خاص- ثقافات
*كريم ناصر
“أحكي وأحكي ولأنّني الآن مثلما ابتدأت ولا أملك غير ذلك” ص94
الواقعة ضرورة لا محيص عنها:
ليست هناك في واقع الحال قصّة دلالية، إذا لم تكن ثمّة فجوة (واقعة معينة) تلخّص الحدث لتصبح معياراً، فحين نعالج عملاً أدبياً فلا بدّ من أن نقوم بادئ بدء بتحليل تلك الفجوة التي تعدّ أساس بنائه، وانطلاقاً من هذا المنطق يمكن أن نقول إنّ معظم القصص في المجموعة الموسومة (إنتحال عائلة) تندرج ضمن هذا المنحى التأويلي..
فليست الفجوة إلّا فكرة أدبية، وقد يذهب الكاتب مذهباً بعيداً ليحوّل الواقعة بكلّيتها إلى موضوع دلالي قابل للتأويل والتفكيك والتحليل..
سيفرد لنا السياق العام بعض الاستعارات بدلالة تقوية الحجّة حين تضعف الدلالة، ومع ذلك فيحيلنا مثال (العلوي) على كتاب فصول من تاريخ الاسلام السياسي ليكون دليلنا:
صحيح أنّنا نلاحظ في قصّة (حرّاكَـة) خامة لاستعارة لغوية لتكون هناك بنية مساندة، في حين لا تغدو الاستعارة منهجاً دائماً، بل تبقى صيغة لغوية تنمو في إطار السرد لتقويته، فاستعارة عبارة مثلاً من أدواردو متري (1) ربما لا تؤدي دوراً تامّاً سوى أنّها تخدم الدلالة ليتطابق المعنى مع الوظيفة، فلا تكون القصّة رصينة إلّا بإنشاء أساس متين لها، ومن هنا يقوم الكاتب بابتكار حكاية لتصبح واقعة مماثلة..
يقول السارد:
“لأنني بلاحكاية مقنعة، فإنني أبتكر أمامكم حكايتي الخاصة” ص13
يبتكر السارد بنيةً أدبية من مغامرة في قارب ومن صلبه لتكون له وحده مبتكراً حكاية مقنعة أُسوة بالآخرين المليئين بالحكايات:
“إرحمنا يرحمك من في البحر والأرض أنت لأنك بلا حكاية أمّا نحن فمليئون بالحكايات” ص14
من هذا المنطلق، وكما يتطلّب السرد إلى مسند جمالي يقدّم القاص صيغةً جمالية لصورة الأُنثى في بنية سردية تحمل معنى دلالياً تاماً:
“تقلبني يد رقيقة لتتأكد من أنني ما زلت حيّاً، فتعيد قذالة شعري إلى مكانها الطبيعي فترجع القذالة مع اهتزاز القارب” ص14
وقد يتحقّق المعنى الدلالي في عبارة أو مقطع سردي قليل الكلمات:
“الماطور يخفت فتلاحقه صور صبية مقلوبي الرؤوس على لوح القار مثلنا” ص15
وينطبق المبدأ نفسه على أجزاء من القصّة، وهكذا يحقّق السرد وظيفته في بنية دلالية تسمح لتكون تضميناً جديراً تجعله عنواناً شاملاً: يقول السارد:
أحدهم يغضّ الطرف عن انقلابه، ويسرد فصول كتاب مرميّ تحت أقدام ركاب القارب الحراكَـة أنفسهم، أمّا الاشارة إلى الكتاب حصراً فلا بدّ من أنها تحمل مغزى يجب أن يؤول الحكايات المموّهة في (إنتحالات عائلة) وتزيد القصة جمالاً – التداخلات الفنية في تراكيب الجمل السردية، وعليه فالمسألة هنا تفرض وعياً جمالياً، هناك في الواقع بلاغةٌ تصويريةٌ تقودنا إلى جوّ الدهشة والتخيّل والدلالة والامتاع (=)
إذ لا يمكن اختزال القصّة بعبارة استقاها المؤلف من مرجع، بل يمكن أن يحتفظ هذا المرجع بخاصية جمالية لتقوية المعاني، وبهذا كانت الاستعارة استهلالاً:
“كل حياتي كانت هذا اللا شيء: إسم”
بيثنته ألكسناندره
ومع هذا فإنّ قوّة الحدث في السياق تستلزم واقعة كما بيّنا، لأنَّ الواقعة هي التي تنشئ المعاني، وإنَّ الحدث لا ينمو إلّا على واقعة لتكون سنداً ذا معنى كما نعلم، فبضعف الحدث تنتفي المعاني بسبب الإستعارة الخارجية التي يكفي أن تكون دلالتها عسيرة الفهم، إذا ما قمنا بتأويلها من منظور خاص. تعدّ القصّة (تزوير أو محروق اصبعه) بما تفرضه من بلاغة امتداداً للقصة التي كانت قبلها، وهذه تشكيلة فنية لتقوية محتوى القص، وكما شأن أيّة قصّة فالإستعانة بالبلاغة التصويرية يمكن أن تغذّي في الواقع وظيفتها، لأنَّ البلاغة كمذهب تؤدّي إلى تنظيم قيمة السرد لترفع من شأنه..
سلسلة من التعابير تكوّن عالماً واسع الدلالة، نحن إذاً بصدد بنية تجسّدها حالة المسافر المتناهي في تيهانه لتصوير رحلة تبدو مأساوية ـ معهودة ـ تقوده إلى الأمام كما توردها الحكاية في سياق سابق، وبهذا المعنى يلزمنا أن نبحث عن أس الموضوع لنصل إلى المعاني، صحيح أنَّ لكلمة لوح قيمة نادرة تفرض نفسها لتأثيرها المعرفي، ففي فقرة ورد تفسير حميم لنكتفِ بالإشارة إلى هذا الجدل:
“ما هذا تقول حجر، هذا لوح لا أهمية له، يقول المرشد لوح غير مهم لوح من هذه التي يسمونها مسمارية لوح حجر” ص26
والحق أنَّ اللوح ليس في الواقع إلّا مدلولاً يعبّر عن ظاهرة حضارية تؤطرها لغة ترمي إلى كشف ما هو خفي يتمثّل في سرقة آثار نفيسة لتهريبها خارج البلاد..
