فصول من كتاب “الثقافة” للكاتب والمنظّر الأدبي البريطاني تيري إيغلتون(3)

*ترجمة وتقديم :  لطفيّة الدليمي

 

   ظلّت مفردة ( الثقافة ) واحدة من أكثر المفردات إشكالية على صعيد المفهوم والتطبيقات ، كما ظلّت الدراسات الثقافية – التي تعدُّ حقلاً معرفياً تتداخل فيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وتأريخ الأفكار واللغويات والفلكلور والسياسات الحكومية المؤسساتية – ميدان تجاذب لم يخفت صدى المعارك الفكرية المحتدمة فيه وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وحيث باتت الثقافة وسيلة من وسائل القوة الناعمة في الحرب الباردة ثمّ إنقلبت سلاحاً من أسلحة العولمة التي تسعى لتوسيع نطاق الرأسماليات الرمزية المدعمة بمصنّعات مادية تُعلي شأن الإقتصاديات المتفوقة وترسّخ سطوتها على الساحة العالمية .

   أقدّم في هذا القسم ( وأقسام أخرى ستُنشرُ تباعاً ) ترجمة لفصول منتخبة من كتاب ( الثقافة Culture ) المنشور عن جامعة ييل الامريكية العريقة عام 2016 للكاتب البريطانيّ الذائع الصيت ( تيري إيغلتون Terry Eagleton ) ، وهو ناقد ومنظّر أدبيّ وباحث في حقل الدراسات الثقافية وسياسات الثقافة . نشر إيغلتون العديد من الكتب وقد تُرجم بعضها إلى العربية ( ومنها مذكّراته التي نشرتها دار المدى بعنوان ” حارس البوّابة ” عام 2015 . تجب الإشارة هنا أنّ كتاب ( الثقافة ) هو كتاب مستقلّ ومتميّز عن كتابٍ آخر نشره إيغلتون من قبلُ بعنوان ( فكرة الثقافة ) وهو مترجم إلى العربية .

                                                         المترجمة

                          الثقافة والحضارة – تتمّة

 

   إنّ فكرة الثقافة باعتبارها الطريقة الكلية في عيش الحياة قد تكون أكثر صواباً عند تطبيقها على المجتمعات القبائلية أو ماقبل الحديثة بأكثر ممّا هو الحال مع المجتمعات الحديثة ، والحقّ أن دراسة الجماعات ماقبل الحديثة هي إحدى المصادر التي إنبثقت عنها فكرة الثقافة باعتبارها طريقة كلية في عيش الحياة ، ولايعود هذا الأمر لكون هذه المجتمعات تشكّل وحدات كلية عضوية الطابع ؛ فليس ثمة مجتمعات ” كلية ” بالمعنى الذي يفيد أنّ تلك المجتمعات مُبرّأة من التصارع والتناقض ، وإنّما لأنّ الأمر قد يغدو معقّداً وشاقاً للغاية في الأوضاع السائدة في الجماعات ماقبل الحديثة إذا ماحاولنا رسم خطّ محدّد فاصل بين الممارسات الرمزية من جهة والفعاليات الإجتماعية والإقتصادية من جهة أخرى : إذا ماأردنا – لنقُلْ مثلاً – تضمين العمل والسياسة تحت لافتة الثقافة عند الحديث عن أقوام الدينكا* فإنّ الأمر له دلالته المفهومة ذات المعنى بأكثر من الحالة التي يجري فيها الحديث في الشأن ذاته لدى الدنماركيين ؛ إذ أنّ ( الرمزيّ ) و ( العمليّ ) في العصور ماقبل الحديثة يبدوان متّحدين ووثيقي الصلة بأكثر ممّا هو الحال عليه في العصر الحديث . لاتجنح الجماعات القبائلية ، على سبيل المثال ، إلى اعتبار العمل والتجارة فعاليتين تشكّلان ذلك الهيكل المستقلّ الذي يُدعى ( الإقتصاد ) والذي يتمايز تماماً عن المعتقدات الروحانية والفعاليات التي هي دوماً موضع تكريم وتبجيل لديهم ؛ في حين أنّ الفعاليات الإقتصادية في العالم الحديث – وعلى العكس من سابقتها – قلّما تكرّس جلّ اهتمامها بالحقوق والسلوكيات الفردية ولاتنظر لها باعتبارها المقدّس الحديث : إنّ مديرك في العمل لايشعر البتّة بأنّه مسؤول مسؤولية أخلاقية في الرعاية الأبويّة لرفاهيتك وطيب عيشك بعامّة ، بل هو حتى غير ملزَمٍ على الأقلّ بأن يُشعِرك بأنه يفعل هذا الأمر بطريقة محسوسة لك   ، وأنت في المقابل تعمل – ببساطة – لكي تبقى حياً وتعيل نفسك أو لكي تجني ربحاً مشتهى وليس لكي تظهر آيات الإجلال والخضوع للإله كلّي القدرة ، أو لكي تؤدّي فروض الواجبات الملزمة تجاه السيّد الإقطاعيّ ، أو لكي تفي بنصيبك المخصّص لتدعيم نسق القرابة القبائلية الذي تعيش في ظلّه ، وهنا تمضي الحقائق الإجتماعية بالإنجراف بعيداً عن القيم الثقافية – وتلك صيرورة تترتّب عليها أشكال جديدة من الحرية مثلما تأتي بأشكال جديدة من الأعباء والمشقّات . تستطيع الآن بيع نتاج عملك لمن يدفع لك أكثر من سواه – على سبيل المثال – عوضاً أن تكون مقيّداً بكاملك إلى سيّد أوحد يتحكّم بك ، ولم تعُد السلطة اليوم تدثّر نفسها – بسهولة – بعباءة السطوة الروحانية . أصبحتَ اليوم أقلّ إحساساً بالشعور المقيّد تجاه سطوة التقاليد القهرية التي لايمكن الوقوف بوجه طغيانها العارم ، وتحرّرتَ من الواجب – الأقرب للضرورة الثقيلة – القاضي بتبادل المزاح مع إبن عمّك كلّما وقعت عليه عيناك .

