*الصحبي العلاني
بعيداً عن منطق المفاضلة والتباهي، وعن نوازع التمجيد والمغالاة، فإنّ جلّ الدارسين يُجمعون إجماعاً شبه تامّ على أنّ معجم الحبّ في اللّسان العربيّ من أثرى المعاجم. يكفي أن نفتح كتاب “فقه اللغة وسرّ العربيّة” لأبي منصور الثعالبي (429 هـ)، حتى نتأكّد أنّ للحبّ مراتب وصفات “أوّلها الهوى، ثمّ العلاقة، ثمّ الكَلَف، ثمّ العشق، ثمّ الشعف (بالعين)، ثمّ اللّوعة، ثمّ الشغف (بالغين)، ثمّ الجوى، ثمّ التّيْم، ثمّ التّبْلُ، ثمّ التدليه، ثمّ الهُيوم”. وغير ما ذكره الثعالبي في كتابه كثير، كالخَبَل والصّبابة والصّبوة والغمرة والفتون والهُيام والبلابل والدَّنف والحرق… والقائمة تطول! ولكنّ اللافت للانتباه والباعث على الاستغراب أنّ هذا الكمّ الهائل من التشقيقات المعجميّة والتدقيقات الدلاليّة لا توازيه في مستوى الأخبار المنقولة والآثار المشهورة إلّا الخيبات والانكسارات! خيباتٌ وانكساراتٌ تعود إلى الحقبة ما قبل الإسلاميّة في ما رُوِيَ عن عنترة وعبلة، ثمّ في ما نُقل لاحقاً من حكايات لا حصر لها جَمَعت (أو بالأحرى فَرَّقت!) بين كثير وعزّة، وقيس وليلى، وجميل وبثينة، وابن زيدون وولّادة، وغيرُ هؤلاء “الأزواج” كثير!
(1899 – 1977)، وخلّد بها ومن خلالها شخص زوجته فيرّا سلونيم (1901 – 1991)؟
كتابة الحب.. بين الحليلة والخليلة
في ما نظَموا من قصائد وما حبّروا من نصوص، لم يتعوّد الشعراء والكتاب العرب أن يتّخذوا من زوجاتهم موضوعاً للإبداع أو مصدراً للإلهام، إلّا ما ندر. فنحن، مثلاً، لا نكاد نعرف شيئا عن زوجة أبي الطيب المتنبي (ت. 354 هـ)، وهو القائل: “وما كنتُ ممّن يَدخل العشق قلبَه/ ولكنّ من يُبصر عيونكِ يعشق”؛ وكذا الأمر مع الشريف الرضيّ (ت. 406 هـ)، وهو القائل: “أنتِ النعيم لقلبي والعذابُ له/ فما أَمَرَّكِ في قلبي وأحلاك!”؛ وأمّا الحصري القيرواني (ت. 488 هـ)، صاحب رائعة “يا ليل الصبّ متى غده/ أقيام الساعة موعده”، فإنّ حكايته مع زوجته أشهرُ من أن يقع التذكير بها وهي التي هجرته دون تطليق وفرّت منه بلا رجعة. وفي هذا السياق، أو بالأحرى في السياق المضادّ له تماماً، يمثّل الشاعر الأمويّ جرير التميمي (ت. 110 هـ)، استثناءً جديراً بالتأمّل والثناء. فقد أقدم على ما لم يُقدِم عليه أحدٌ قبله وعلى ما لم يَسِرْ على هديه شاعرٌ بعده وذلك حين رثى زوجته بقصيدته التي جاء في مطلعها “لولا الحياء لهاجني استِعْبارُ/ ولَزُرْتُ قبرَك والحبيب يزارُ”. ولكنّ هذا الاستثناء – بالرغم ممّا فيه من دلالة لا تخفى – ليس إلّا خَرْقاً للمألوف يدعم القاعدة ويؤكّدها بالخُلف.
