د. حورية الظل
الفن والثقافة من الوسائل الأكثر نجاعة وفاعلية في الدفاع عن الحريات، والفنان في كل زمان ومكان مدعو من خلال أعماله للتعبير عن الحب والجمال والعدل. وعندما يتعلق الأمر بالاضطِّهاد، فإن الفن لا يظل محايداً، وإنما يبري أدواته ليكشفه ويندد به، ويفضح تجاوزات المضطهِدين ويعبر عن آلام المضطهَدين ويتحدث بصوتهم، خاصة أنهم لا صوت لهم، فيستحضر الفنانون قسوة الاضطِّهاد في أعمالهم، لتكون الرسالة أقوى وأبلغ أثراً لدى المتلقي، وليكشفوا بطرق بليغة عن معاناة هؤلاء المضطَّهَدين في الأرض.
الفن ونبذ الاضطِّهاد
يتخذ الاضطِّهاد أشكالاً شتى، فنجده يتمثل في العنصرية والتمييز وممارسة العنف ضد النساء والأطفال، أو اضطِّهاد الأقليات، أو اضطِّهاد شعب بأكمله من قبل المستعمر، أو اضطِّهاد المختلف في الديانة والمعتقد. والاضطِّهاد موجود عبر التاريخ ومن سلبياته الفادحة، أنه يمس إنسانية الإنسان، ونتائجه دائماً قاسية على المضطهَدين، وبما أن الفن التشكيلي وُجِد من أجل التعبير عن الواقع بأشكال شتى، وينحاز للقضايا الإنسانية، فإن الفنان التشكيلي لا يظل محايداً أو خارج التجربة لما يتعلق الأمر بالاضطِّهاد، فينبري للتنديد به والدعوة لنبذه، لذلك نجد الكثير من الفنانين التشكيليين يكرسون العديد من أعمالهم للتعبير عن آلام المضطهدين، وإسماع صوتهم وتخليد معاناتهم، وهذه الأعمال نوع من الإدانة للاضطهاد ودعوة صريحة لنبذه، وما تخليده من خلال الفن إلا ليبقى وصمة عار، وصك إدانة في وجه الطغاة والجلادين أينما وجدوا.
وبذلك يصبح الاضطِّهاد وما يرافقه من عنف من الأمور التي تستفز الفنان التشكيلي وتحثه على التصدي له والانحياز لضحاياه، فيستحضره في تجلياته القاسية، ويمكِّن المتلقي من التواصل مع معاناة المضطهدين جمالياً، لتسليحه بوعي يجعله قادراً على التساؤل عن مصدر الاضطِّهاد وبالتالي البحث عن الحلول له، فيسهم بذلك في التغيير بعدما تكون الأعمال الفنية قد نبهته لخطورة هذا الاضطِّهاد والانتهاكات المترتبة عنه.
والتاريخ ملطخ بفترات سوداء من الاضطِّهاد التقطها الفنانون التشكيليون ببراعة، وخلدوا بعض لحظاتها في لوحاتهم أو منحوتاتهم، وما يمكن ملاحظته أن الكثير من الفنانين التشكيليين عبر التاريخ وصولاً إلى اليوم لم يتأخروا عن نصرة المضطهَدين من خلال أعمالهم الفنية، فالتجؤوا إلى عدة طرق لإظهار معاناة هؤلاء، خاصة أن رسالة الفن هي التعريف بالقضايا الإنسانية، والاضطِّهاد من أكثر القضايا التي تحشد تعاطف الفنانين التشكيليين فيقومون بالتعبير عن أوجهه الظالمة والمنافية لكل عدالة، لأن الاضطِّهاد وما يرافقه من عنف يستفز الفنان ويحثه على التصدي له في كل زمان وفي كل مكان.