   أنظر إلى الإختلاف الشاسع بين الفلّاح الريفيّ في القرن التاسع عشر وعامل المصنع في العصر الحديث : تبعاً للتقاليد السائدة في الملكيات العقارية الصغيرة فإنّ العمل والحياة المنزلية يتداخلان تداخلاً وثيقاً بأكثر ممّا هو عليه الحال في مدينة طواحين حيث الحياة الصناعية شيء والحياة المنزلية شيء آخر مختلف تماماً . الفلّاحون الريفيون – على سبيل المثال فحسب – يأتون بمواليد جدد للأسباب ( البيولوجية ) ذاتها التي تدفع آخرين لإنجاب أطفال ؛ غير أنّ المؤمّل في هؤلاء المواليد أن يكبروا ويتشاركوا عبء العمل في فلاحة الأرض مع آبائهم ، وسيرعون هؤلاء الآباء عندما يبلغون من العمر عتياً ، وسيرثون في نهاية الأمر ذلك النصيب المتواضع من بضع إيكرات** من الأرض ، وبالنسبة للأطفال فبالإضافة لكونهم كائنات ذات جاذبية فاتنة فإنّهم يمثّلون قوّة العمل المتاحة ومنظومة الرفاهية العائلية وإستمرارية البقاء المستديم للمزرعة . في الحضارة الحديثة ، وعلى العكس ممّا سبق ، فإنّ من الصعب التصريح لِمَ يتمّ إنجاب الأطفال ؛ فهم لايعملون – مثلاً – ويفتقد بعضهم لجاذبية معقولة ، كما أنّ كلفة إعالتهم باتت تبلغ مستويات عالية إلى حدّ بلغ معه التفكير بإنجاب المزيد منهم مسألة غير عقلانية تماماً . بات أمر العناية بالأطفال اليافعين واحداً من أكثر المهمّات تطلباً ومشقة وعسراً بين المهمّات التي عرفتها الإنسانية في تأريخها الطويل ؛ لكنّما من المثير حقاً ، وبرغم كلّ المعطيات السابقة ، أن الجنس البشريّ الحديث يميل إلى الإبقاء على نوعه عبر التكاثر البيولوجيّ النوعي ؛ في حين ليس ثمة أيّ سبيل للتساؤل عن المنفعة المُجتناة من الأطفال بين الفلّاحين الريفيين والمُزارعين الأجَراء .

   في مثل الأجواء الموصوفة أعلاه فإنّ من تختارُها زوجة لك قد يكون – جزئياً – مسألة محكومة بعوامل إقتصادية ، وهو أمر يعني وجود القليل من التمايز الحاد وحسب بين أنماط النزوع الجنسي ( الجنسانيّة sexuality ) والملكيّة بالمقارنة مع الحال السائد في مدينة  أوهايو الصغيرة ؛ إذ الجنسانية في المجتمعات القبائلية قلّما تكون أمراً يختصّ بالموسيقى الهادئة أو دعوات العشاء التي توقد فيها الشّموع بقدر ماتختصّ بموضوعات المهور ووسطاء الزواج ، والحقّ يُقالُ أنّ  قطاعاً واسعاً من سكّان تلك المجتمعات سيكون – من المحتمل على الأقلّ – محظوظاً للغاية لو حظي بدعوة عشاء كيفما جرى ترتيبها ، ولن يكون أمراً مهمّاً حينذاك أن توقد الشموع أم لم توقد !! . إذا كان هذا التداخل الوثيق بين الأمور الجنسية والإقتصادية مؤشّراً للتراتبية الدنيا في المجتمع الريفيّ فهو خصيصة ملازمة كذلك لطبقة الأرستقراطيين والنبلاء مالكي الأرض : الزيجات الحاصلة بين الطبقات العليا ، على سبيل المثال ، قد تشتمل على ضمّ مِلْكيّتين عظيمتين مثلما حصل في إتحاد ملكيّتي ( توم جونز ) و ( صوفيا ويسترن ) في خاتمة رواية هنري فيلدينغ Henry Fielding  الموسومة توم جونز Tom Jones ، أو قد يحصل نوع من الإتحاد المتبادل – القائم على تبادل المصالح – بين رأس المال العقاري والصناعيّ .