وقد تفطّن النقّاد القدامى والدارسون المُحدثون إلى هذه الظاهرة، ظاهرة غياب الزوجات عن نصوص مبدعينا العرب (أو بالأحرى – وهو الأصحّ – ظاهرة تغييبهِنَّ) حتّى إنّهم صاغوا ما يُشبه “القانون العامّ” أو “القاعدة المُطّردة”. ومُلخّصُها أنّ شعراء العربيّة وأساطين النثر فيها لم يتعلّقوا بـ”الحليلة” مقدار تعلّقهم بـ”الخليلة”! وفرق ما بينهما أنّ الأولى (والمقصود بها الزوجة، أو الزوجات، وقد يتعدَّدْنَ، مَثنى وثلاث ورُباع) ظلّت غائبة عن النصّ رغم حضورها في واقع المبدع وفي حياته اليوميّة وعلى فراشه وبين أحضانه حضوراً يعترف به المجتمع ويُقرّه ويطمئنّ إليه؛ أمّا الثانية (والمقصود بها ذلك “الكائن الهشّ” الذي قد يكون جاريةً، مُلكَ يمين أو أمّ ولد، أو مجرّد “عشق ممنوع” و”وهم مستحيل”)، فليس لها من حضور سوى ما ترسمه خيالاتُ الشاعر أو معاني الناثر.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن المفارقة العميقة التي وسمت حياة العرب القدامى والقِسْم الأعظم من المُحدَثين: مفارقة الاعتراف السائد بـ”الحليلة” مُقيَّدةً بأغلال المجتمع التي تضيّق عليها وعلى قرينها الشاعر أو الناثر حدودَ الإبداع، ومفارقة “الكينونة الهشّة” التي تبدو عليها “الخليلة” مجرّد جارِية أو “فنتازما” عابرة.. بصرف النظر عن هذا وعن ذاك، فالمؤكّد لدينا أنّ كتاباً مثل كتاب نابوكوف، “رسائل إلى فيرّا”، لا يمكن إلّا أن يشكّل “حدثاً انقلابيّاً” بالنسبة إلى أيّ قارئ عربيّ قد تتاح له فرصة قراءته… لا لشيء سوى أنّه يعصف بذائقتنا الأدبيّة المستقرّة الثابتة ويتيح لنا أن نرى في الحليلة أكثر ممّا تعوّدنا أن نتخيّله وأن “نُفَنْتَزْمِي” عليه مع الخليلة!
نصف قرن من الرسائل.. وأكثر!
على امتداد نصف قرن ونيف، أي من شهر أيار/مايو 1923، تاريخ أوّل لقاء جمعهما في برلين عاصمة ألمانيا، إلى شهر يوليو/تموز 1977، تاريخ وفاته في مدينة لوزان السويسريّة، لم ينقطع فلاديمير نابوكوف عن الكتابة إلى فيرّا نابوكوف، زوجته، إلّا قليلا! وهذا ما يبدو غريباً، بل مجافياً لطبائع الأشياء وأصول المنطق! لا فقط من منظور ما استقرّ لدينا نحن العرب في علم اجتماع الأدب من تفريق بين وضعيّة الحليلة ووضعيّة الخليلة، بل من منظور الثقافة الغربيّة ذاتها. فممّا يُفترض في الزواج، أيِّ زواجٍ، أن يقوم على المُساكنة وعلى العيش المشترك اللّذيْن لا يحتاج فيهما أيّ من الطّرفيْن، لا الزوج ولا الزوجة، إلى اعتماد المراسلات وسيلةً للتواصل.
ولكنّ هذه الوضعيّة العاديّة المألوفة التي تحكم حياة جلّ الأزواج في مختلف الثقافات والأزمنة لم تكن كذلك حقّا بالنسبة إلى عائلة نابوكوف. ولا نعني بالعائلة هنا الزوجَيْن فلاديمير وفيرّا، تحديداً، بل نعني بذلك العائلة الموسّعة، أي والد فلاديمير ووالدته وإخوته ومن كان لهم نسباً وصِهْراً، كما نعني أيضاً العائلة الأوسع، أي الجالية الروسيّة التي اضطرّت إلى مغادرة البلد والاستقرار في برلين وغيرها من العواصم والمدن الأوروبيّة في أعقاب قيام الثورة البلشفيّة (أكتوبر/ تشرين الأول 1917)، قبل أن تُضطرّ مجدّداً إلى مغادرتها باتّجاه باريس ثمّ باتّجاه أميركا إثر اندلاع الحرب العالميّة الثانية (1939 – 1945).
والذي نستخلصه ممّا سلف توضيحه وبيانه أنّ حياة فلاديمير نابوكوف (سواء تعلّق الأمر بعائلته الصّغرى، أو بالعائلة الموسّعة، أو بالعائلة الأوسع) كانت محكومة بالترحال، منذورة للمنفى، مهدّدة بالاغتيال الذي طاول فعلاً والده فأرداه قتيلا في شوارع برلين، شهر مارس/آذار 1922، وظلّ يتهدّد من بعده كلّ نَفَسٍ حرّ وكلّ صوتٍ طليق يريد أن يختطّ لإبداعه أفقاً مغايراً للسائد.
فلا غرابة، إِذَنْ، والسياقان التاريخيّ والشخصيّ على ما وصفنا، أن يجد الزوجان فلاديمير نابوكوف وفيرّا نابوكوف نفسَيْهما في حكم “الزوجَيْن على الورق”، تقريباً، (إن صحّت العبارة، رغم قسوتها!). وذلك ما يبدو لدينا أقرب إلى الاحتمال، خاصّة في المرحلة بين سنة 1923 التي تعارفا فيها، وسنة 1925 التي ارتبطا خلالها رسميّا، وصولاً إلى سنة 1950. فعلى امتداد هذه المرحلة التي كتب فيها فلاديمير نابوكوف لزوجته فيرّا أكثر من تسعين بالمائة من الرسائل المنشورة في الكتاب، ظلّ إيقاع حياته قائماً على الترحال المستمرّ بين عواصم أوروبا ومدنها، بين برلين وباريس وبروكسيل ولندن وبراغ وفرايبورغ وستراسبورغ وكان وصقليّة. ليس له من هدف وراء ذلك سوى أن يجد ما يُقيم به أَوْدَ عائلته وأن يقِيَها شرور الجوع وآلام المرض الذي أصاب فيرّا وحكم عليها بأن تتنقّل بين المصحّات بحثاً عن علاج في ألمانيا على وجه الخصوص.
الرسائل.. الأدب.. الحياة!
ولكنّ هذه الحياة الأسريّة المضطربة التي عاشها الزوجان نابوكوف خلال مرحلة 1923-1950 (أو بالأحرى، هذه التي افترقا في جلّ ردهاتها ولم يجتمعا إلا قليلاً، على شوقٍ لا ينتهي وعلى أملٍ في لقاءٍ غير متوقّع وغير منتظر)، لا ينبغي أن تحجب عنّا الحياة الأخرى التي ظلّت تعتمل بينهما بشكلٍ لم نجد له نظيراً، لا عند الشاعر الفرنسي لوي آراغون (1897 – 1982) وأيقونته ذات الأصول الروسيّة إلزا ترييولي (1896 – 1970)، ولا عند جون بول سارتر (1905 – 1980)، وقرينته سيمون دي بوفوار (1908 -1986)، ولا عند غيرهم.
ولعلّ من أهمّ ما يستوقفنا في حياة آل نابوكوف، كما تكشف لنا عنها النصوص الواردة في كتاب “رسائل إلى فيرّا”، أربع خصائص نعتقد أنّها مميّزة فارقة:
أُولاها: أنّ نمط المراسلات كان على قدر كبير من التنوّع والاختلاف، سواء تعلّق الأمر بالمرحلة الأولى 1923-1950 أو بالمرحلة الثانية 1950-1977. فقد تتّخذ الرسالة حيناً شكل بطاقة بريديّة تحمل إمضاء مُرسِلها، وقد تكون أحيانا أخرى دون إمضاء. وقد يكون نصّها – تارةً – موسّعاً في حدود ما يحتمله نصّ البطاقة، وقد يكون مقتضباً لا يتجاوز الكلمات المعدودة. أمّا الرسائل – بالمعنى المتداول المألوف للكلمة – فقد تراوحت هي الأخرى بين طويل وقصير، وبين ممهور بالإمضاء وغير ممهور.
ثانيتها: أنّ هذه المراسلات، بصرف النظر عن الجانب الكميّ فيها، طُولاً وقِصَراً، ظلّت تُراوح بين أجناس شتّى من الكتابة لا حصر لها. ولا نعني بذلك توزّعها بين الشعر والنثر، بل نقصد – وهذا الأهمّ – اعتمادها أساليبَ وأنماطاً في الكتابة يعسُرُ الإلمام بها جميعا. ففيها من التوثيق نصيبٌ لا يخفى، ومن البوح مقدارٌ لا تخطئه العين، ومن دلع العشّاق وملاطفاتهم وتدليل بعضهم بعضاً ما لا نتخيّل غيابه عن مثل هذه المخاطبات. كما أنّ فيها من التبرّم بالحياة ومن شكوى الدهر ومن الدعوة إلى ضرورة الحذر من المستقبل ما لا نتوقّع أنّ نابوكوف أو فيرّا كانا ذاهلَيْن عنه…
ثالثتها: أنّ الرسائل، منظوراً إليها باعتبارها وحدةً كليّةً (آثرنا عند قراءاتها أن نتعمّد – إلى حين، ولغايات منهجيّة، لا غير – أن نتغاضى عن سياقاتها الزمانيّة وعن مقاماتها المكانيّة وعن تفاصيلها العَرَضيّة الحادثة)، تكشف لنا في العمق عن موقف فريدٍ أصيلٍ ظلّت فيه الكتابة بالنسبة إلى فلاديمير نابوكوف فعلاً من صميم الحياة بل عملا في جوهر الكينونة، لا مجرّد تدوين على الهامش أو تعليق على الحاشية. ولهذا السبب بالذات، فإنّ الرسائل – بصرف النظر عن طولها وعن قصرها، وعن الأنماط والأشكال التي ظهرت عليها – يمكن أن تُتّخذ مدخلاً إلى قراءة مدوّنة نابوكوف الأدبيّة من منظور تكوينيّ لا من زاوية تاريخيّة أدبيّة سطحيّة.
رابعتها، (وهي الأهم، بل إنّها الأكثر مدعاةً إلى الاستغراب والأبعث على الخيبة إلى حدود الحيرة!): أنّ كتاب نابوكوف هذا الذي يمتدّ على أكثر من ثمانمائة صفحة لم يتضمّن ولا حتّى رسالة واحدة كاملة من رسائل فيرّا!
صحيح أنّ بإمكان القارئ الفَطِن أن يتنبّأ – من خلال ردود نابوكوف – بما سبق لفيرّا أن كتبته له، وبما بادرت أحياناً عديدةً إلى تدبيجه من رسائل. ولكنّ السؤال يبقى مع ذلك قائماً دون جواب: لماذا خيّرت فيرّا أن تحتفظ برسائلها لنفسها بعدما استرجعتها من نابوكوف؟ لِمَ لَمْ تسمح بنشرها؟ لِمَ فضّلت أن يكون صوت الشاعر والروائيّ والقصّاص والمترجم والناقد، زوجِها، الصوتَ الطاغِيَ، بل الصوتَ الوحيد؟
أسئلة عديدة مُحيّرة لا حصر لها تحضُرنا في هذا المقام، مقام الخاتمة. أسئلة تعود بنا إلى جدليّة الحليلة والخليلة، وإلى لعبة الخفاء والتجلّي، وإلى بوح شهرزاد الذي يسحبنا مع متعة الحَكْيِ ثمّ لا يلبث أن يُذيقنا “مرارة العزل” مع انبثاق الصباح وامتناع الكلام المباح! ومهما يكن من أمرٍ، فمن المؤكّد أنّ رسائل نابوكوف إلى فيرّا لم تكن إلا إلى فيرّا ولا أحد في “الفنتازما” غيرها… وسواء أكان بعيداً عنها أم قريباً منها، فكلّ ما كتب كان لأجل عينيْها.
_______
*ضفة ثالثة