أعمال فنية ضد الاضطِّهاد
يخبرنا التاريخ عن فترات قاتمة تسيَّد فيها الاضطهاد المصحوب بضراوة العنف الفادحة التي مورست على المضطهدين، وحتى وقت قريب، القرن التاسع عشر، كان الاضطهاد المقرون بالتعذيب والإعدام يتم في العلن، وهذا ما تكشفه الكثير من الأعمال الفنية، خاصة تلك التي تصور الإعدامات بالصلب أو الشنق أو حرقاً أو رمياً بالرصاص، فالاضطهاد تُمنح له الشرعية لما يمارسه أصحاب السلطة ضد الفئة الضعيفة، وما مورس ضد المسيحيين الأوائل من تعذيب وقتل لا يزال حياً في لوحات الرسامين، فقد تعرضوا للاضطهاد وتم تعذيبهم وقتلهم بطرق بشعة فتم إطعام بعضهم للضواري أو تم دفنهم أحياء، ولقد صور الفنانون إعدام الكثيرين منهم، فصنعوا لهم التماثيل أو رسموا عذاباتهم على جدران الكنائس، وحظيت عملية صلب المسيح بالنصيب الأوفر من اهتمام الفنانين، وأُنجزت في عصر النهضة الكثير من الأعمال التي تمثل الاضطهاد الذي تعرض له المسيحيون الأوائل من قبل فنانين كبار كرافاييل وألبرخت دورر وليوناردو دافنشي، وكمثال على ذلك لوحة رافائيل التي تجسد استشهاد السيد المسيح التي أنجزها سنة 1507. ولوحة للفنان الألماني ألبرخت دورر (1471 – 1528) تمثل إعداماً جماعياً لعشرة آلاف مسيحي، وتم إنجازها بتكليف من فريدريك الحكيم سنة 1508. أيضاً ألهم اضطهاد المسيحيين الرسام والمستشرق الفرنسي جان ليون جيروم فصورهم في بعض أعماله، ومنها لوحته التي تصور الصلاة الأخيرة لمسيحيين خلال إحدى حفلات التعذيب في الكوليسيوم أي المسرح الروماني، حيث صور كيف كانوا يُلقون للضواري أمام حشد غفير من المتفرجين.
وبعد سقوط الأندلس في يد الصليبيين ذاق المسلمون صنوف العذاب والاضطِّهاد، فجردوا من ممتلكاتهم وتم تخييرهم بين اعتناق المسيحية أو قتلهم أو ترحيلهم عن ديارهم، فاضطر الكثيرون إلى كتمان إسلامهم والتظاهر باعتناق المسيحية، فأقيمت محاكم التفتيش حيث أُعدم الكثير من المسلمين بطرق بشعة، مع ذلك، لم يلتفت الفنانون لهذا الاضطهاد، ولم يلق نصيباً من الاهتمام إلا نادراً، حيث ظهر في بعض الأعمال الفنية، وفي الوقت الذي ظن الإسبان بأن الحملة الفرنسية التي قادها نابليون في بداية القرن التاسع عشر ستكون تنويرية بعدما انتهت محاكم التفتيش ضد المسلمين، حيث أصدر نابليون مرسوماً يلغي دواوين محاكم التفتيش سنة 1808م بدأ فصل آخر من الاضطهاد تمثل في اضطهاد الفرنسيين للإسبان، وقد صور ذلك الفنان الإسباني فرانشيسكو دي غويا في عدد من أعماله الفنية، ومنها لوحة «الإعدام رمياً بالرصاص»، التي أنجزها سنة 1814م، وهي تصور إعدام الثوار الإسبان بعدما ثاروا على الاحتلال الفرنسي لبلدهم.
الفن واضطهاد المرأة
نالت المرأة القسط الأكبر من الاضطهاد عبر التاريخ ولا زالت عرضة لذلك إلى اليوم، وما العنف ضد النساء إلا واحدة من صور ذلك الاضطهاد الذي لا زالت فصوله مستمرة، وبما أن النساء هن الفئة الأكثر عرضة للاضطهاد عبر التاريخ، فإن الفن التشكيلي نقل معاناتهن من خلال الكثير من الأعمال الفنية، وكمثال على ذلك، اضطهاد النساء في العصور المظلمة في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر للاعتقاد السائد وقتها بأنهن مصدر الشرور. وقتذاك، تم إعدام كل من اتهمت بأنها ساحرة، لأن السحر في معتقدات تلك الفترة يؤدي إلى نشر الأمراض والأوبئة. كان الإعدام يتم بطريقة بشعة، حيث يتم حرق المتهمات أمام الجمهور في الساحات العامة، وقد أحرقت الكنيسة 25 ألف امرأة لكي تحافظ على مصالحها، وقام الكثير من فناني عصر النهضة بتصوير ذلك في بعض أعمالهم الفنية.