   ثمة ظروف محدّدة ، إذن ، يكون من المعقول فيها توسيع مفردة ( الثقافة ) ومدّها لتشمل الوجود الإجتماعيّ بكُليّته ، ويمكن فعل هذا الأمر طالما لم يكن المرء متلبّساً بمحض نوازع نوستالجيّة ( لها علاقة بالحنين إلى الماضي الغابر )  : لاينبغي فهم الأمر على أساس أنه دعوة – مثلاً – لتأكيد التصوّر بأنّ الحياة اليومية في بريطانيا ماقبل حقبة التصنيع الواسع كانت أفضل نوعياً من الحياة اليومية في شيكاغو الحديثة ؛ بل على العكس كانت أسوأ بكثير ومن جوانب عدّة . كذلك لاينبغي تصوير المجتمعات القبائلية في إطارٍ من الرمزيات المثالية : إعتماداً على خلفيات وصفيّة خالصة ، على كلّ حال ، يمكن القول أنّ ( ثقافة الطوارق*** ) قد تشتمل على فعاليات إجتماعية يومية أقلّ مشقّة ممّا هو سائد في ( الثقافة التكساسيّة ) ، ومن العسير حقاً التفكير بأنّ حفر آبار النفط أو الإحتفاظ ببندقية كلاشينكوف تحت غطاء سريرك أمور تنتمي للمجال الثقافي . ثمة موضوعة أخرى مؤثرة بدرجة كبيرة : إنّ نسبة لايُستَهانُ بها ممّا يحدث في المجتمعات التي بلغت شأواً عالياً في التصنيع غالباً مايُنظرُ لها على أساس كونها فعاليات غير ثقافية بمعنى كونها غير ذات فائدة بيّنة . مناجم الفحم ونسّاجات القطن الآلية – مثلاً – تنتمي إلى طائفة الضرورة المادية وليس إلى طائفة البيئات التي توفّر الحريات الروحية ؛ وهي على هذه الشاكلة تعدّ فعاليات غير ثقافية بالمعنى العُرفيّ بقدر المعنى الذي تفيده الدلالة الوصفية والذي يرمي لكشف المعنى عن نوعية الحياة الطيبة المرجوّة من وراء هذه الفعاليات . ينطبق هذا الأمر ، وبشكل أكثر وضوحاً ، على معظم أشكال العمل في الجماعات ماقبل الصناعية ، وإنّ الأمر الذي إنبثق مع الثورة الصناعية ، على كلّ حال ، هو تمرّد متسربل بالحماسة ضدّ الحضارة التي سادت في عصر التصنيع والتي تبدو مفلسة بالكامل في أيامنا هذه . هذه هي – بشكل أو بآخر – رؤية الرائين البالغين مثل : فريدريك شيلر ، جون رسكين ، وليم موريس ، وهي كذلك الرؤية ذاتها التي رآها دي. إج. لورنس الذي كتب بشأن إنكلترا الصناعية : ” غدت مثالاً علوياً طارداً للجمال الطبيعيّ ، ولبهجة العيش ، مثلما غدت تمثيلاً للغياب الكامل لغريزة البحث عن الجمال الخارق التي يبديها كلّ طير من الأطيار مثلما تُبديها حتى وحوش البرّية … ” ( 5 ) . الحضارة في يومنا هذا حقيقة واقعة نلمسها على الأرض ؛ أمّا الثقافة فموضوعة تختصّ بالقيم في المقام الأوّل ، وفي سياق هذا الفهم تبدو الثقافة اليوم شيئاً ماكثاً في الماضي ولايمكن إستعادته – إنها الفردوس الذي فقدناه وروضة الجنان السعيدة التي طُرِدنا منها بفظاظة ، ويبدو المجتمع العضويّ الذي نعرفه في أيامنا هذه مختفياً على الدوام في الأفق التأريخيّ .

                     ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  دينكا Dinka : جماعة سودانية تعيش على ضفاف حوض النيل . ( المترجمة )

**  إيكر acre : مساحة من الأرض تعادل ( 4047 ) متراً مربّعاً . ( المترجمة )

***  أقوام رعوية بدوية من البربر ، تعيش وسط وغرب الصّحارى الأفريقية وبخاصة في الجزائر ومالي والنيجر وغرب ليبيا . ( المترجمة )

__________
*المدى

 

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *