو حاسة. وربما هذا المنظور جعل من الجسد علامة لغوية، ما أسفر عن هوة ربما تبدو سحيقة بين الخطابي والإدراكي. وكأننا إذا ما اهتممنا بالإحساس، كأننا سنقبض على الدرجة الصفر في المظهر الوجودي للذات، بعيدا عن التأويل الذي تدعونا إليه التلاوين اللغوية والرمزية في الكتابة الأدبية.
من ثمة، يبدو أن مفهوم الجسد في الكتابة يتواجد بين مجموعة مجالات يصعب التدقيق فيها، الأدبي منها والنقدي والفلسفي، لكن يبدو أن الدعامة الفلسفية قوية في تحقيق تقدم نقدي للأعمال الإبداعية والأدبية.
إن هذه التركيبة التي جمعنا فيها بين البنيوي والفينومينولوجي والسيميائي، ليست تركيبة تلفيقية، بل تلعب دورا في إضاءة عتمات هذا المفهوم، خاصة على مستوى الكتابة السردية التي يلعب فيها الجسد دورا وظيفيا، مع العلم أن مصداقية دلالاتها لن تكون إلا من خلال التفاعل الذي ينبغي أن يحصل بين القارئ والنص في نطاق علاقة تفاعلية قادرة على بناء المعنى، وفق تعليمات تأويلية تتجاوز الملتبس النصي والملتبس القرائي، باعتماد منهجية تصبو نحو تحقيق شرط الصرامة العلمية.
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *