كان ذلك أول بالون لي في حياتي وربما أول بالون يدخل قريتنا ويركض في أزقتها، وكان أحمر موشحاً بخطوط صفراء حين صار يتمدد أمام وجهي وأنا أنفخ فيه، وكان رائعاً للغاية حين طفق يكبر أمامي وكل مكان فيَّ يكبر معه، وكانت نظراتي ترقص ولا تستقر على مكان واحد، وياقة قميصي لمحتها بطرف عيني وأنا أنفخ كما لو أنها تتحرك لوحدها . وكل ذلك كان يحصل وخطوط البالون الصفراء تتمدد وتزداد طولاً إلى الأمام مع كل نفخة , حتى إذا انتهيت وأفرغت كل ما في جوفي أعطيته لأبي ليربط فمه ويعيده لي . أحسستُ وأنا أعطيه البالون كما لو أنني أعطيته الفرح معبأ في بالون، وخال لي وهو يأخذه مني بحذر شديد كما لو أنه يحتاط ليتعامل مع أهم شيء في هذه الحياة، وحين صار يربط فمه حتى لا يتطاير منه شيء عرفتُ أن قيمة البالون مرهونة في الهواء الذي نفخته فيه . فاقتربتُ منه أكثر والتصقتُ به وصرتُ أتطاول على رؤوس أصابعي وأتابع عملية الربط التي يلويها أبي بمهارة، وما هي إلا لحظات حتى ناولني البالون مربوطاً ومنفوخاً بفرح أظنه من بواكير فرحي الأول، ثم ابتسم في وجهي وأعطاني ظهره وخرج من البيت وتركني يومها أسعد طفل على وجه الأرض . وضع البالون بين يدي وتركني أشعر كما لو أنه وضع بين يدي العالم بأسره، فوقفتُ لدقيقة أفكر في الطريقة المناسبة للتعامل مع هذا العالم، وفات هو ناحية الزقاق المؤدي إلى الجامع، وبعد دقيقة انتعلتُ أنا حذاء العيد الذي اشتراه لي وخرجتُ وملتُ إلى الجهة الأخرى وبين يدي الفرح الذي كان في جوفي، لكنني بعد دقيقة أخرى عرفتُ أنني ارتكبتُ أكبر خطاء في حياتي.
لن ألوم أبي، لالا لن ألومه . فهو لم يتركني في غفلة حين حذرني وطلب مني أن أنتبه حتى لا يطير البالون من بين يدي . ولم يتركني في غفلة حين أخذ يدي الاثنين من اليمين ومن اليسار وثبتهما جيداً حول البالون، وإذا كان من لوم عليه، فهو فقط لم يقل لي أن كمية الهواء التي نفختها في البالون هي كمية الفرح التي كانت في داخلي، ولو قال لي ذلك لكان من المحتمل أن أعيد الهواء إلى جوفي وأعيد له البالون رخواً حزيناً بلا فرح، أو – على الأقل – كنتُ نفختُ نصفه وتركتُ النصف الآخر في داخلي وتقاسمنا بذلك الفرح أنا والبالون، لكن ما حصل أنني نفختُ كل الفرح الموجود في جوفي إلى جوف البالون، وبعد دقيقة خرجت وبعد دقيقة أخرى كنتُ أركض خلف البالون وبعد دقيقتين وقفتُ في نهاية الزقاق أنظر له من الأسفل، وبعدها بسنوات عرفتُ أن الفرح هو شيء خفيف وسريع كالهواء يمكن أن ننفخه في بالون ويمكن أن ينفخنا كالبالون .
يومها كان يوم عيد، وكنتُ مرتدياً ملابس العيد حين نزعتُ الطاقية بسرعة ورميتها وراء باب البيت وخلعتُ الحذاء الجديد حتى لا يعيق سرعتي ووضعتُ طرف سوريتي العربية الفضفاضة في فمي وانطلقتُ أركض خلف البالون . بدت خطواتي الأولى سريعة حتى ظننتُ أنني سأصله قبل أول منعطف للزقاق، وكان الهواء الذي يدفع البالون يدفعني أنا أيضاً من الخلف، وكان هو بالون أحمر منتشياً يتقافز من الفرح وكنتُ أنا خلفه اركض، وكان الفرق بيني وبينه أنه فرحان . وبعد مسافة صرتُ أشعر كما لو أن الهواء بداء يجتازني من اليمين ومن الشمال ويتقدم ليلاعب البالون ويدفعه ويرفعه مرة بعد مرة عن الأرض، وشيئاً فشيئاً صارت المسافة بيني وبينه تزداد , فينعطف هو مع كل منعطف فأنعطف خلفه، ويستقيم حين يستقيم الزقاق فأستقيم خلفه، ثم طفق يرتفع أكثر فأكثر ثم طار فوق أسطح البيوت، فحاولتُ أن أطير خلفه فوق السطوح لكنني لم أجد في داخلي فرحاً أطير به، وبقيتُ اركض تحته حتى اختفى البالون واختفى فرحي فيه.
عندها فقط وقفتُ وبكيتُ بحرقة شديدة لم أبك مثلها حتى بعد أن كبرتُ وتجاوزتُ منتصف العمر ولا أتصور أنني سأبكي مثلها حتى لو كبرتُ ورددت إلى أرذل العمر.
عدتُ يومها إلى بيتنا وأنا حزين كل الحزن . عدتُ وكنتُ بعد كل ثلاثة وأربعة خطوات أقف وأنظر خلفي . عدتُ ولم أعرف قبلها أن الفرح هو شيء كما كل الأشياء يمكن تعبئته في بالون أو في كرتون ويمكن حمله من مكان إلى آخر . عدتُ ولم اعرف قبلها أن الفرح هو شيء يمكن أن نأخذه من فلان ونعطيه لفلان . عدتُ ولم اعرف قبلها أن الفرح هو شيء يولد حتى من بالون ويكبر فينا كما يكبر البالون ويمكن أن ينفلت من بين أيدينا ويطير كما يطير البالون.
ما كنتُ أعرف كل هذا إلا ساعة صرتُ أركض خلف فرحي الذي نفخته من داخلي في بالون أحمر يحمل على ظهره خطوطاً صفراء.
ولو كنتُ أعرف ما فعلتُ، ولو كنتُ أعرف لما نفخت، ولو كنتُ أعرف لكان من المحتمل أن أعيد الهواء الذي نفخته من جوفي إلى جوفي وأعيد البالون رخواً حزيناً إلى أبي . لكنني لم اعرف شيئاً من هذا إلا ساعة طفقت المسافة بيني وبين البالون تزداد وصار أمل اللحاق به يتضاءل وينعدم رويداً رويداً، وصار هو في آخر الزقاق وأنا في أوله، وصار الهواء يرفعه ويطير به فوق السطوح وأنا أنظر له من اسفل وأتصور أن الطفل الذي سيصادفه ويمسك به سيمسك حتماً بالوناً مملوء بالفرح , ولو حمله هذا الطفل بين يديه ودخل به إلى بيتهم فهذا يعني أنه حمل فرحي بين يديه ودخل به إلى بيتهم، ولو اعترضت طريق البالون شوكة قبل أي طفل عندها سينفجر البالون ويتلاشى منه الفرح تماماً كما تلاشى مني . فجلستُ في مكاني وبكيتُ بكاء متواصلاً ثم وفقتُ وعدتُ إلى بيتنا وكنتُ بعد كل ثلاثة أو أربع خطوات أقف وأنظر خلفي…