خاص- ثقافات
*جابر السلّامي
رأيتُ غرابا. كنت في طريقي إلى العمل في شارع الأمبريال عندما شاهدت طائرا ينبش بين الأشجار المطلّة على بحيرة أنسي الجبليّة. بدا لي غرابا تعيسا، ككومة يأس سوداء.
أحمل محفظة الحاسوب المحمول مسرع الخطى ككل صباح، أنتظر الحافلة المتّجهة إلى المنطقة الصناعيّة ثم أعود بعد الدّوام سالكا الطّريق نفسه. لو أمكن لي اختيار عمل يروق لي لاخترت عدّ الطّيور المهاجرة إلى مركز دراسات بيئيّ. لا أحبّذ مهنتي الحاليّة. بالنّسبة إليّ، الهندسة الصّناعية كارتطام رأس آدميّ بمجمع صناعيّ. أحبّذ الأماكن اللاّنهائيّة أكثر.
الغراب يتحسّس الأعشاب بمنقاره الأسود، يرفع رأسه هنيهة ثمّ يبحث مجدّدا عن ضالّته. مشاهدة غراب أمر عاديّ لا غرابة فيه، ذلك أنّه إن أمكن للنّاظر إليه قول شيء ما بصدده سيقول “رأيت غرابا”. وككلّ طائر باحث عن شيء ما، يصحّ القول بأنّ هذا الطائر هو غراب أسود.
انتبه إلى مروري بجانبه، فتح جناحيه ثم ابتعد قليلا وانهمك مجدّدا في نبش الأعشاب. لست أدري لماذا لم أصرف عنه ناظري، كما لو أنّه سيصرّح للبشريّة بنصّ روحيّ تاريخيّ. انتظرت أن يصدر منه أمر ما، كتحيّة متملّقة أو لومٍ حادٍّ.
تهيّأ لي أنّه يقول:
– واصل طريقك، لا شيء لك عندي.
تثاقلت خطواتي حتّى توقّفت واستدرت بكامل جسدي صوب الغراب، وضعت محفظة الحاسوب أرضا ثم حدّقت في ذلك الطّائر الأسود مليّا باحثا عن حقيقة لم أستوعب فحواها. أكان الذي كلّمني للتّو غرابا؟
– ألم تسمع جيّدا ما قلتُه، لا شيء لك عندي.
تردّد الصّوت مجدّدا.
صباحا، كنت مستعدّا للغرابة. تتكرّر الصوّر نفسها أمامي كألبوم حرب قديم، طقسٌ بارد رماديّ وأناس لامبالون متوجّسون من أشياء لا توجد. لا بأس بمفاجأة تعيد حياكة السّائد والمألوف. هذا ما كنت أنتظره.
اقتربت منه حتى صرت على مرمى حجر منه، لم أشأ إزعاجه في حقيقة الأمر لكنّني مصمّم على استنطاقه. لم يسبق لي أن استنطقت غرابا، الأمر في مجمله شيّق. لم أفكّر يوما في سؤال غراب عن جدوى وجوده.
– أأنت خائف من بني البشر؟
سألته بهدوء.
– سترهق نفسك بالحديث دون طائل، حاول قبلك كثيرون، من تخال نفسك كي تستنطق غرابا؟
– يقال أن صوتك فأل سيّء، هلّا أنشدت على مسامعي أغنية ما. أرغب في إنهاء يومي غارقا في التّعاسة.
– الحديث معك مضيعة للوقت، لك طريقك فأكمل سيْرك. لن أتكلّم، لن أغنّي.
– انزعاجك لا مبرّر له، ستنشد لي أغنية ثم أنصرف إلى شؤوني.
– سأطير مبتعدا.
– مهلا، لنعقد اتّفاقا، ستغنّي أغنية الآن وبالمقابل، سأمنحك كتابا.
– لا أريد كتبا، لا أريد شيئا.
– كتاب حول الكسل، الكسل طريق مختصر للنجاح، فكّر مليّا بالموضوع. لونك يوحي بالكسل. هذا كتاب على مقاسك فعلا.
– أريد شطيرة بالفراولة والقشدة.
– لك ذلك.
– لكنّني لن أغنّي.
– هذا يبطل اتّفاقنا.
– سأرقص.
كانت تلك الإجابة مفاجأة، أن تشاهد غرابا يرقص أمر نادر الحدوث فعلا، بل مستحيل.
– لكنّني لن أرقص هنا. أردف الغراب.
– أين سترقص إذن؟
– نلتقي مساء، التاسعة مساء عند رصيف البحيرة. هات الشطيرة.
– بعد أن ترقص ستنال شطيرتك.
فكّر الغراب مليّا قبل أن يطير مبتعدا وهو يردّد، ” التّاسعة مساء “.
بعد الدّوام، عدت مسرعا إلى البيت. لم أنس موعدي مع الغراب الرّاقص. غريب فعلا أن أعقد اتّفاقا مع غراب. لست أدري إن كان سيحضر في الموعد المحدّد أو لا. ربّما يتساءَل هو أيضا عن مصداقيّة اتّفاقنا.
الثّامنة مساء توجّهت إلى المدينة العتيقة في أنسي. كانت تعجّ بالسيّاح الأجانب المبهورين بنقاء أجواء إقليم “سافوا العليا” الفرنسيّة. دخلت محلّا لبيع المرطّبات، طلبت شطيرة بالقشدة والفراولة. دفعت ثمنها وهممت خارجا.
– أتمنّى لك مذاقا طيّبا.
قالت صاحبة المحلّ ببهجة ومرح.
– شكرا، في الواقع لديّ سؤال، هل تعشق الغربان شطائر القشدة والفراولة؟
سألتها وأنا بصدد المغادرة.
تملّكتها غرابة طفيفة، وتلبّد وجهها بسحنة ارتباك. لم أنتظر جوابها، توجّهت مباشرة صوب رصيف البحيرة.
ادلهمّ المكان بظلمة شتويّة، مياه البحيرة ترتطم بلطف على الرّصيف الإسفلتي البارد. انتشر ضباب كثيف بين أعمدة الإنارة العموميّة والأشجار. كنت أقترب من مكان الموعد المنشود مع الغراب الرّاقص. بين الكراسي العموميّة الممتدّة على طول الرّصيف، جلست منتظرا مجيء الغراب. أطياف بشريّة تقترب مخترقة الضّباب، تلوح وتختفي كما تتجلّى الملائكة لمهوُوسين بالرّوحانيات.
لكنة صمت تجتاح المكان. سمعت تخبّط أجنحة في الظّلام. انطفأت أضواء الإنارة العموميّة تباعا ما عدا واحد، عمود إنارة بضوء خافت يرسل حوله شعاعا خفيفا ينعكس على الرّصيف مفسحا المجال لغراب.
جثم الغراب بلونه الدّاكن أسفل ضوء الإنارة وأخذ يجول بنظراته الحادّة بين الشّارع والرّصيف. وعندما لاحظ وجودي خفَق بجناحيه ثم هتف:
– اليوم سأرقص السّامبا.
كان راقصا بارعا، يتحرّك بخفّة بأجنحة متماوجة، خطوات مدروسة وقفزات رشيقة. استمرّ في الرّقص، لم أشاهد يوما رقصة السّامبا البرازيليّة أمامي مباشرة. عدا أنّني أشاهد للتّو غرابا بارعا في أدائها. ساقاه تندمجان في حركات متناسقة، يراوح بين حركات أجنحته وساقيه ببراعة.
مضت نصف ساعة منذ أن انهمك الغراب في الرّقص، توقّف فجأة وأحنى رأسه ملقيا التّحيّة. هدأ فجأة بعد أن كان يؤدّي رقصة السّامبا. كنت مستمتعا بمشاهدة الرّقصة، لم أرغب في أن ينهيها هكذا، دون سابق إشارة.
أطياف بشريّة تنهض من كراسي رصيف البحيرة، تصفيق حادّ يقصي لكنة الصّمت. أضاءت أعمدة الإنارة المكان في تتابع، كان نفر من المشاهدين يطوّق الغراب في فرح غامر. التقطوا معه صورا وقدّموا له شطائر القشدة والفراولة. لم أكن المشاهد الوحيد إذن.
لمحت صاحبة محلّ المرطّبات بين المشاهدين وهي تمازح راقص السّامبا.
اقتربت من الغراب بعد أن تفرّق من حوله المشاهدون وقدّمت له شطيرة القشدة والفراولة شاكرا إيّاه على أدائه المبهر.
– كان عرضا ممتعا، هل قايضك هؤلاء المشاهدون بشطيرة مقابل رقصة؟
سألته مازحا.
– الرّقصة كانت مكافأة لهم مقابل إصرارهم على استنطاق غراب.
أجاب وهو ينبش أكياس الشّطائر.
– ما جدوى استنطاق غراب؟ أضاف.
– لست أدري تماما، أعتقد أن للغربان جانبا إبداعيّا. هذا ما يدعو إلى الحيرة فعلا.
تركته آنذاك ورأسي يكاد ينفجر بأسئلة غريبة. وعدت إلى المنزل أحاول استيعاب منطق الغربان الرّاقصة.
في اليوم الموالي لم أجد الغراب في المكان الذي رأيته فيه. ترك ذلك في عقلي فراغا مبهما. توقّفت أستذكر حوارنا بالأمس. أمر مربك أن نقايض غرابا بشطيرة مقابل رقصة. لم أفهم جدوى حضوري لذلك العرض الاستثنائي. سقطت من محفظة أوراقي بطاقة دعوة لحضور كرنفال السّامبا البرازيليّة، تلقّفتها بسرعة. كانت دعوة خاصّة من شركة تعهّد حفلات قامت بتوزيعها على موظّفي الشّركة التي أعمل بها.
رأيت غرابا. ينبش بين الأعشاب على رصيف شارع الأمبريال. تمعّنت حركاته مليّا قبل أن أواصل طريقي إلى العمل.
ما جدوى استنطاق غراب؟ فكّرت.