يجب علينا أن نسلّم بوجود البلاغة التعبيرية ـ التشبيه اللغوي ـ كجزء من التداخلات الفنية في تقوية التراكيب اللغوية:
“الأسماء غباء بلا معنى، لذا تطفر بين خشخشة رجل وأخرى تتبع فحولتها وتجتاز قرى ومدناً وناساً ملونين وشبهك وليس لك مثلهم لا في اللون ولا في مطقة الشفاه ولا حتى في النعاس الذي يتكاثر كالبق وأنت تنشه مخافة الغفوة الطويلة” ص26
ولذلك فالأسماء التي ينتحلونها ويضعونها على (البطل) لا بدّ من أنّها تتعلّق بظاهرة تقليدية معمّمة والكاتب يستعملها ليقصد بها عدّة أشياء:
“أتخلّص من الأسماء والأماكن والأشخاص والمرشدين، حتى لم أعرف من أنا حقاً من بين أسمائي” ص28
لا يمكن الاعتقاد بالتسليم لأية صيغة، ففي إمكاننا أن نكتشف ثغرات في صيغ سردية كثيرة، ولكنّنا لم ننكر اقتدار القاص على صوغ العبارة التي من الممكن أن تصير اسناداً يوازي الحبكة، وهذه الخاصية نتيجة منطقية يقوم السرد بتنظيمها، وكلّ تماسك لغوي يمكن أن يؤدي إلى تقوية السرد نفسه،
ففي (طيران بالمقلوب) يثير الاستهلال الدهشة، وتتمتّع العبارات بالرهافة، هناك في الواقع تداخلات سردية، وبنى مشتركة تضع هذه القصة وقصة (حراكة) السابقة ضمن سياق فكري واحد، ثمّة أمثلة على التداخلات السردية لا يمكن في الواقع ايجازها هنا (2) وكذلك هناك أمثلة من التداخلات في القصص وانزياحات في السرد (3)
وهكذا نستطيع أن نكتشف الدالة الرئيسة ثمّ علائق الوصل الماسكة بالعناصر التي تستند إليها معظم القصص، هذه الدالة تجعلنا نستشف من سياق كلّ قصة محتوى متصلاً بما سبقه من الأنماط التعبيرية، إذ إنّ كل فكرة فنية يجب أن تستند إلى لغة عميقة تخرق الصورة النمطية، لكي تعيد السرد إلى المعيار:
“وبما يشبه حرباً مفاجئة إلتمّ الحرس والجيش والشرطة ومستشارو الباشا، وتحدث أحدهم عن غدر أهل المدينة، وأشياء عن خيانة وفزع وعلى الآخرين أن يتصرفوا قبل أن يلفظ المعلق من لباسه أعلى البناية حروف الطيران تلك. أسكت الباشا حشود الجيش والشرطة وحرسه الخاص ومدّ ماسورة بندقيته، فطار جدي هذه المرة بحق، تدهدر من جدار إلى آخر حتى حط بلا ضجة قرب قدمي الباشا” ص35/36
هذا كما سبق أن ذكرنا أنّ التسلسل المتناغم في سيرة العائلة يثير موضوعاً غريباً نستطيع أن نقيس مداه بالتناسل المطّرد لأفراد العائلة، لنتأمل الجد الأخير الذي عاد لنبش السيرة من جذورها، وقد سما الأب “بإسم الذي طار من لباسه وحط قريباً من الباشا” كما يؤكد السارد:
“قيل إنه حلف على رأس الخارج من بطن الجدّة إنه سيسعى لاسترجاع رأس جدنا المحشو بالتبن قبل أن يبزغ شارب الوريث الجديد”ص36
لا تكون الجمل ذات معنى من طرف واحد، هناك فنٌّ وحبكةٌ ومهارة وتشبيهات تفردُ سرداً فائق الجمال، من هنا يمكن الوصول إلى الغاية:
“أين لي بخطط مخبري أجاثا كريستي حتى أقترب وأنتزع رأس الجد من صندوقه الزجاجي، طرت – أقصد بطائرة من حديد وليس مثل طيراني الآن – ومررت بسماء اسطنبول فتخيلت أنني لمحت لباس جدي المعلق ولم يحيني ولو باشارة فالتبن هش ولعله يتناثر لو هز الجد حاجباً، وهو ما حكيت للأب، فتركني أهذي مهتماً بوضع القطن في أذنيه وانشغل عني بتعليم الأبناء الآخرين لعبة اهتزاز القدمين وتركهما مثل بالتي قطن محصورتين بمعقاف ومنشورتين على حبل” ص37
وهذا لا يعفي طبعاً القصّة من تأثيرات أتت عليها من الخارج تتجلّى صورها في البحث عن رادع فعلي..
آلية السرد وتاريخ العائلة:
لا يكتفي القاص بإعادة فكرة الطيران لتصبح آليةً أدبية، بل يذهب إلى أبعد مدى للحفاظ على تاريخ طويل يمثّل من حيث المبدأ عقيدة بحق إذا ما كانت امتداداً دلالياً في أغلب الحالات:
“أسقط كي أحافظ على التاريخ هذا وإن كنت بلا وريث يذكرني ويعلّم أشبار البناية في جادة ضياع الصوت، أسقط لأذكرهم بهم، أسقط وأسقط وأدفع نفسي أكثر ولكنني لا أنزلق، فالريح بلا أثر الآن، ريح عاطلة ريح شاسعة ولا نهاية لها” ص39
التسلسل العماري وأصل العائلة:
فمن البديهي أن تبدأ قصّة (العنعنة) باستهلال يشير إلى تسلسل تاريخ العائلة المألوف كما يتّضح من السياق التركيبي، ولكي يكون للعبارة مدلول فيجب أن تحقّق اللغة حضورها الشامل لملء كلّ ثغرة ما دامت اللغة تسيّر السرد وتقوّم وجوده، وهذا ما يسعى المضمون ـ مضمون القصة ـ لتنشيطه في مجال التعبير ـ البناء ـ ليصبح مقياساً لجماليات الأسلوب (4).