ومن الأعمال التي رسمت اضطهاد المرأة لوحة «الشهيدة الشابة» للفنان الفرنسي بول ديلاروش (1797- 1856) التي أنجزها بين 1854 و1855، وجاء في رسالة لبول ديلاروش حول اللوحة: «إنها شهيدة رومانية شابة عاشت في عهد حكم دقلديانوس الروماني، وامتنعت عن عبادة الآلهة المزيفة، فتم تقييد يديها وإلقاؤها في نهر التيبر، وهي تبدو طافية ووجهها إلى الأعلى فيما تحوم فوقها هالة نورانية تنير وجهها، وكما هو معروف فإن دقلديانوس الذي اعتلى العرش الروماني سنة 284 م اضطهد المسيحيين وأصدر أوامره بقتل عدد كبير منهم بلغ حدود الألف مسيحي.
في الفن التشكيلي المعاصر
وفي الفن المعاصر، نجد الكثير من الفنانين التشكيليين صوروا اضطهاد النساء في لوحاتهم ومن هؤلاء: آمال عبود ومن أعمالها لوحة زواج القاصرات، والفنان السعودي ضياء عزيز ضياء ومن أعماله «أم مقتولة يحيط بها طفلاها»، وهي تمثل اضطهاد المرأة الفلسطينية الذي يصل حد استشهادها، بالإضافة إلى العديد من الفنانين عبر العالم اختاروا التعبير عن الاضطهاد الذي يلحق النساء وأدانوا ذلك في أعمالهم الفنية.
ويتخذ تصوير الاضطهاد أشكالاً شتى، فقد يعبر عنه الفنان من خلال المنحوتة أو اللوحة أو الجدارية أو أعمال التجهيز في الفراغ. ومن الفنانين التشكيليين العرب المعاصرين الذين أسسوا مشروعهم الفني على ثيمة الاضطهاد، الفنان الجزائري عادل عبد الصمد، حيث التقط سوداوية الاضطهاد وأعاد صياغته في أعماله، ونظم العديد من المعارض حول الموضوع، وهو يعيش بين فرنسا ونيويورك ويسعى جاهداً إلى جعل الفن المعاصر وسيلة للتغيير، ومما قاله عن الفن الذي يصور الاضطهاد: «لا يوجد جمال دون صدمة ودون تشنج»، وله العديد من الأعمال حول الموضوع، منها: «أمل»، وهو عبارة عن قارب كان يُستخدم لنقل المهاجرين السوريين الباحثين عن حياة جديدة، وقد ملأه بأكياس سوداء تشبه أكياس القمامة، وهو تعبير عن مصير المهاجرين السوريين واللاجئين الذين ينتهي بهم المطاف في أكياس المشرحة السوداء التي تستعمل كفنا لهم وهي شبيهة بأكياس القمامة، وله عمل آخر في نفس السياق يمثل عملية الصَّلب وقد صنع المصلوب من الأسلاك الشائكة دلالة على الدرجة القصوى للعنف الممارس في حق من يتم اضطهادهم لدرجة الموت.
كما نجد الاضطهاد الذي تعرض له السوريون والعراقيون في السنوات الأخيرة، فمنهم من قتل، ومنهم من هُجِّر لبلدان اللجوء لتبدأ هناك رحلة اضطهاد أخرى، وحتى الذين ظلوا بالوطن لم يسلموا من قسوة الاضطهاد الحامل لملامح الكارثة الذي أفضى لفظائع شتى، كالحرب وفقدان الممتلكات وفقدان الحياة في كثير من الأحيان، وقد أفرز ذلك نخبة من الفنانين التشكيليين الشباب قاموا بترجمة ذلك إلى أعمال فنية ومنهم: يوسف عبدلكي وفادي يازجي وربيع كيوان ومحمد قريش وغيرهم كثير.
وآخر فصول الاضطهاد تلك التي تنقلها لنا الصورة الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو طازجة، في زمن أصبحت فيه الصورة تجوب العالم عبر وسائط التواصل والشبكة العنكبوتية ونشرات الأخبار، ومسلمو الروهينغا بميانمار خير مثال على ذلك، لما يتعرضون له من اضطهاد ديني وعرقي يتمثل في التمييز والقتل والتهجير، ينضاف له التجاهل الدولي، الأمر الذي يؤكد بأن الاضطهاد ببشاعته الفادحة باقياً ما دام الإنسان على وجه الأرض، لكن دائماً هناك من يواجهه ويدينه، والفنانون التشكيليون يقومون بذلك على أحسن وجه من خلال أعمالهم الفنية التي تواجه الاضطهاد وتحشد الإدانة ضده.
_______
*الاتحاد الثقافي
مرتبط