هكذا يدوّن القاص كلّ ما يندرج في دائرة العائلة، وأيّ إلتزام بإعداد لائحة بالأسماء، إنّما يأتي لاثبات وجودها وتحقيق درجات تماسكها في مختلف مراحلها الاجتماعية:
“يقول أبي نقلاً عن أمه وهو ما أسمعه عن شقيقي الأكبر” ص42
“حرص جدي الأقرب أن يتحسس خصى أبنائه منذ ولادتهم” ص42
“أعمامي تهالكوا وقضت صلابيخ هائلة على جدي، وبقي أبي في كل أيام محاججته النار” ص42
تبدو القصة متصلة بسلسلة طويلة وكأنها بنية رواية بحق:
“أريد أن أشارككم لو لا أن صورة ماثلة في الجد والأعمام وأبي قبل أن ينقل عنه إلى شقيقي ولي بعد قرون، حكاية تلك القيلولة التي أنجبتني بعد زمن، وتركت هشاشة لحم الفروج الذي أكله في تفاحة بلعومي حرقة هائجة، أعاقبها مع الصباح بالضرب والبرد والعويل مثلهم، وأستحيل بلطم صلبوخات صارمة أو بحيل العائلة جميعاً بالاختفاء ـ الانتحار ـ من أعلى بناية مثلا” ص44
أمّا قصة (ونين) فتبدأ بعبارة شديدة التأثير اختارها الكاتب لتكون بحق مدخل القصّة لتميّز الأسلوب كما يجتهد:
“أنتظر حتى يخرج عصفور من فمي ونحتفي في الصمت”
وقبل ذلك ذيّل قصته العتيدة بعبارة استعادها من الكاتب ساراماغو لتعبّر عن فكرة أساسية في السرد:
“إن في اللعبة دواراً” ص45
لا تني تحمل صيغة الربط في القصة المعاني نفسها كما نلاحظها، لا سيما في القصص التي تنفرد بوظائف تنتمي إجمالاً إلى سردية دلالية مثل قصة (تزوير) لتأكيد صيغة الوصل بوصفها بنية تجسّد صورة مستفيضة عن خصوصات العائلة:
“وأنا الذي لا يشاركني في رحلة الأمام غير صوت داخل حسن” ص46
وباختصار فإن عبارة (الأمام) هي المستوى البنائي الذي تسير عليه كل البنى السردية كما تدل عليها المستويات الدلالية، سيكون للأنين عمق جوهري ينبثق من توصيفه لأمه يقول:
“فأخبركم أن الأنين بلهجتها هي أمي” ص45
ثم يستطرد:
“أمي في الحقيقة لا تعرف البحة ـ أعني لا تعرف البكاء” ص46
فكلّ صوت يعود لأهله ويبقى المعنى ضمناً في المحتوى، والذي يحمي أصل العائلة في هذا التسلسل التركيبي، سلسلة من الأسماء تؤلف عناصر بناء أساسية كالأب والأم والخال المحوط برؤوس حجرية والأخت والأخوة أيضاً..
لا يمكن أن يكتمل بناء عمل سردي من دون إثارة صيغة تفصله في الأقل عن سرديات خاملة، فالواقع أنّ اللغة تحديداً من شأنها أن تمنح الكاتب إمكانات التعبير عن حقائق كثيرة:
“سلوة أبي الوحيدة بعد حشو الأذنين بالقطن والحديث بلا حديث، كان نبش تربة الحديقة. في كل مرة يطلب مني أن أنقب بدلاً عنه بينما يجلس تحت ظل النخلة لا يلتفت لي ولا يريد مشاركتي ولكنني ما إن أقف حتى أراه يستعجلني.. أعرف أنه يستعجلني لاستخراج ما دفنه بنفسه قبل أعوام بعيدة. يدلني على المكان بسهولة وما إن أسرع باستخراج مجموعة الصواني النحاسية حتى يقترب مدهوشاً ويبتدئ سرد حكايتها، حكايته:” ص48/49
إنّ الانتقال إلى التاريخ يحمل في طياته دلالات عميقة، إذ يظهر ذلك علناً في الحوار الجاري بين الأب والإبن الذي هو السارد نفسه، فالحوار إذاً يحمل صفة تاريخية:
“أنت تفهمني حقاً.. لقد تنازلت عن الخناجر والسيوف والأسلحة بل حتى الحصان المسروق من حظيرة لم يعد يخطر على بالي لو لا أنه يبرز تبعاً لرجاء من أمك” ص49
الأنين فكرة القصة والكلمة رمزية تدل على البكاء أي بكاء الأم المتواصل الذي سببه ناقة ” وناقة هنا عمّة أمه وليست أنثى الجمل بالتحديد كما يجتهد القاص، هناك إذاً تشديد تسعى إليه القصة لتأصيل تاريخ العائلة:
“أعود حتى تلال الآلهة، هناك حيث الخال ما زال يلتهم التبغ ويعدل رؤوساً بأحجامها الطبيعية، أصعد فوق الركام وأبحث عن البوابة، أقرر أن أعود بتسجيلات داخل حسن ولو من أجل أن أصدق ما يردّده الآخرون بوجود أمي وشقيقتي في البيت، أصل قرب الجناح المثلوم لرجل برأس عملاق ولحية ممشطة حيث تركت عربة التسجيلات فلا أعثر على شيء، أنقب هنا وهناك بين الأحجار ولكن لا أثر” ص 55/ 56
من هنا يمكننا أن نصل إلى نهاية تحمل معاني دلالية موازية لسمات السرد ومكونة لوحداته اللغوية مع ما عليها اللغة:
“الغفوة بعد حين مثل منشفة منقعة بعشب مخدر، ثم بما يشبه كلابتين ضخمتين أحس بأحدهما يقترب ويقرصني بإبرة دبور ثم يمط فمي وكأنه يؤكد على سمة الابتسام، الفم ينفطر دون صعوبة، يتفتح، تتراخى عضلاته كلها وفي اللحظة التي أشق النظر عبر طرف العين المسهدة أثر ونين متواصل حتى لو سددت السمع بالقطن مثل الأب، ألمحه يخرج من تدوير الفم
يخرج برفرفة تصافق جناحين يذكراني بما يشبه العصفور ذاك عندما سيختفي في الصمت بعد حين” ص56
مخبرو أجاثا كريستي
تتجلّى سيرة العائلة من أول وهلة، فيبدو الخال (منعم فرات) وكأنّه حلقة الوصل التي تربط العناصر برمتها، وما ذلك إلّا دالة لتقوية السرد والحفاظ على وحدة الموضوع التي تمثّل الأساس العميق للتراكيب اللغوية..
إنّنا نلاحظ تداخل السرد في هذه المتوالية، وتكفي الدلالة لكي تتداخل المعاني بين القصة الموسومة “ونين” التي قرأناها قبل قليل وهذه القصة العتيدة أي أنَّ هناك سلسلة مترابطة تجمع معظم القصص:
“لم يعد هناك من تماثيل إلّا هو منعم فرات خالي الذي لم تبكه أمي في (ونينها) لأنه لم يمت” ص57
والمثال الآخر صيغة الخطاب بين السارد والخال والتي تتضمّن وظيفة دلالية:
“ليست لي أحجار، أنا لست مثلك يا خالي، ينفض عن يده كومة الحجر ويرد: أنت مخطئ كلّنا لنا أحجارنا” ص58
فللأحجار دلالة رمزية لا يمكن أن تبقى إلّا لتحتفظ بأصالتها كخاصية جوهرية لها امتدادات في التاريخ حتى إذا نقلها السياح وغدت خارج حدودها الأصلية.
وقد تكشف الصيغُ اللغوية عن خيال واسع الدلالة يمسك بجوهر الأشياء، هناك إذاً تأكيد قيمة الحجر وأصالته وعمق جذوره:
“أسفلنا عالم آخر لم يعرف بعده هل تصدق.. رهبان معابد أوروك في انتظاري” ص59
“كم أتمنى أن تدرك قيمة الحجر وتتعلم التخديش والنحت عني” ص59
فلا يبدو تمثال مشخوش إلّا رمزاً حضارياً يحمل قيمة فريدة:
“كل يوم هو غد بالنسبة لي طالما أن يومي متوقف على حراسة التل، الأحجار، أو ما يسميها خالي روح الطين” ص60
“سبق أن حدثني خالي عن مخبرين وأسماء وقيثارات وأجنحة وما بينها عن إمراة ناصعة البياض مثل شبح عزرائيل، يقول: لجأت إليه غير مرة برفقة مخبرين لها، لم تكن لهم ملامح، لا تراهم غير قبعات، أطراف قبعات بابتسامة واهية وتعلق طويل بكلمة من المسز، يسمونها المسز، وهي بيضاء مثل طيف عزرائيل الذي لم نره بعد، يسمونها مسز وهي اقتربت من أذني وهمست بنفخة كحول وكلمات باردة أرجو أن تدعوني أجاثا كريستي، وابتسمت طيات القبعات” ص61
“لم تغف ولم يغف مخبروها، حملوها بمساعدة زوجها الآثاري بنظارتيه البلاستيكيتين، حملوها إلى أقرب قطار وأودعوها بحبل رقبتها لأنها رفضت أن تنزعه وشحنوها مع حقائب وصناديق حتى لندن قبل أن تصحو أوروك على تناسل حكاية المسز وخالي، عاد صاحب النظارتين البلاستيكيتين برفقة مخبرين ومجارف وسلاسل ولم يخرجوا حتى حطموا رؤوس وأجنحة وتعاويذ فرات الذي لم يأت بحركة ولم ينظر لهم، طوقوا أوروك من أعلى التل حتى بوابات بيوت الطين بسياج من أسلاك، وابتدأت عرباتهم تحمل كل ما تراه أمامها، حملوا أجنحة ورؤساً وبوابات وزقورات وملوكاً وآلهة، ولم يلتفت لهم، وكذلك لم يتحرك وهو يراهم يحملون قيثارة عشتار ويتركون لنا بدلاً عنها نسخة جيبس تتقشر بلا بريق ولا دمعة” ص61/62
فالتشديد على أصالة فننا إنما لأنّنا نحن مَن صنع كل هذا، فالخلاصة تعطي الانطباع نفسه في هذه العبارة التي تنزع إلى تأصيل قيمنا الحضارية:
“دعهم يحملون ما يريدون ألسنا نحن الصنعة”؟ ص62
نحن إذاً بصدد لغة سردية تقترب من شكل الرواية كما أسلفنا قبل قليل، إنها لغة تحمل في طياتها أسراراً عن ألغاز حضارة ملوك وآلهة قديمة في أوروك وفي ميزوبوتاميا، ومن جانب آخر تساهم اللغة نفسها في بلورة سياق سردي لوحدات متواصلة، وهذا ما يجعلنا نفهم أنَّ الكاتب إذا ما كان ينحو هذا المنحى، فذلك ليس إلّا لخلق انزياح دلالي قد يكون ضرورياً جداً لتحقيق أفق روائي انطلاقاً من وحدات صغيرة كما نرى، ومن تداخلات فنية كما هو الحال في طريقة الحفاظ على تسلسل الشخصيات والأزمنة والأمكنة حتى إذا ما اختفت بعض الشخصيات كفرات على سبيل المثال:
“أبحث عنه في أمكنة، نزلت السرداب في النهار وفي الليل بحثاً عن خيط أثر له، صحت بأصحابه أن يظهروا ولم يجبني أحد، مسدت الأحجار وخرجت حتى أطراف الهور لعله غادر ليجمع أحجاره. لا أثر، كل شيء على حاله إلّا فرات فراغه كبير، ورؤيته لم يعد لها من وجود” ص63
مصارعات ثيران
لم يكن الخوف من ثور مزعوم فكرة طارئة، فلذلك خلفية ذهنية (شعور ذهني) يرجع غالباً إلى حالة ما تؤول إلى طبيعة سايكولوجية، في وقت أن ذلك الشعور السلبي يعود بسمعة سيئة إلى مهنته/ جمعية قدامى مصارعي الثيران في نظرهم هكذا نفهم المعنى:
“إقتنعت جمعية قدامى مصارعي الثيران أن خشيتي من مباغتة ثور هائج ربما يعود بسمعة سيئة لمهنتهم، وهو ما يجعل السياح الشقر ببناطيلهم الجينز وصدور قمصانهم المفتوحة يهربون كذلك من مشاهدة لعبة كل أمسية، وهذا يعني أن أصابعهم لن تخشخش قطعاً نقدية بسخاء ولن يلحسوا طبق الكوثيدو ولن تتلاعب أقدامهم مع دبكات الفلامنكو” ص66
ويبقى من الضروري أن نعرف أيضاً أن كلّ سياق سردي هو في حقيقته حلقة وصل تشدّ الوحدات التي يمكن أن تكون منفصلة أحياناً بفعل طارئ يتعلق بالبنية..
فلا يعدو الوضع سهلاً، فالمفارقة أن هاجس الخوف من ثور يأتيه بغتة يبدو جلياً، فكان لدى معلمة الانسكلوبيديا شوق لمعرفة مرجعيات الخوف الذي يعتوره، أما هو فكان يبتكر لها حكايات، فسرّ اعتكاف معلمة الانسكلوبيديا له معنى يرمز بالطبع إلى دلالته، وعليه فإنَّ النصوص السردية هنا تحاول بناء هيكل العائلة، فما دام هذا الترابط السردي يحافظ على قوامه إذاً فيجب أن يمسك أيضاً بوطيفته، فقصة مصارعات ثيران تحتاج إلى مقاربة استثنائية لفهمها، ولا يمكن لأي قارئ حصيف أن يفك ألغازاً هي في الأساس ملتبسة ولا يجمعها رابط جوهري ليكون أثراً جدلياً، بيد أن هذا الالتباس يضمحل تدريجاً عندما يعمل القاص على تقوية حلقات السلسلة العائلية للحفاظ على بنيتها داخل السرد نفسه للتنصل من البديهيات التعبيرية.
العاصور
“إني رأيتني أعصر خمراً”
القرآن الكريم
لم تخرج قصة العاصور عن سياق سرديتها من حيث يتطلب الأسلوب، فقد يستهل كاتبنا قصته الثرّة الفياضة (العاصور) من واقعه ويبدأ بهذا الاستدلال الغريب بتعبير أدبي ثر:
“خرجت من كؤوس (جبار أبو الشربت) عند حافة دجلة” ص75
هكذا تتضمّن القصّة أسماء أشخاص من الواقع مثل: جبار (أبو الشربت) ومن الماضي مثل: أبناء محمد الأول، والحق أنَّ لكلمة العاصور مغزى دلالياً مثلما يقول:
“أخرج أو لا أخرج فالبرتقالات تناديني ” ص76
وفوق هذا كلّه يصبح التخيّل جزءاً من لغة تركيبية.. فالتخيّل ليس إلّا لغة ملطّفة تساهم في بناء الوحدات السردية، وليس المغزى من هذا سوى تقوية بنيتها لتميز الوحدات في المخطوطة المكتوبة:
“لا أجد أحياناً تفسيراً لتخيلاتي سوى بتقريب لحظة الخلاص من ليلة عصر أخرى” ص76
فلنتفق على أنَّ الكاتب هنا يؤلّف سلسلة من العبارات الجوهرية يجمعها خيط مسترسل يرمي من ورائه إلى تحقيق الوظيفة الدلالية والحفاظ على التسلسل في الأفكار ووحدة الموضوع:
“ولأنهم هنا مثل (حراكَـة القارب) لا يحفلون بما أحكي لهم فإنني أمضي الوقت بالحديث مع نفسي” ص77
وقد يشير الكاتب في متن كلّ قصة إلى فرد من أفراد العائلة، وهذا الأسلوب في أغلب الأحيان يضمن سلامة الدلالة، ويقرّب الشخصيات من الأحداث ليمنحها الحرية على التمدّد في مساحات السرد، فالجد من منظورنا يمثّل حلقة الوصل أي المرجع هنا أو هناك.
خاصيات السلسلة العائلية:
“فبينما يسعون لحمل طبق بطيخ مزين بدقة ورهافة يدي فأنتبه إلى أن الحروف في غير محلها فأرتبها، أو أنني أستمع لها كما أريد أو أعتقد أو أظن، فأهبهم أطباقاً من طبيخ، لأنقع البطيخ بصلصة مرق لاذع، أحياناً أعتقد أنهم ينادون عليه بالخبيط، فأطبخ لهم (محروق اصبعة) مثل برق خاطف، فيلقون الطبق إلى القمامة مع اللب والأوراق والمناديل ولا أسمع تهكماتهم ولا ضحكهم لأنني مستمر بالتحاور معي، ولا أنتبه سوى لضربات كبير الطباخين على ظهري وهو يمهّد لي الطريق حتى غرفته الخاصة” ص80
ولهذا كثيراً ما نتيه في خضمّ لعبة السرد، وكثيراً ما يصعب الامساك بالفكرة ما يجعلنا نرجح ذلك بالتحديد إلى التباس لغوي في الأداء يمكن أن نسمّيه انزياحاً إذا جاز التعبير، وبهذا تحتاج القصة إلى قراءة معيارية شاملة لفهم تراكيبها اللغوية الملتبسة، ومهما تكن النتائج تظل وحدات اللغة دالة توحي إلى قدرة الكاتب على شدّ القارئ ولو بطريقة إيحائية تنقله من مستوى إلى آخر لاكتشاف ما هو ملغز بعد تيهانه المطّرد في ضبابية السرد:
“أرافقه من مكان إلى آخر ومن كوكتيل لآخر، إتخذني مساعده الأول وهو يشير إلي محدثاً الآخرين على أنني أفضل عاصور في المدينة، وقبل أن أغادر المحل حتى غرفة الفراغ المؤمن من الحريق، يكون قد غافل الجميع وسرق برتقالة ودسها في جيب سترتي، ومع كلّ برتقالة في الجيب تكون يدي قد ضعفت في العصر” ص82
فما دامت الضبابية تغطّي إطار السرد، فلا بدّ من أن تظهر في المقابل جمالية أسلوبية “كعامل إسنادي” لترميم ما أُثلم من تفاصيل سردية أو لتقويم الجملة القصصية بقوة التشبيه، كونها قوة جمالية تمثّل مجالها الدلالي:
“يسقط الكبير ولا أرى منه غير حدبة عالية كتل ناشز وسط أرض منبسطة ببياض ملابس تبقعت بالعصر وأصبحت قريبة الشبه بعلم هولندا” ص83
هكذا تنتهي القصة بنهاية استثنائية تعود بنا إلى الاستهلال الذي سبق لنا أن أشرنا إليه:
“أجدني مرة أخرى وسط الغرفة أحّدق إلى الفراغ، الفراغ الذي يلهيني عن رف البرتقالات وحائط الصور والشهادات والتأوهات، ومن جلستي في وسط الغرفة أراها واضحة رقعة التشينكو تلك، وهي تعلن أنّ النيابة مؤمنة من الحريق تلمع على ضوء نيون الشارع ومثبتة على الواجهة بمسامير غليظة” ص83
ماذا يمكن أن أكون غير مورو؟
“لا تحاول أن تجد العالم…”
ثربانتس
يستهلّ القاص أحداث قصته “ماذا يمكن أن أكون غير مورو” إنطلاقاً من فكرة لثربانتس لتغدو في جوهرها استعارة دالّة لتقوية المعنى، فما يجعل القصة سهلة التداول من المنظور العام فذلك الولوج المطّرد للغة في جوّ الدهشة، كما هو الشأن بالنسبة إلى الجزئيات المميزة – الوقائع المثيرة التي لم تكن منفصلة عن سيكولوجية السرد..
فالذي يعمّق المحتوى القصصي بعد الدهشة هو التأصيل أي تجذير الدلالة في سياق التفاصيل بوصفها جزءاً مكمّلاً لجماليات التعبير..
فما يفرضه الواقع يمثّل قيمة تعبيرية، وعليه فإنَّ المصطلحات في هذا الشأن كالخيثراس والقشتاليين ويوليان عمدة المدينة وشنيروس راهب محكمة التفتيش أو ثبيلس ليست إلّا السلسلة التركيبية التي تحافظ على التماسك والتجانس في لغة السرد.
مهما كانت الأفكار الواردة فما يميّز القصّة إنّما هو توسّع مداها الفكري خاصة في تناولها موضوعاً طريفاً يسمح بالتأويل في مستويات عديدة تختلف أشكالها باختلاف دلالاتها الإيحائية، وما يمكن تشخيصه بالتحديد يمكن أن يحتفظ بمعنى جوهري يتمثل بمستواه النفسي أو الإيحائي الشائع ليكون تعبيرياً عن وضع خاص حدث في الماضي فحواه (ثقب) ومردّه واقعة تتحول جدليّاً إلى موضوع قابل للتأويل الدلالي:
فلنتأمل الفقرة بعد مغادرة السارد الساحة:
“تنتهي رحلة الساحة فأعود إلى البيت مخبئاً الثقب بغطاء رأس، أبحث عن حجازي فأجده لا يزال يناقش طيات البنطال، يشير لهم بأصابعه وانفراجة فم مثل مغارة فيمضون بقطيع ضحك متقطع، أتركه هناك مثلما تركته في الصباح مثلما أتركه غداً وتركته قبل أعوام” ص88
ولنلاحظ التركيب الدلالي لكلمة مورو التي اكتسبت معناها من صفتها:
“عندما فسر لي معنى لوح منتصف الساحة استغربت بينما لم يحرك عضلة واحدة وقلت له: ولكن أنت أيضاً مورو مثلي .. آه”ص88
هذا مثال يظهر قوة التشبيه والمعنى الدلالي من ديالوج سردي يبرز فيه السارد ذاته لتخترق وعي الكلمات، وذلك لاستحضارها بمزية تجسّد حضورها بقوة:
“ألفّ الشوارع متلمساً حيطانها ودكاكينها ومباغيها عسى أن يكون عالقاً في علبة كحول منسية أو ملفوفاً كفاكهة متعفنة بخرقة بلاستيكية أو مانع يستهلك بنفضة واحدة” ص89
يجتهد الكاتب في استحضار تمزّقات الماضي بسمات غير معهودة تبدو غريبة نوعاً ما عن الواقع لتأثيرها النفسي الذي يثير عواطف جيّاشة يتكفل بداهة بإبرازها السرد..
“مدي إصبعك، لا تخشي شيئاً لأنه ليس وليد مبارزة عاصفة ولا ضربة مروحة طاحونة مسحورة ولا مسمار عبودية غير أنني أتذكر أنه ــ في ذلك المكان الذي لا أريد أن أذكر له إسماً ــ سبق أن وسموا جسدي بكل أصناف العقوبات ونسوا أن يثقبوا جبهتي، ومع ذلك خرجت ووجدتني في وسط الساحة أمامكم ولا شيء يعلمني سوى هذا الثقب، ثقبي الذي تتحسسونه وتتبعون التحسس بـ “آه” تتوجعون من دبق الثقب، ما بالكم لو تحسستم خيط بداية” ص90/91
تلتحق هذه الفقرة في جوهرها بالفقرة السابقة لتمنحها القوّة، هنا يجب أن تتكامل السلسلة الفكرية لتؤلّف صورة تركيبية واحدة، ويمكن لهذه المعادلة أن تعطي إحساساً عالياً بانتمائها إلى البنية التعبيرية المندمجة في التسلسل العماري لوحدة العائلة.
“ألانه يذكركم بما يمكن أن يفضح تحفظاتكم أن يعري رقة الجلد لديكم، والخشية بعد ذلك من قرص بعوضة مثلا، إنه ثقب لا أذكر كيف جملته، خرجت من كل شيء (في المكان الذي لا أريد أن أذكر له إسماً وكل شي لصق بي ذلك أنه هو.. هو الذي تعود أن يتبول على ضوء القمر ولا يعلم أن هناك من سيقول (آه) أيضاً ويقرض له شحمة عرنوسه الممتد لملامسة الهواء، فلم يلامسه وعاد له بلا شحمة.. لماذا؟” ص91
يبدو هنا أنَّ السارد وجد في موضوع التمزّقات الانسانية سبيلاً لفكرته، وقد سعى في جزء منها إلى إعادة الصور المستترة إلى المشهد الحالي وموازنتها بما هو شائع يحتفظ بطبيعة مسالمة، وإذا كان الماضي يحمل أثراً سلبياً، فإن مخاطبة عوالم المومأ إليه تعبّر عن دلالات وعلى القارئ أن يقوم بتأويلها كواقعة من زمن مُستلب:
“ولأنني منشغل بالقرع على علبة النقود بلا نقود، مستمر بحكاياتي، بينما هم مسالمون، لا يدركون الشر، يتقفصون بالملل يبحثون عن شيء نافر، شيء يطفر وينادي فيتجمعون عنده، هم لم يسمعوا بديناصورات ولا تمرغوا أبداً بستر حديدية” ص91
ما نكتشفه في هذه المتوالية الدلالية عمق المعاني، تقوم الفكرة على سرد يختزل مأساة مركبة تتحقّق وظيفتها التعبيرية بفضل معانيها، ولذلك تغدو هذه المأساة بحق نقطة مفيدة نستنبط من مدياتها أحداثاً ترجع إلى الماضي السحيق:
“رأيته هناك وذكرني بضوء قمر وبالنجمة وبقطع أذن ودوران رفيق عبر صحراء” ص91
يلزم تطوّر البنية السردية تطوّرٌ مماثل في البناء التركيبي اللغوي والذي لا يبنبغي له أن يخرج البتّة من سياقه المعهود، فهذه اللغة تغدو أُنموذجاً صارخاً يمثّل أقصى حالات الصرامة التعبيرية التي يتجسد الخيال بفضلها ما يضعها ضمن سياقاتها الطبيعية المتماسكة، وهي ما تكشف عن إبداع أصيل يحتفظ بتميزه الجذري:
“قالوا إنَّ الفتاة بإصبعها الممدودة قادت مسيرة مطالبة بحرية الكشف عن آذانهم المثقوبة بالحلق من ذهب أو تنك ولم تته في صحراء” ص93
أمثلة عن التشبيهات الدلالية:
ما يجعل الأسلوب مقبولاً والتصوير لافتاً للنظر لا سيما في طيران البياض في غرفة الأخت، فالواقع أن لذلك قيمة مختلفة:
“لأن الجميع يؤكد، فالافتراض أنها لا تزال في غرفتها، مثلما الأم هي أيضاً تنوح وتتذكر (أبو كاظم) فلا أراها ولكنني أسمعها بين الحين والآخر تئن وحدها، أو منذ طيران البياض في غرفة الأخت، تتجادلان وتشتكيان وتسندان الواحدة حنك الأخرى وتميلان حتى ملامسة الأرض” ص55
فثمة محاولة ذكية تحتفظ بمعنى ما وبشيء ما وبصورة ما، وهذا التشبيه بالفعل مميز من حيث الرؤية والتجليات:
“ولكن البياض الذي يحضرني لم يكن غير هيأة الرداء وكأنه يطير برفرفة تحد منها ملاقط تشبكه وكأنه منشور على حبل غسيل” ص55
فلنلاحظ ما يلي التشبيه هنا حين يصوّر السارد ذاته إلى حشرة طنانة كمظهر أولي، وكذلك حين يرقى التشبيه إلى مستوى يجعله ملطفاً ليُرمز به إلى دلالة عميقة كما نلاحظ ذلك في السياقات الآتية:
“تحمل عواءهم المستديم من أقبية الأخفش قبل ليلة مواقعته الأخيرة كي تنجبني بعد أجيال لم تنقرض، فتركت لي أن أنقرض مثل حشرة طنانة” ص44
“في ليل كقطعة غراب أصيل” ص42
“فتهالكوا خطوة إثر أخرى في مسير كقطعان جيش فار” ص43
لا شك في أنَّ هذا التشبيه الجمالي، إنّما هو في حقيقته يحمل دلالة لها قيمة مشابهة لما سبقها من المعاني:
“تظن أنك ما زلت تراوح في مكانك مثل عقاب الجندي” ص50
[لحظة الرفرفة في الغرفة] ص55
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) “لا أعرف من أنا، بعد أكثر من بحر وأكثر من باب” إدواردو متري
(2) “لذا لا بدّ من أن يكون هذ الشاخص أمامه برأس مقلوب مثل رأسه هو ابنه، فيجران الأنة معاً ويسران بعضهما، ويعيد عليه ما جرى له في طيرانه الصحيح ذاك، إذ لم يكن مثل طيران العم بجناحين من خشب، ذلك أنه يبحث عن منفذ من بين شتلات الآس والدفلى قرب مضمار سباقات الخيل، ولما عثر عليه أخفى نفسه حتى النهار التالي. في النهار يقول أكثر أمناً من الليل هناك قرب مضمار السباق الذي منه تدخل إسطبلات لا حصر لها” ص15
“جدي أراد أن يحك شعر رأسه ولم تسعفه فكرتان في آن واحد، فالتجأ إلى الفراش، بال قبلها ثم نام، بينما الذي أتى بعده بسنوات لا قيمة لها، فهي واللحظات سواء، لم ينم وشعرَ بفورة دمه تجره إلى مساحات بكر سيقطعها على صهوة جواد سرقه من حظيرة شخص لم يحظ برؤية بريق عينيه ولا دبق زوجته” ص34
(3) “أنا بلا حكاية، بلا حكاية مقنعة أجلس في أقرب زاوية أو مقهى أو دكان أستمع للجميع ولا أجد لدى أحد استعداداً لسماع ثرثرتي تلك التي يقصها الآن من تناديه بـ (ابني) ويضيف أنني جلست سنوات بلا همسة أراقب وأراقب ولا أمل من أن أحكي لهم عن أعمام وأخوال وأم وأب وأخوة يطيرون بنفخة ريح مثل ورق جاف”ص17
“هل حقاً ذلك ما دار بذهني وأنا على سطح البناية أهيئ نفسي لسقوط هادئ دون ضجة مفكراً أنني أنقذ إرث العائلة” ص35
“فلا أحد منا أقصد جدي أو أبي أو أخوتي، قد استطاع أن يطير ويختطف رأس العائلة المحشو بالتبن والمحنط في صندوق زجاجي عرضة لأنظار السياح في متحف تركي” ص35
“عندما صرخ الجدّ: أنا أطير صرخت بندقية الباشا أيضاً، ولم يسمع أحد صراخ شبح بعيد إلتفّ بغطاء رأسه وغفا للمرة الأخيرة في بلمه. ذلك أن الجميع إلتفت، كذلك الباشا، ورأوا جدي معلقاً من لباسه بحربة الصواعق أعلى البناية. زلقت قدماه وتشابك لباسه بينما لسانه لا يعجز عن ترديد أنه يطير”ص35
(4) “عن أبي: إنّ أصلابنا تعود إلى آخر الزفرات في بطن جارية للحجاج حين أطبق ترسه على طين أضلاعها في فراش القيلولة حتى غفا في وفرة الدفء والدبق ودسم فروج مشوي ما زالت هشاشة لحمه تحرق تفاحة رقبتي. أنا حفيده بعد عشرات القرون أو بعد مائة ألف نفس تتبعني مطالبة بعودته، وهم يرحلون ويعودون كلّ ليلة، يستذكرون وجهه الأخفش من على ناصية خشبة الطاعة” ص41
“أواصل تقصي الكتاب فأجده يتحدث عن الحشر، فأضيق أركان منامي، وعدة مأكلي ووفرة أرديتي، حتى أنني لم أترك لحافاً واحداً يذكرني بالدفء، الدفء الذي لم ينج أعمامي من محنة لحية الجد المتطاولة كل يوم بمقدار شبر كطابوقة ذراعه وهي تصفقهم، لأن الجد يمارس لعبة عذابه كلّ مساء قرب مدفأة الخشب المتقد باحتراق شهي بدا لهم. لا يفرقون بعدها بين لعبة وأخرى، أقصد رفسة وأخرى، فتقترب منيتهم مع منيته، منية من خالط ظهر أمهم ـ جدتي ـ يصك عليهم جهات النار دون أن يقلد طارق بن زياد ولا يصرخ برطانته في الجزيرة الخضراء، ولكن أحدهم سيعيش هو أبي وهو بالطبع كذلك وإلّا فلست بالذي يبقى كي يقص تمارينه الصباحية مع وقع اللوح وفقاعات اللحم الطازجة مع كل فجر” ص42
(=)– أحدهم الذي تسميه صاحبة اليد الرقيقة (إبني) يذكرني بهم إذ كان له أعمام بأجنحة من خشب، وأخوال يضيعهم الناس من كثرة ما نحتوا رؤوساً آدمية وأخوة يحلمون ببياض رقيق ـ وليس بعشبة خلود ـ مثل تلك التي بحث عنها من يسمونه كلكامش” ص15
– “لذا لا بدّ من أن يكون هذ الشاخص أمامه برأس مقلوب مثل رأسه هو ابنه، فيجران الأنة معاً ويسران بعضهما، ويعيد عليه ما جرى له في طيرانه الصحيح ذاك، إذ لم يكن مثل طيران العم بجناحين من خشب، ذلك أنه يبحث عن منفذ من بين شتلات الآس والدفلى قرب مضمار سباقات الخيل، ولما عثر عليه أخفى نفسه حتى النهار التالي. في النهار يقول أكثر أمناً من الليل هناك قرب مضمار السباق الذي منه تدخل إسطبلات لا حصر لها” ص15
– عرفت ذلك اليوم أن رئيس الوزراء سيطير بطائرة خاصة حتى مكان بعيد، لم يعلموني عن اسم البلد، ولما ألححت نبهوني الى أن ابتكار حكاية مقنعة ليس بالضرورة أن تكون موثقة بالأماكن والأشخاص” ص16
– “ربما تفكرون أنني الوحيد بلا وريث بعدي، أتجرا وأقفز منزلقاً مثل بطة في نهر هو ذلك وليس هو، فقد مررت ببوابات الجيران أطرق عليها وأنبئهم مهمتي من أعلى البناية، أردت أن يمنعني أحدهم، ينبهني إلى خوفي وهو يثرثر مع نفسه: (مسكين هذا المورو) أن يجرني جار ويربطني من قدمي ويدي فوق السرير وليتركني أركل بجسدي وأصرخ مثلما خمنت تمويهاً لكل شيء. وحيد الآن إلّا من فتوقات الريح وأنا أخترقها بانزلاقي البطيء، إنزلاقي يتلكأ، أجده بطيئاً يتعثر بهيئات تصم الآذان بالقطن، رؤوس محشوة بالتبن ولا تنم عنها تحريكة حاجب، عم بجناحي خشب وكتاب تفسير الكلمات أو هذا ما افترض لأمنح تزويقاً لتاريخ عائلتي، يقول إنه يطير والقشلة تنبت من جديد بلا باشوات ولا حرس، ولا تحتاج إلى مفاتيح لتسرق. الكل تتهيأ له فرصته فيعارك انزلاقي، يشاركوني الحوار، يتخذون حيزاً عبر الفراغ، فيؤثثون أماكنهم حكاياتهم، رغباتهم ولا أحد يعينني بالحديث عن الطيران الذي أنا به” ص38